Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
الملف
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

البحث عن المعرفة
حسن فرحان المالكي

 

 

إن جاز على منهج الأستاذ العقاد، أن نبحث عن مفتاح شخصية الدكتور راشد المبارك فلن نجد غير (البحث عن المعرفة).. مفتاحاً أنسب لشخصيته..

فهو مع المعلومة الصحيحة مع مَنْ كانت.. وفي أي حقل من حقول المعرفة كانت.. وليس عنده حقل معرفة قليل الفائدة.. بل كل الحقول المعرفية لها الأهمية نفسها إذا أحسن المتلقي للمعرفة توظيفها بما يخدم الهم العام للمعرفة الإنسانية..

لذلك تتشعب اهتماماته المعرفية من الأدب والشعر للعلوم الطبيعية من كيمياء وفيزياء للرياضيات، للفلك، للفلسفة... الخ.

وأفضل من اهتمامه بالمعلومة (التي هي مفردة من مفردات المعرفة) هو قدرته الكبيرة على توظيف هذه المعلومة أيا كانت.. في همِّه العام الذي يعرفه كل من خالطه، ألا وهو (كيفية التخلص من هذا التخلف عند المسلمين) أولاً، ثم المشاركة في الإضافة للحضارة الإنسانية عامة.. للوصول بها إلى مستقبل أفضل..

وعندما أقول إن معلومات راشد المبارك لا تجدها محصورة في جانب معرفي دون آخر.. لا أعني من هذا الكلام أنه محيط بجميع العلوم.. كلا.. لكن لا تكاد تجد علما إلا وهو ممسك بتلابيبه..! أعني معرفة الخطوط العريضة والكليات العامة والمفاصل المؤثرة في ذلك الحقل المعرفي.

فمثلا (علم الحديث) هو لا يعرف تفصيلات أهل الجرح والتعديل، ولا يعرف تشددات شعبه، ولا ضبط سفيان الثوري ولا تدليس الوليد بن مسلم، ولا تصرف البخاري في الألفاظ ولا تساهل الحاكم في التصحيح.. ولا يعنيه هذا كله،... لكنه يستطيع أن يناقش في الكليات العامة، فيفهم معنى (السنة) بأفضل مما يعرف هؤلاء، ويعرف تاريخ التدوين وما شابه من قصور طبيعي، وما يعتري الرواية الشفهية من عيوب اضطرارية، وما يؤثر في هذا العلم من مناخات سياسية ومذهبية، ويورد من الإشكالات والأسئلة التي تحد من هذه اليقينية (غير العلمية) التي يطمئن إليها قلوب أهل التخصص.. ليبقى للظن دوره في الأخذ والرد، أو الترجيح والتضعيف.

العلم بالكليات، بفلسفة كل علم، يحصن الشخص، حتى لا يذهب إلى النهاية ثم لا يجد إلا الأوهام أو قريبا منها، وهذا ما يفعله الدكتور راشد المبارك.. فهو إن ضبط فلسفة العلم وكلياته أغنته تقريبا عن النظر في تفاصيله.. إذ لو نظر في تفاصيله لن يجد إلا ما يؤكد يقينه في المقدمات والخطوط العريضة التي اعتقدها أولا..

وهكذا في بقية العلوم التي لم يتخصص فيها أو لم يوليها القدر نفسه من القراءة والبحث.. إذ إن عنده المفاتيح الكلية التي تغنيه عن الخوض في التفصيلات التي هي فروع لتلك الكليات.. فإن ثبتت الكلية أثبتت ما بعدها، وإن كانت هزيلة فلماذا البحث في التفاصيل؟!

لا أريد أن أذكر بعض الحوادث والقصص التي تدل على اهتمامه بأي موضوع اهتماما يفوق كثيرا من اهتمامات أصحاب الشأن في الموضوع ذاته.

الجميل في الدكتور راشد المبارك أنه لا يسير وفق تيار معين.. ولا ينتمي لأي من السياقات الفكرية الموجودة على الساحة.. فلا تستطيع أن تصنفه في أهل الليبرالية ولا الإسلاميين ولا القوميين.. سبق أن قلنا هو مع المعلومة.. وهو يعتد بمعلوماته لذلك قد تصدر منه أفكار يراها المتحاور معه غريبة.. لكن ما إن يسرد أدلته في الموضوع حتى تتهاوى عندك المعلومة الموروثة التي تسمعها من كل الناس..

فلذلك نجد عنده بعض الأفكار التي اقتنع بها ولا يخشى معارضة الجمهور العام من الناس.. لسبب يسير وهو أنه لا يحب أن يقول إلا ما يقتنع به وتدعمه المعلومات الصحيحة..

لذلك لا تستغرب إن وجدته غير مؤمن ببلاغة الشعر الجاهلي ولا بشاعرية المتنبي ولا نزار قباني ولا علمية تدوين السنة ولا ضرورتها أصلا، إلا السنة العملية المتوارثة عبر الأجيال التي فيها تفصيل لبعض العبادات.. كما تستغرب أيضا عندما يرى أن بدوي الجبل أشعر شعراء العربية على الإطلاق.. لا يدانيه لا امرؤ القيس ولا المتنبي ولا أبو تمام.. وإذا لم تعترف فسيذكر لك من الشواهد ما يجعلك تتفاجأ بهذه الحافظة القوية قبل أن تتفاجأ بدقة المقارنات.

والرجل له حافظة قوية، ويكفي حفظه للقرآن الكريم، وجملة وافرة من الشعر، وجملة أوفر من النظريات العلمية، مع قوة في اللغة - لا يكاد يلحن - وأغرب من هذا هي آراؤه السياسية التي يظن البعض أنها تمشي في السياق الاجتماعي العام.. وأذكر على هذا مثال، ففي أحد اللقاءات كان شديد الدفاع عن (حزب الله) بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، في وقت كان الحاضرون أو أكثرهم من تيار متأثر بالجو الطائفي السياسي العام الذي فهم منه هؤلاء الإخوة أنه يجب أن توقف الموقف السلبي من حزب الله.. فلا تحركه المواقف الشعبية ولا الطائفية ولا الأجواء الملبدة.. هو خلف المعلومة لا خلف السياقات الفكرية ولا التيارات السياسية والمذهبية.. يغضب منه هذا التيار في فكرة ويرضى عنه في أخرى.. وهذا شأن الباحث عن المعرفة.. يعيش معها وينميها ويصقلها.

الدكتور راشد إضافة إلى ما سبق له من الصفات النبيلة حظ وافر من حسن الاستماع وحسن التعبير عن الفكرة والمقدرة على ستر أخطاء محاوره بلباقة عالية إلى اقتناص المعلومات الواردة عرضا في كلامه، ولو كانت غير مقصودة! ليبني عليها ويضيف لها الأسس التي تبقيها قائمة لا تخشى العواصف.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة