Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
الملف
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

خواطر إعجاب ووفاء
فيصل بن عبدالله السويدي

 

 

عن أستاذنا الدكتور راشد المبارك أصبحت في حيرة من أمري، وتبع ذلك شعور بتقزم همتي أمام بحر لا شطآن له فيدرك، ولا منتهى لعمقه فيُسبَر غوره، وطود شامخ منيع الارتقاء ورمز ثقافي متعدد السمات، كبا قلمي وبقيت برهة من الوقت تساورني تلك الأحاسيس حتى تَدَاركَتْ قلمي روحُ الوفاء فأخرجته من دوامة الوجل والحيرة فنهض من كبوته، ثم تركته على سجيته دون أن أكبح جماحه فبدأ القلم يسرد موقفا إنسانياً أراه لزاما علي أن أستهل به حديثي، وذلك عندما سمع الدكتور راشد المبارك باعتلال صحة والدي -رحمه الله- بادر بزيارته وعندما وصل إلى منزل والدي -رحمه الله- أخبرته بأن والدي ازداد عليه العارض الصحي، ونقل إلى المستشفى، فطلب مني أن أذهب به إلى مكان إقامته في المستشفى ليطمئن على صحته، وحال وصوله إلى السرير الذي يرقد عليه والدي -رحمه الله- دار بينهما حديث حاول الدكتور راشد أن يخرجه من أزمة المعاناة، وأن يرفع مع معنوياته ولا تزال تفاصيل ذلك الحديث راسخة في ذاكرتي، وبعد أن انتقل والدي إلى رحمة الله وقف معي طيلة أيام العزاء ليواسي مصابي الجلل رغم المشاغل الأسرية والاجتماعية والعلمية التي تكتنف أبا بسام، إلا أن الوفاء الأخوي تغلب على هذا وذاك، ولا أمالك من هذا الموقف النبيل إلا أن أتمثل قول الشاعر:

أنت الذي تأخذ الأيدي بحُجزته

إذا الزمان على أبنائه كلحا

وكّلتَ بالدهر عينا غير غافلة

من حسن خُلقِك تأسو كل ما جرحا

وحينما أتطرق للحديث عن جانب العلم والثقافة، أجده موسوعيا في شتى العلوم والمعارف، عبقريا في تجلياته العلمية، عميق التفكير ما إن ترهف سمعك وهو يتحدث في مسائل علمية أو ظواهر ثقافية بحديث شجي عذب إلا وتجد عقلك قد خرج من شرنقة التخصص وحلَّق في فضاء رحب من المعارف والعلوم، مسلِّماً بما يدلي به من حقائق علمية مدعمة بالبراهين التي تعز في بعض الأحايين على المتخصص؛ فهو ليس عقلاً واحداً ولا ثقافة واحدة إنه أشياء عدة في جسد واحد.

جعل من منزله مهيعا ثقافيا ومحفلا علميا يلتقي فيه مساء كل أحد جمع من المثقفين والمفكرين، وتدار فيه محاضرة معدٍّ لها من قبل متخصص، وبعدها يفتح المجال للنقاش الهادف البناء لإثراء الموضوع وتسديد ما اعتراها من قصور إن وجد ذلك إنها دوحة علمية تتلاقح فيها الأفكار وتتقارب فيها الرؤى وتتدفق فيها المعلومات التي تسلح العقل وتحصن النفس في زمن ترتكز معايير نموه وتطوره على العلم ولا شيء غيره.

أما أمته فهي تشغل في قلبه حيزا بحجمها الجغرافي، وقد دل على ذلك إنتاجه العلمي الذي تعرض لكثير من الأدواء التي تهيمن على ثقافتنا أو نمط تفكيرنا بتشخيص الأدواء وتقديم الدواء المناسب لحل تلك المعوقات التي تشل من تحركنا نحو النهضة، والتقدم في ميادين الحياة تجد ذلك في كتابه (فلسفة الكراهية)، وكتابه (التطرف خبز عالمي)، وكتابه (قراءة في دفاتر مهجورة)، كما تجلت روح الانتمائية والإخلاص لأمته في الجهد الذي بذله ليوقف جراحها الدامية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وقد ذكر ذلك بالتفصيل في الحوار الذي أجري معه في القناة الإخبارية.

ولم نفقد تلك الجهود التي يتفانى فيها من أجل أمته في أحداث العراق عندما كتب خطابا ووقع عليه لفيف من العلماء والمفكرين في أرجاء العالم الإسلامي ووجهه لممثل الطاقة النووية محمد البرادعي وطلب منه أن يُحكم عقله وضميره، ويبين له أن تقريره ضد العراق سيكون جناية على شعب بأكمله وليس على فرد بعينه.

ولا يسعني إلا أن أختم حديثي بكلام اقتبسته من كتابه (فلسفة الكراهية) يكشف عن انصهار الدكتور راشد المبارك في واقع أمته وهيمنة قضاياها على ملكة تفكيره وسويداء فؤاده؛ حيث يقول: (هذا اجتهاد مجتهد معايش لحال أمته لا يستطيع أن يكف نفسه عن التألم لألمها، كما لا يستطيع أن يفصل ذاته عن واقعها على أنه ينأى بنفسه عن أن يزعم الانفراد بسداد الرأي أو امتلاك كل الحقيقة).

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة