Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
فضاءات
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

قراءات في الاختلاف الثقافي (1)
سعد البازعي

 

 

شهد العقدان أو الثلاثة الأخيرة اهتماماً متزايداً بظاهرة الاختلاف الثقافي بين المشتغلين في حقول الفكر والدراسات الأدبية. نقاد متخصصون في آداب مختلفة، وفي الدراسات المقارنة بشكل خاص، بالإضافة إلى مفكرين وفلاسفة وغيرهم كثير، كتبوا عما يميز ثقافة دون أخرى واسترعى اهتمامهم أن هذا التميز أو الاختلاف ينعكس على طرق التفكير وطرائق الإبداع، كما أنه وإن لم يحدث قطيعة بين الثقافات أو يقلل من أهمية المشتركات الإنسانية الكثيرة فإنه جدير بأن يؤخذ بعين الاعتبار حين نسعى إلى فهم أفضل لتركيبة كل ثقافة أو وإلى استيعاب أفضل لمنتجاتها المختلفة. ولا شك أن توجهاً كهذا لا يسعى إلى مجرد التقاط أوجه التشابه بين الأعمال الأدبية في لغات أو ثقافات مختلفة، أو إلى البحث في علاقات التأثر والتأثير المألوفة، من شأنه أن يوجه الدراسات المقارنة نحو آفاق مغايرة وضرورية في الوقت نفسه بعد أن وصلت تلك الدراسات المقارنة إلى مناطق اختناق تكاد تهدد مستقبلها. هذا بالإضافة إلى كون ذلك البحث نتيجة متوقعة لتزايد موجة العولمة الثقافية إلى الحد الذي بات يهدد قدرات الثقافات غير الغربية على تحقيق استقلالها وتميزها.

من ناحية أخرى يمكن النظر إلى التوجه البحثي المشار إليه بوصفه ناتجاً عن تطورات في الفكر الغربي المعاصر أسفرت عن مراجعة جذرية لكثير من المفاهيم التي كانت قارة في صلب ذلك الفكر، إلى جانب ما تضمنته من مقاومة لاتجاهات فكرية تخدم التمركز الغربي على المستوى الثقافي ومنها:

أولاً: المساءلة التي استهدفت مفهوم التنوير وما استند إليه من تمركز أوروبي يماهي بين ما هو أوروبي وما هو عالمي وإنساني. وكانت تلك المساءلة جزءاً مما طرحه بعض مفكري مدرسة فرانكفورت، خاصة أدورنو وهوركهايمر في نقدهما لما سمياه (جدل التنوير).

ثانياً: فكر ما بعد الحداثة الذي جاء ليوجه الفكر الحداثي نحو المشكلات التي ينطوي عليها ذلك الفكر بإبراز مشكلات العولمة الاقتصادية والثقافية والتنبه إلى أهمية التعددية المتنامية وبرفضه ما يعرف بالحكاية الرئيسة master narrative بما ينطوي عليه من تمركز منطقي. ويدخل في هذا السياق ما طرحه الأمريكي جيمسون والفرنسي ليوتار بالإضافة إلى الأطروحة التقويضية عند دريدا وغيره.

ثالثاً: النقد ما بعد الاستعماري أو ما بعد الكولونيالي الذي صدر في مجمله عن نقاد ومفكرين آسيويين وأفارقة أو من أصول آسيوية وإفريقية سواء كانوا يعملون في الغرب أو خارجه وبغض النظر عن تخصصاتهم. هذا بالإضافة إلى بعض الجهود الفكرية والنقدية العربية التي وعت عمق المأزق الذي ينطوي عليه الفكر التنويري العقلاني بشكله التقليدي وسعت إلى تجاوزه بإعادة النظر في بعض أطروحاته الأساسية ومنها ما يتصل بمناهج التفكير.

التوجه البحثي الذي أشير إليه لا ينتمي بالضرورة إلى أي من التوجهات المشار إليها، وإنما هو يتصل بها وربما استفاد منها بشكل مباشر أو غير مباشر في مساءلته لبعض مسلمات الدرس المقارن. وسيتضح من تناول بعض آراء أولئك النقاد أن أطروحاتهم تلتقي مع بعض ما يطرحه مفكرون ونقاد غربيون غير من أشرت إليهم مسبقاً الأمر الذي يؤكد أن ملاحظة الاختلاف الثقافي ليست مقتصرة على نقاد غير غربيين أو على توجهات نقدية وفكرية غربية محددة. فأولئك المفكرون والنقاد لم يثنهم انتماؤهم الغربي عن ملاحظة الفوارق الثقافية وما تنطوي عليه النظريات والفلسفات من اختلاف ثقافي دعوا إلى الصدور عن وعي به وصولاً إلى رؤية أكثر توازناً ودقة في تحليل وفهم الثقافات المختلفة. هذه الآراء الأخيرة هي ما أود البدء به تأصيلاً للأسس النظرية في استيعاب الاختلاف الثقافي.

من الأطروحات المشار إليها ما نجد لدى الفيلسوف الألماني هانز غورغ غادامير المعروف بدراساته المتصلة بالتأويل أو الهرمنيوطيقا. يتحدث غادامير عن التفسير عبر الثقافي فيؤكد أن عملية التفسير والفهم حين تتجاوز حدود الثقافة الواحدة فإنها لا تتم دون تقبل الأفكار المخالفة أو النابعة من الاختلاف بين الثقافات، بمعنى أن الاختلاف الثقافي من العمق والأهمية بحيث يصعب تصور عملية تفسير عبر ثقافية دون أخذ ذلك الاختلاف بعين الاعتبار. وينطلق غادامير من تلك القناعة الأساسية لينتقد ما قامت به الثقافة الأوروبية من تدمير للتعددية الثقافية على مستوى العالم حين فرضت رؤية واحدة، أو حين سعت إلى ما نعرفه الآن بالعولمة الثقافية. تلك التعددية هي ما ينطلق منه الباحثون الآسيويون كما سنرى، لكن قبل الدخول في ذلك يمكن أن نشير إلى مواقف نظرية غربية مشابهة لما نجد لدى غادامير.

أحد أصحاب تلك المواقف هو الناقد الأمريكي ج. هلس ملر الذي يتحدث عن ترجمة النظريات النقدية الأدبية، أي انتقالها من حيز ثقافي إلى آخر، فيلاحظ أن ذلك الانتقال لا يتم بالسهولة التي تبدو للبعض، وإنما يقتضي جهداً كبيراً ناتجاً عن كون النظرية تظل مشدودة إلى البيئة الأصلية التي تنامت فيها. يقول ملر، وهو الناقد الذي انتقل بين عدة نظريات نقدية ابتداء بفينومينولوجية هوسرل وميرلو بونتي ومروراً بالمنهج التقويضي الديريدي: (عندما تترجم النظرية أو تنقل، عندما تعبر الحدود، فإنها تُحضر معها ثقافة من أسًّسها). ومعنى ذلك، كما يقول الناقد الأمريكي، أن جهوداً ضخمة من الترجمة ضرورية لفك تركيب نظري معين من أصوله اللغوية والثقافية، على افتراض أن هناك من يريد أن يفعل ذلك. وفي الحقيقة قد يكون ذلك من المستحيل. هذه النتيجة تعيد تأكيد ما سبق أن توصل إليه إدوارد سعيد الذي يشير إليه ملر في بداية مناقشته لتحيز النظرية. فسعيد في مقالة بعنوان (النظرية المهاجرة) (Traveling Theory) يرى أن النظرية تتغير بتغير البيئة التي تنتقل إليها حتى ضمن السياق الحضاري الواحد، وهو هنا السياق الحضاري الغربي. غير أن ملر يبدو أكثر تشدداً في مسألة التحيز التي يراها أكثر تجذراً وأنها بالتالي تعني مزيداً من الصعوبة في إعادة تبيئة النظرية، فهو يتحدث عن جهود ضخمة من الترجمة لتحقيق تلك التبيئة.

ما قاله ملر جاء في إطار الحديث عن الترجمة، ترجمة الثقافات عموماً، والنظرية الأدبية تحديداً. آخرون نظروا إلى المسألة من زاوية الدراسات المقارنة التي تصب في الإناء نفسه في نهاية المطاف. من أولئك الناقد الألماني إرلخ فايشتاين الذي يرى صعوبة أن تتم المقارنة بين عملين أدبيين من سياقين حضاريين مختلفين، أي أن تجاوز اللغة إلى التشكيل الحضاري بأكمله يجعل المقارنة غير متصورة، كما يقول.

***

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة