Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
فضاءات
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

سقوط الأقنعة في (جاهلية) ليلى الجهني «2»
د. لمياء باعشن

 

 

يظهر النص تمرداً نسائياً ضد المرأة، فمواقف والدة البطلة تشكل مفارقة يلحظها معجب الزهراني قائلاً: (الأب الذي عادة ما يمثل ثقافة الرجل ويحتكر سلطاته في بيت العائلة يبدو متسامحا، والأم التي يُنتظر أن تكون الأقرب إلى حياة ابنتها والأقدر على تفهم مشاعرها، تبدو أكثر وضوحا وصرامة (الرياض). لو كان النص نسوياً لما جاء الخطاب الذكوري مناصراً للمرأة على لسان الأب الحنون على ابنته، فالسلطة الأبوية تساند وتقبل وتتفهم الابنة) الحبيبة (18)، بل إن هذه السلطة تمثل في النص ضعفاً وتخاذلاً وعدم قدرة على اتخاذ قرار صارم في أي اتجاه، فالأب ليس حازماً لا مع زوجته ولا مع ابنه ولا مع ابنته.

ولو كان هذا النص نسوياً لما أعطيت لين الحضور الأعلى على مستوى السرد واستولت على الجزء الثالث بعد انفرادها بالجزء الثاني على حساب غياب صوت شخصية نسائية وهي الأم. إن استبعاد زاوية نظر الأم واحتلال لين لهذه المساحة الإضافية هو نتيجة صراع أنثوي على إدارة دفة السرد، فلين ترفض أن تستقل أمها بجزء يغوص إلى أعماقها ليخرج المزيد من السموم التي ستقتل بها بنات جنسها دون وعي منها. لذا فإن عملية اختطاف السرد من الأم التي تشترك مع أغلبية نساء مجتمعها في تفضيل الذكور على الإناث، إنما هي تصميت لصوت نسائي نقيض ومحاصرته وعدم تمكينه، وهذه العملية تمثل إجراءً إنقاذياً للبناء النسائي من الهدم بمعاول داخلية يستدعي تكميم فم المرأة بيد امرأة أخرى.

كذلك لو كان النص نسوياً لما أعطى أهمية مماثلة لقضية عنصرية موازية إلا وهي التمييز ضد اللون الأسود التي قد يرى البعض أنها تشكل المحور الرئيس للرواية.

و(جاهلية) تعرض بلا شك معاناة مالك كواحد من ذوي البشرة السوداء في مجتمع تعامل معهم باستعلاء وجعل من سوادهم علامة فارقة تمنعهم من الاندماج الحقيقي في ثقافته وهويته، كما طالبهم بأن (يحشروا أنفسهم في الهامش الضيق المتروك لهم (146) ليبرعوا في) الكرة، أو الغناء... أو في ارتكاب الجرائم حتى يكون السجن مصير كثيرين منهم (35). يظهر اللون كعائق جوهري في طريق قبول مالك زوجاً للين، كما يظهر في قصة الشابة البيضاء التي جاءت المحكمة لكي تعقد قرانها على شاب أسود لم يرض أبوها أن يزوّجها به (126). لكن اللون أيضا يعوق خروج مالك وأخيه يوسف وزميله موسى من دائرة التنميط الضيقة التي تحاصرهم بنعوت لها دلالات انتقاصية خطيرة، فهم في نظر الناس مجرد: الكور، العبد، التكروني، الكويحة (143)، الذي لا حق له في حياة كريمة تحترم إنسانيته، فيظل معدماً، جاهلاً، ممتهناً يحيط (القرف) جزيرته الجرداء من كل جانب. (164).

لكن هذه فرضية لا تصمد كثيرا إذ سريعاً ما يتضح لنا أن اللون الأسود ليس هو لب الموضوع في هذه الرواية، فالسواد يتزامل في هذه المنظومة الاجتماعية مع عنصر آخر وهو الفقر الذي يشكل فارقاً طبقياً يمنع زواج مالك ولين، وهذا هو ما قصده والد لين حين رفض طلب مالك قائلاً: كل توب وله لباسه (130)، فمالك بالكاد يملك قوت يومه والراتب الذي يناله نهاية كل شهر يبدو كما لو كان ملحاً يذوب في عرق يديه (157). إضافة إلى ذلك فإن مالك لم يحصل بعد على الجنسية، وهذا شرط ينطبق على كل الألوان المقيمة في البلاد ولا يختص به السود. وفوق هذا وذاك فقد ذكر لنا النص قصصاً أخرى لفتيات اضطررن للهروب من أوضاع أسرية أجبرن فيها على الزواج من رجال لا يرغبن فيهم مثل مزنة الصغيرة، أو أوضاع حرمتهن من الزواج من رجال يردن الارتباط بهم مثل شرف المحترقة، وكل الرجال في كل هذه الحالات لم يكونوا سوداً. ثم أن السواد لا ينفرد بالاضطهاد في (جاهلية)، بل إن البنية الاجتماعية المتعالية على بعضها تتبادل الاستحقار والتنابذ بالألقاب والأجناس والأعراق والألوان. يقول مالك لزميله حسام: (أنا تكروني، وأنت طرش بحر، وهما بدو صرف، كل واحد آخد حقه من التأني، وليس أحد أحسن من أحد (151)، لذا فالرواية لا تنشغل بهاجس التمييز العرقي بشكل خاص. اللون الأسود يظهر في الرواية كواحد من الموانع التي تقف حجر عثرة أمام اختيار النساء لمصيرهن في مجتمع مهووس بالتصنيف ومريض بالفئوية والعنصرية والإقليمية والقبلية، وقد جمع النص بين الأسود والمرأة في محور القهر والاستبداد، لذلك يستشعر مالك تساويه مع لين في العجز عن دفع الأذى)

وكيف له أن يحميها من قذارة الآخرين ما دام عاجزاً عن حماية نفسه؟ (155).

لكن اللافت للنظر أن الرواية تشتغل باهتمام كبير على بناء شخصية البطلة لين كإنسانة متفردة ذات وعي عميق وإدراك بعيد، فمنذ ولدت نما لدى والدها ما يشبه اليقين بأنها لن تكون بشراً عادياً (124)، وعندما اختار لها اسماً تعمد أن يبتعد عن اسم النخلة لينة الذي ورد في القرآن وفضل اسم لين الذي

بدا له نادراً. وهو لم يرد لها اسماً مكروراً باهتاً (124). ويعلّق مالك على تميّز البطلة قائلاً: (لا أدري على وجه التحديد ما الذي جعلك مختلفة هكذا) (137)، وقد يعزو ذلك لكونها تملك قلباً له (رائحة التفاح) (138). لكن هاشم كان قد سبقه في التعجب من شخصيتها المتفردة فصرح بأنها (لم تكن امرأة، لم تكن أخته تشبه أياً منهن)، فأمور الزينة لا تعنيها وتفاصيل حياتها الأنثوية قليلة، ولا (تستمتع بشيء آخر غير القراءة) (28-29).

هي أيضا كانت ترى نفسها مختلفة (95) عن غيرها من النساء، وأحياناً تشعر بتميزها عن غيرها من البشر حتى إنها كانت تربأ بنفسها عن الموت العادي: أكره الموت العادي (138) ولا أحب الموت العادي (139).

هذه إنسانة رزينة ومتصالحة مع ذاتها، لذا فهي لا تبدو مستاءة، ولا تعرف الفراغ، فلديها ما تفعله وما تنتظره وما تحلم به، باختصار لحياتها (معنى) يضفي عليها الكثير من المتعة (37). ويظهر تميزها على وجه الخصوص في قدرتها على التحكم في انفعالاتها، فبدلاً من أن تثور نجدها تحافظ على وقارها و(تبتسم بهدوء) حتى في وجه أخيها الأخرق الذي يذبحه هدوءها (17) ويغيظه عجزه عن استثارتها، فهي لم تصرخ في وجهه كثيراً لم تنهره مرة (20).

لكن أهم ما تتميز به هذه البطلة هو قوتها، فهاشم يعرف أن عليه على الأقل أن يعترف بأنها أقوى منه (17) على الرغم من تسلطه عليها وعنفه وقسوته. وقد بنت لين هذه القوة باعتمادها على نفسها وعدم احتياجها للآخرين فقد كان يرعبها أن يطلع أحد - أي أحد - على اضطرابها إزاء مشاعرها وما تخلفه وراءها من ضعف (64). للين قوة لا تعرف القسوة وعناد لا يعرف التصلب، لها صلابة النخلة وعطاؤها في نفس الوقت، وهي بذلك تتمثل تماماً قول الحسن رحمه الله تعالى: الأخلاق للمؤمن قوة في لين.

لا شك أن تكوين شخصية البطلة على هذا النحو يضعف القول بأن الرواية معنية بشكل أساسي بمقاربة القضايا الاجتماعية الحساسة والمسكوت عنها بشكل جريء، فلهذه التعبئة الواضحة غرض أكبر. في تقديري أن كل هذه القضايا الإجتماعية مغروسة في (جاهلية) كأبعاد لقضية أكثر شمولاً، وأن النزعة الرومانيسة والنزعة الذكورية والنزعة العنصرية تتحرك لصالح فكرة أخرى تحتل المركز وتدفع بهم إلى الهامش المساند. ونستطيع أن نقول إن النص يجند عناصره كلها لتفعيل هذه الفكرة التي تستخدم القضايا الثانوية لتنطلق لآفاق أكثر شمولية. ويجب أن تكون هذه الفكرة قادرة على تفسير العناصر السردية التي تستخدمها ليلى الجهني، فبالإضافة إلى تهيئة البطلة لأمر ما، هناك مثلاً العنوان وصورة الغلاف، ثم تزمين فصول الرواية بأسماء أيام وأشهر غابرة مندثرة، ثم نثر المقتبسات التراثية في ثنايا النص،

وهنالك المقاطع الإخبارية التي تسبق كل فصل لتبلغ عن الاوضاع العراقية إبان الغزو الأمريكي، وبعد كل ذلك لدينا نهاية مفتوحة تترك لغوغل الكلمة الهذيانية الأخيرة.

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة