الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th September,2006 العدد : 169

الأثنين 11 ,شعبان 1427

سلام على بغداد
قاسم حول *

أيها المثقف العربي.. أيها المثقف العراقي..
دعوة إلى الخطأ، دعوة مشروطة مني إليك أن تذهب باتجاه الخطأ لو شئت، فاذهب إليه بموافقتي ولكن بشرط. والشرط أن تذهب نحو الخطأ ولكن أن تسميه خطأ، ولا تذهب إليه بدعوى الصواب وأنت تعرف أنه عين الخطأ.
اذهب نحو الخطأ أيها المثقف العربي وبشكل خاص أيها المثقف العراقي، ولكن الخطأ باسمه، فلقد مللت تبرير المهمات الذاتية على حساب الحياة.
كان الشاعر يلهو في حدائق القصر الجمهوري يؤنس الدكتاتور، فيما كان شاعر آخر يئن تحت وطأة التعذيب. كان الشاعر يزغرد لأن رمز الأمة يقود الجماهير نحو الجنائن المعلقة في بابل وسوف يعلو نصب ثان للمسلة وثمة شاعر آخر يغتصب في بيوت الأشباح!
كان الشاعر يمجد بشعر الرجز جلجلة المدافع والردح عند البوابة الشرقية فيما مئات الآلاف من الشباب بعمر الورد تنزف دماؤهم فوق الثرى وتنوح الأمهات حول أضرحة الأئمة والأولياء الصالحين عسى أن يعود فلذة الكبد إلى المنزل حيا.
أيها المثقف الثاني في العراق الذي عشت في المنفى، أنت الآخر اذهب نحو الخطأ ولكن سمه خطأ ولا تدعي الصواب. فادخل في جوف دبابة متوجهة نحو وطنك، واسحق حلم الناس تحت جنازيرها وهي تدوس على تماثيل بابل وأحرق مخطوطات الإسلام، ولكن لا تكتب وأنت إلى جانب الخوذة الحديدية شعرا عن التحرير والحرية.
إن سقوط المثل ليس مثل سقوط التمثال.
سقوط التمثال هو نهاية مرحلة العسف، وسقوط المثل هو بداية نهوض مرحلة الانحطاط. عندما يسقط المثل.. المثقف، الأديب، الفنان، المبدع وتنتهي المرحلة التي ينتمي لها، يحاول أن يأخذ مرحلة من السبات ليظهر من جديد بعد كذا من السنين معتقدا بنظرية التقادم في الاقتصاد التي تسقط الحق. صحيح أن التقادم في الاقتصاد يسقط الحق، ولكنه لن يسقط الحقيقة.
هذه مرحلة غريبة من تاريخ بلادي انقسم فيها المثقفون إلى كتل سياسية غريبة عن الوطن، فبين يسار مريض لا جذر له في الوطن وبين يمين فاشي لا جذر له في بستان الحياة وبين آت من وراء البحار يرطن بلغة الفرنجة ويكاد الباقون من المثقفين أن يعلنوا انتحارهم قرب نصب الحقيقة. ومع كل هذه الموجات الغرائبية في عالم الثقافة فإن أصحابها يمتلكون جرأة نادرة في تسمية الخطأ صوابا، وهم يدوسون بأحذية قصائدهم ونعالات رواياتهم على روح الفرح وبوادر الأمل..
يسحقونها حتى الموت شعرا ولحنا. فلأول مرة في تاريخ الأدب الإنساني يتحول الشاعر والمثقف والفنان إلى شرطي للأنظمة المتخاذلة والهزيلة ويصاب المواطن الطيب بالدوار فلم تعد الأغنية تعبر عن روح العشاق ولم تعد القصيدة بلسما لجراحات المحبين.
توجه أيها الشاعر نحو الخطأ وسمه باسمه أرجوك.. وأنت تعرفه.
عبر بصدق عن خيانتك للذات وللموضوع على حد سواء، فمهمتك التاريخية والوجودية هي التعبير بصدق وهذه مهمة الثقافة مذ أتت للناس في التاريخ. أن تذهب نحو الخطأ وتسميه باسمه.
اكتب شعرا أيها الشاعر ورواية أيها القاص عن شاعر وروائي يلهو مع الدكتاتور ولا يريد أن يرى ضحاياه. وكن أنت نفسك أيها الشاعر وكن أنت نفسك أيها الروائي وكن أنت نفسك أيها الفنان. اكتب شعرا أيها الشاعر ورواية أيها القاص عن شاعر وروائي دخل في جوف دبابة جاءت من وراء المحيطات والبحار وجلس في داخلها حقيقة لا مجازا وهي تدوس حلم الناس وورد البساتين. هذا الشاعر هو أنت.. والروائي نفسه هو أنت نفسك.
اذهب إلى هذا الخطأ وسمه باسمه ولا تقل عنه صوابا فلا تزيف الحقيقة مرتين، مرة باختيار الخطأ ومرة بقلب معناه، فهنا تكمن الجريمة التاريخية، أن يتحول المثقف إلى شخص مزيف يقلب الحقائق رأسا على عقب.
ما حدث ويحدث في بلادي ظاهرة وليس استثناء وهذه ربما أول وأخطر تجربة في التاريخ الثقافي الإنساني، وهو أمر يدمي قلب العاشق حقا.
قادتني لكتابة هذا الموضوع الكثير من المقالات وقصائد الشعر في الصحف وعلى مواقع الإنترنت وبعض هذه القصائد والمقالات لها مواقع متحركة متنقلة يتداولها البريد الإلكتروني مثل كرة القدم في ملعب الثقافة الإلكترونية..
الأكثر غرابة أن ينهض الشاعر بعد سبات عميق غط فيه حقبة من الزمن عسى أن ينسى الناس موقفه ويذهب ذلك الموقف أدراج الريح والنسيان، ليعود في رهان على نظرية التقادم في الاقتصاد التي تقول إن التقادم يسقط الحق.
الثقافة تقول.. نعم التقادم يسقط الحق ولكنه لن يسقط الحقيقة.
القصيدة الجديدة التي تتداولها المواقع هذه الأيام في ساحة كرة القدم الثقافية تحمل عنوان: سلام على بغداد ترى..
ما المناسبة؟!
التقادم قد يسقط حقي في السؤال ولكنه لن يسقط الحقيقة في التأريخ!


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved