الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th September,2006 العدد : 169

الأثنين 11 ,شعبان 1427

العرب من زوايا أميركية (4)
سعد البازعي

أجدني مضطراً لتعديل عنوان هذه السلسلة من المقالات لتتسع دائرة التأمل في موضوع (القضايا العربية في الثقافة الأمريكية) الذي أشرت إلى بعض جوانبه في المقالات الثلاث السابقة. هنا أشير إلى عمل أدبي يتمثل في مجموعة شعرية أمريكية صادرة حديثاً (2006) لفت نظري عنوانها بطريقة حادة، إن لم أقل استفزازية، هذا مع علمي بأن كثيراً من العناوين الاستفزازية لا تسفر غالباً عما يستحق الاهتمام.
لكن ذلك لم ينطبق على المجموعة المشار إليها، فعنوان المجموعة (تابو) أي (شديد التحريم)، علماً بأن الكلمة دخلت العربية بنفس اللفظ، حمل وراءه الكثير من الطرافة والأهمية. كانت المجموعة للشاعر الأمريكي يوسف كومونياكا الذي قرأت اسمه للمرة الأولى، والذي عرفت من الغلاف الخلفي للكتاب أنه أحد أفراد الجيل الذي ظهر في أواسط السبعينيات، وأنه أحد أبرز شعراء ذلك الجيل من عدد الجوائز التي نالها، وهي من أهم الجوائز الأدبية الأمريكية، وبعدد المجاميع الشعرية التي استحق عليها تلك الجوائز.
وكومونياكا شاعر أفرو أمريكي، أي أسود، وما شد انتباهي أو استبقاه في المجموعة بعد زوال الإثارة من العنوان هو قصيدة في مطلع المجموعة عنوانها (أغربة العرب). ولست أظن أن العنوان سيغمض على كثير من القراء، فأغربة العرب، كما هو معروف، هم أولئك الشعراء الجاهليون السود الصعاليك مثل السليك بن السلكة وتأبط شراً وعنترة بن شداد. ولا شك أن تلك الصفات التي أكسبت الشعراء اسمهم هي ما شد الشاعر الأمريكي الأسود، على الرغم من أن القصيدة تفتتح في أجواء أمريكية معاصرة. غير أن عروبة الشعراء كانت بالطبع مهمة كما سيتضح.
عروبة الشعراء تستدعي الإشارة بدءاً باسم الشاعر الأمريكي (يوسف)، فهو ليس (جوزيف) المقابل التقليدي ليوسف، لكنه يوسف(Yusef) بشكله العربي المعروف، وهو ما يذكر بالاهتمام الأفرو أمريكي بالثقافة العربية الإسلامية، ليس لدى المسلمين منهم فحسب وإنما لدى آخرين يشيرون في أعمالهم إلى العرب بوصفهم جزءاً من إرث إفريقي مشترك. فالعرب سمر السحنة ويسكن الكثير منهم إفريقيا وثقافتهم من ثم قريبة من الثقافات الإفريقية التي جاء منها أولئك الأمريكيون السمر. وقد تنامت حول هذه الصلة قصص وأساطير ورموز ليس هذا مجال التوسع في ذكرها، لكنها تطرح نفسها هنا بوصفها سياقاً ثقافياً غنياً بالدلالة. وليس من الواضح ما إذا كان كومونياكا مسلما أو ينتمي إلى خلفية إسلامية، لكن الأسماء العربية الإسلامية شائعة بين السود الأمريكيين.
في قصيدة (أغربة العرب) يصور الشاعر سهرة ضمته ببعض الأصدقاء يسرح هو أثناءها إلى عالم الشعراء العرب (قبل الإسلام)، ليتوقف من بينهم عند سيرة عنترة، مشيراً إلى ما لقيه الشاعر العربي القديم من نبذ واحتقار من جانب قبيلته ثم احتياج قبيلته إليه في وقت الشدة ومطالبته إياهم بالحرية ثمناً لوقوفه معهم. وتأتي الإشارة إلى علاقة عنترة بابنة عمه عبلة في ذلك السياق على النحو المعروف للقارئ العربي ولكن ليس للقارئ الأمريكي الذي سيجد في الحضور الشعري والإنساني العربي ما يثير الاهتمام والدهشة ولا سيما في إطار التطورات المعاصرة التي تستحضر العرب لتلصقهم ليس بالإسلام فحسب وإنما بالإرهاب بشكل خاص، كما لو أنه سمة للمسلمين.
في قصيدة كومونياكا يستعاد العربي المضطهد والمتمرد في آن، العربي الأسود المحاط بمحرمات البروز الاجتماعي، بتابوهات التميز والبطولة، بالقبيلة والتقاليد والصارمة، التي يخترقها البطل لينتصر بتفرده وقدراته الذاتية. هنا نجد قراءة يتماهى فيها الشاعر الأمريكي الأسود ليس مع العربي بحد ذاته وإنما مع العربي ذي السحنة السوداء، أي مع الإفريقي في العربي، المضطهد في ابن القبيلة. وهذا يعني أن الشاعر الأفرو ? أمريكي إنما يتعاطف مع نفسه، مع شبيهه أو صورته، وهو ما يحصل في قصائد أخرى من المجموعة ينتظمها التأمل في التابو، في المحرمات التي تحيط بالإنسان حين ينتمي إلى فئة محتقرة. وتعاطف كومونياكا يأتي بدءاً في إطار جغرافي مناخي ينتقل فيه الشاعر من عاصفة ثلجية في أمريكا إلى عاصفة رملية في الجزيرة العربية، ليعبر بذلك حواجز المكان والزمان معاً:
... رقائق الثلج
تحيط بالشبابيك إلى أن
أنجرف في عاصفة رملية
تسوقنا عبر
قرون متوارية
إلى أولئك الشعراء السود
المعروفين بأغربة
العرب في الجزيرة العربية
قبل الإسلام...
أولئك الشعراء كانوا ضحايا مجتمعاتهم، لكنهم في القصيدة يبدون كما لو كانوا أيضاً ضحية كل من لا يبالي بهم وبأمثالهم، من لا يهتم بمأساتهم. فالشاعر الأمريكي حريص على أن تبدأ قصيدته وتنتهي بالمشهد الاجتماعي للأصدقاء في سهرتهم يشربون ويدخنون ويستمتعون بالدفء داخل بيتهم الأمريكي في ترف فكري يجعلهم (يفككون أوكلاهوما سيتي ويعيدون تركيبها)، هذا بينما يبدو الشاعر وحيداً في إحساسه بأولئك العرب الشعراء في جاهليتهم:
بينما تنحني سالي
لأشعل سيجارتها،
أحيط
الشعلة بيديَ،
أفكر بالرجال وهم يحرقون سحيم...
وسحيم هو (الخادم النوبي/ الذي أغرى النساء/ بقوله إن السجن/ ليس أكثر من البيت/ الذي أعيش فيه...) فالنساء يعشن مأساة مشابهة في سجون أخرى، أو هكذا تبدو الدلالة.
لكن ما هي يا ترى الدلالة النهائية التي يرمي إليها الشاعر الأمريكي الأسود؟ أليست هي تشابه المأساة عبر العصور والأماكن؟ المجتمعات العربية وثقافتها تبدو هنا مترعة بالتمييز العنصري، بل بما هو أسوأ. فالاستعباد سمة عبر ثقافية عرفها العرب مثلما عرفتها أمريكا وغيرها، وها هو الشاعر الأمريكي الذي يعمل أستاذاً في جامعة برنستون الأمريكية الشهيرة ينعم بما تمنحه الحياة في بلاده اليوم من رفاهية وثقافة، لكنه، على عكس آخرين، يريد أن يمد يداً لمن عانوا مثلما عانى أجداده من ذوي الأصل الإفريقي عبر البحار.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved