الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th September,2006 العدد : 169

الأثنين 11 ,شعبان 1427

الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (4من 13)
محطات في حياة الإمام

محطة التعرف على الصوفية بين الشيخ درويش والأستاذ الأفغاني:
يتم الحديث في هذا السياق عن أن خاله الشيخ درويش كان صوفيا وعلى صلة بالزاوية السنوسية، وكان له الفضل في توجيهه باتجاه المعارف الصوفية وسلوكها، وهو الذي كشف له عن حقائق الإيمان الكامنة وراء العبارات الجامدة مما كان يلقاه في كتب النحو والعقيدة، التي كانت تكتسب قداسة الأقدمين وقداسة المكان (الجامع) فتغدو (مباركة) يروي تلميذه رشيد رضا في (تاريخ الأستاذ الإمام) بأنه عندما درس كتاب الكفراوي بالنحو: (بدا له شيء من غلظ الكتاب وتناقضه في بعض المواضع فنبه شيخه إلى ذلك فاعترف معه به، ولكنه قال إنما ندرس هذا الكتاب تبركاً).
إن الشيخ درويش سيترك أثرا عميقا في نفس الفتى، إذ سيكون له موئلا روحيا، سيطلق عليه لاحقا في سيرته الذاتية صفة فيها شحنة صوفية (مفتاح سعادتي) يقول: (ولم أجد إماما يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذاك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد.... وهو مفتاح سعادتي، إن كانت لي سعادة في هذه الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان من غريزتي وكشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي (رشيد رضا تاريخ الإمام ج1 ص23)
وسيذهب الأستاذ إلى القاهرة وهو في الواحد والعشرين من عمره في شهر فبراير عام 1866م ليلتحق بالأزهر.
إن تأثير الخال الشيخ درويش في الأستاذ الشيخ سيترك أثره اللاحق على خياراته ليس على مستوى اختيار الحياة البسيطة والشديدة التقشف والمنقطعة عن العلائق مع الناس فحسب، بل والانكباب على كتب الصوفية درسا وبحثا والتحاقا بدروسها وأساتذتها، فعندما سيلتحق بالأزهر سيشده التيار الصوفي الذي كان رائده الشيخ حسن رضوان (المتوفى سنة 1892م) صاحب منظومة (روض القلوب المستطاب) وكان هذا التيار في الأزهر يضم الشيخين: محمود البسيوني، وحسن الطويل.
وسيرافق شيخه حسن الطويل للتعرف على جمال الدين الأفغاني عند قدومه إلى القاهرة للمرة الأولى وهو في طريقه إلى إسطنبول، يحدثنا كاتب سيرته (إن أحد المجاورين في رواق الشوام قال إنه جاء مصر عالم أفغاني عظيم وهو يقيم في خان الخليلي، فسر الشيخ (محمد عبده) بذلك وأخبر الشيخ حسن الطويل ودعاه إلى زيارته معه فلقياه يتعشى، فدعاهما إلى الأكل معه، فاعتذرا، فطفق يسألهما عن بعض آيات القرآن وما قاله المفسرون والصوفية فيها، ثم يفسرها لهما، فكان هذا مما ملأ قلب فقيدنا به عجبا وشغفه حبا، لأن التصوف والتفسير هما قرة عينه، أو كما قال، مفتاح سعادته (رشيد رضا المصدر السابق ص25).
سيعود جمال الدين الأفغاني مرة ثانية لمصر في سنة 1871م، وسيكون محمد عبده من أول الملتفين وأشدهم حماسة، إذ سيلازم مجلسه منذ ذلك العام، ويستمع إلى دروسه التي كان يلقيها في داره، وإثر ذلك سيقطع مع الأزهر ومع حلقات دروسه العقيمة التي يضيع فيها الوقت، حيث يرون أن العلم هو علم القول (جاء زيد) لا علم القلوب، الذي راح يرتشفه في حلقات درس أستاذه الذي راح يسحبه من عوالم التصوف التي تنتمي إلى حيز الزهد والتنسك والتقشف إلى فضاء التصوف الفلسفي.
وقد أردنا أن نتوقف عند الإشارات المتصلة بتجربته الصوفية، وسنتوقف عندها لاحقا، وذلك بقصد الإيماء إلى أن هذه التجربة التي عاشها فعلا وممارسة (انقطاعا، وتوحدا، وعزلة)، وفكرا (تأملا ونظرا وكتابة)، قد تركت أثرها الشامل على مجمل مشروعه الفكري، فقد ساهمت بمنح مشروعه الإسلامي التنويري نفحات إيمانية متسامية روحيا وأخلاقيا تلامس رعشة المطلق، فكان من نتائج ذلك تلك النزعة السلمية التي ميزت ممارسته الحياتية والفكرية والسياسية، ولعل ذلك يفسر لنا افتراقه عن أستاذه (الأفغاني) الذي شغفه حبا، فقد تباعد عنه نظرا للروح التمردي الارادوي الانقلابي القائم على الكراهية للآخر لدى الأستاذ ضد الإنكليز من منبر الماضي وبتحفيز رسالته الدينية التعبوية، بينما كان الإمام يرنو إلى مشروع يتأسس على الحريات السياسية والديموقراطية ويعمل على مراكمة الوعي المدني انطلاقا من منبر مستقبلي يعتبر أن أوربا هي نموذجه الذي ينبغي امتلاكه، وأن هذا النموذج لا يتعارض مع الهوية الإسلامية، وذلك الروح هو الذي سيدفعه للاصطدام مع حركة العسكر بقيادة عرابي إلى الحد الذي هدد بالقتل كما سنرى.
إن الروح الصوفي الذي انطوى عليه جناح الإمام ارتقى به ذرى الوعي في اكتناه القيم الروحية للإسلام، واستيعائه كهوية مدنية حضارية وتجسيده له كممارسة أخلاقية: (لقد تجلى أثر التصوف والتعاليم الصوفية على نفس الامام في أخلاقه فكان صوفي الأخلاق). (مصطفى عبد الرازق محمد عبده ص28).
ففي فترة اهتماماته الصوفية في مطلع شبابه، قام بنسخ رسالة (الإشارات) لابن سينا، وقد خلف لنا نسختين، اختتم إحداهما بتقريظ الأفغاني.
ولقد ساهمت علاقته بالأفغاني، ليس بتعرفه الفلسفي على الصوفية فحسب، بل شدته هذه العلاقة من سلوك الصوفية كطريقة تدفعه باتجاه عالم الداخل، إلى صوفية تأملية عرفانية رفيعة، انطلاقا من أن الاهتمام بالفلسفة له الأولوية بوصفها أم العلوم الاجتماعية، ومن حينها راح يشتهر ككاتب في الشؤون الاجتماعية والسياسية، من خلال المقالات التي راح ينشرها في جريدة الأهرام التي كانت قد أسست في تلك الفترة من قبل مثقفين لبنانيين مهاجرين، فكان أول ما نشره في (الأهرام) يعود إلى سنة 1876م، لكنه ظل ملتزما بأسلوبية الكتابة بالسجع، مما يشير إلى أن الإمام كان في هذه الفترة لا يزال يعوم في مياه ثقافة التراث الأزهري، رغم تفاعله مع الفلسفة الصوفية وهو لا يزال طالبا في الأزهر، ولم يحز شهادة (العالمية) بسبب أغلبية الأعضاء الذين تواصوا على إسقاطه بسبب آرائه الجديدة وصحبته لجمال الدين الأفغاني، وكان سيرسب لولا وقوف رئيس لجنة الامتحان الشيخ محمد مهدي العباسي إلى جانبه وإصراره على نجاحه!.
إن الروح التربوية والتعليمية ستبدأ منذ هذه المرحلة تتغلغل داخل الشيخ الفتى الذي بدأ بتأثير أستاذه الأفغاني يستشعر داخليا بأنه مندوب لرسالة، بعد أن خرج من عزوفه التصوفي الاستغراقي الداخلي في (الحق) ليتوجه بالاندفاع إلى الاستغراق الخارجي في شؤون الخلق، مما سيجعل من هذه الأطروحة: (إن الاستغراق بالحق هو الاستغراق بالخلق) بمثابة شعار أخلاقي لنخبة ذلك الزمن النهضوي الطامح للخروج من استغراق أزمنة العصور الوسطى إلى الانغماس بميلاد عصر جديد.
محطة دلالة السجع والإرسال:
إن هذه الموضوعة عن (السجع والإرسال) تحتل أهمية خاصة في المشروع الإصلاحي للإمام محمد عبده ليس في مجال اللغة العربية فحسب بل وهي المعادل لحركة التجديد والثورة على الجمود والتقليد، كما ستكون البرهان على النقلة الانعطافية التي أحدثها الإمام في الانتقال بالعقل العربي من سجن التقليد القروسطي إلى فضاء العصر الحديث، وذلك نظرا لأهمية تعويله على إصلاح اللغة العربية، باعتباره عنصرا حاسما في إصلاحه الفكري والتربوي والمجتمعي والروحي والأخلاقي التي يستحيل على أسلوبية السجع أن تتسع لضخامة هذا المشروع الإصلاحي الحديث هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه يستحيل على مشروع إصلاحه الاجتماعي أن يتحقق، إذا ظل أسلوب الإمام محكوما بسلاسل السجع، لأن هذه السلاسل ليست إلا أسلاكا شائكة تحيل دون الحريات الاجتماعية والدستورية، لأن هذه الحريات، تتطلب الانتقال من عالم قيود التقاليد والأعراف والبيت الحريمي للمرأة، إلى فضاءات مفتوحة للممارسة والسلوك الاجتماعي والحياتي، توازي الانتقال من الاقتصاد الحرفي المنزلي إلى الاقتصاد السلعي البضاعي، من قيود وروابط الدم والعائلة والعشيرة إلى الأحزاب والمنتديات والروابط والتجمعات والجمعيات بالمعنى السوسيولوجي والسياسي، الخروج من البيت الحريمي إلى فسحة المجال العمومي لفسحة المجتمع المدني الحديث، أي الانتقال من الملة إلى الأمة، من فلاة الرعية إلى مجتمع الشعب، وتناظر في المآل: الانتقال من البنى الذهنية للعقل التقليدي إلى بنى العقل الحديث.


د. عبدالرزاق عيد
abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved