الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th September,2006 العدد : 169

الأثنين 11 ,شعبان 1427

سيبقى البطحي..
عندما عزمت على الكتابة عن المرحوم عبد الرحمن بن إبراهيم البطحي والتحدث عن سيرته وأخلاقه نظراً إلى ما بيني وبينه من روابط المحبة والألفة أصابتني الحيرة وغلب على نفسي التردد؛ لأن الكتابة عن هذا الشخص بخاصة ليس بالأمر الهين ولا بالطريقة السهلة، فمن أين لي أن أصور للناس علماً تتقاصر دونه الأعلام ويقف دونه من يدَّعون المعرفة ويتندرون بالإصلاح. إنه الإنسان المثقف ذو الأخلاق العالية والشيمة والمروءة وبذل المعرفة والمعروف، إنه عفيف النفس قوي الإرادة، لا يمكن أن يريد من أحد شيئاً إلا وحصل له ما يريد، ولكن عزة النفس ترفعه عن منّة الآخرين، وهو ما جعله يعيش رافع الرأس ليس لأحد منّة عليه، يساعد المحتاج ويقضي حاجة المضطر، لا يرد سائلاً ولا يعتذر من أي مخلوق، كل هذه الأشياء وأكثر منها موجودة فيه، فضلاً عما يمتاز به من ثقافة عالية ومعرفة واسعة وحجة قوية ورأي سديد، ولهذا السبب صار مرجعاً لأصحاب الدراسات العليا والبحوث المقدمة لنيل الشهادات العليا والرسائل الموثقة، يقوم بهذا العمل بنفس أريحية وخاطر منقاد بأسلوبه العذب وعرضه الشيّق ونقاشه الواضح، مبيناً ومفسراً لهم الغامض، وموضحاً لهم المشتبه، فيكشف لهم المجهول، وينجلي لهم الغامض، فيحقق لهم المراد، وتحصل لهم الفائدة.
كانت تربطني به علاقة وثيقة وحب متبادل وصحبة تمتد إلى خمسين سنة عشناها وأرواحنا ممتزجة بالحب وخالية من الكدر، كان رحمه الله دائماً مشرق الوجه عذب المنطق حلو الحديث، ما سألته عن شيء إلا أجابني عنه وأوضح لي متشابهه وأبان لي معانيه، كان واسع المعرفة كثير الاطلاع محباً للأسفار لطلب المعرفة والتزود من المعلومات، زكي الفؤاد يتحدث إليك فتصغي لحديثه، ويفسر لك الأشياء فتقتنع بتفسيره، فكر صافٍ وموهبة حادة وذاكرة تستقري الماضي وتحكي صوره وبطولاته وتعزوها إلى جذورها الأصلية وحوادثها العريقة، كان مجلسه في بيته أو في مزرعته (مطلة) عامراً طوال السنة أثناء وجوده، يضم مختلف الشخصيات كل منهم يسأله، هذا عن الشعر وأقسامه، وذاك عن الأدب وأغراضه، وآخر عن شؤون الحياة وما يتصل بها من جد وهزل وأخذ وعطاء، فيجيب كل منهم حسب سؤاله ويبين له مطلبه وما هو بحاجة إلى معرفته، فضلاً عما يقوم به في بعض الأوقات من زيارة أهل الرأي والفكر والمشايخ، وأذكر مرة أن فضيلة الشيخ محمد العثيمين (رحمه الله) قال لي: ما نوع الكتب التي يطالعها عبد الرحمن البطحي؟ قلت له: كل شيء يطالعه، فأثنى عليه وأشاد بغزارة علمه وسعة اطلاعه ودعا له بالخير. كل هذه المعلومات اكتسبها عن طريق مطالعاته الكثيرة وأسفاره المتكررة واتصالاته بأصحاب المعرفة وأهل الدراية والخبرة. مع العلم أن تعليمه المدرسي وقف به عند شهادة الكفاءة، ولكنه عوَّض هذا كله بجده واجتهاده وحبه للعلم وصبره على تحمل التعب وكثرة الأسفار، فصادفت هذه الرغبة الشديدة وهذا الإلحاح قلباً واعياً وفكراً مستنيراً ورغبة شديدة، فامتزجت هذه الأشياء بذهنه واحتواها عقله ووعاها فكره وحاكاها لسانه، فجاءت صوراً تحكي حوادث الماضي ومتطلبات الحاضر وتجسد صوره وتصور عاداته، حتى أصبح علماً يشار إليه بالبنان. تعلّم على يده الكثير من أصحاب الشهادات العالية الذين لمعت أسماؤهم واحتلوا المناصب الراقية في التعليم أو في الدوائر الحكومية، فضلاً إلى ما يمتاز به من معرفته بأحوال البادية وأنساب العرب وأصولها وما ينضوي تحت لوائها. يفصل هذه الأشياء بطريقة تسترعي ذهنك وتستولي على مشاعرك، فتكاد تجزم من سرد حديثه وطريقة عرضه وتفصيل آرائه أنه عاش معهم وعاشرهم واتصف بصفاتهم وسلك ظروفهم وعرف عاداتهم ووقت تنقلهم وارتيادهم للأماكن الخصبة والأجواء الصالحة للسكن والإقامة.
وإنني أعزي نفسي وأعزي كل من يعرفه أو سمع عنه. رحماك اللهم ربي؛ فإن مصابنا به عظيم، وفقدنا إياه خسارة لا تعوض، وخصوصاً في هذا الوقت الذي قلَّ فيه المعين، ونضبت فيه المعرفة وجفت منابعها ولم يعد لها طالب يرغب وباحث يستفيد، مع تكاثر المادة وتهافت الناس عليها وانصرافهم عن طلب العلم ونشدان المعرفة.
رحمك الله يا أبا إبراهيم؛ فقد فقدنا فيك طيب العشرة وصدق المحبة وامتلاك الصدق والإخلاص، ولكن سنة الله في عباده والحمد لله على قضائه وقدره، ولن يموت مَن تلهج الألسنة بذكره الطيبة وسيرته الحميدة والثناء عليه والدعوة له بالرحمة والغفران.
وإنا لنا الأمل الكبير في إخوانه أن يجدوا في مكتبته ما ينتظم به العقد، وتكمل به الحلقات، وهي بلا ريب معلومات جيدة وأبحاث مفيدة يجب الاطلاع عليها والاستفادة منها، وعسى أن يتحقق هذا المطلب؛ فنحن في أمس الحاجة إلى معرفته.


سليمان صالح العقيل عنيزة

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved