الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th September,2006 العدد : 169

الأثنين 11 ,شعبان 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

انكسرتُ وحيداً
محمد حبيبي
74 صفحة من القطع المتوسط
الانكسار.. ضرب من ضروب التراجع والهزيمة.. انكسار جسدي.. انكسار إرادي.. انكسار نفسي.. وانكسار حسي.. كل شيء يرفعه الله إلى أسفل على حد قول شاعرنا القديم:
فيا له من عمل صالح!
يرفعه الله إلى أسفل!!
وليس إلى أعلى هو انكسار يدنو من درجة الانهيار.. شاعرنا طرح انكساره على بساط شكواه لا أدري أهو اعتراف بهزيمة.. أم استدراك لحالة مرضية آذن بعلاجها والبرء من سقمها؟ يقول في مقطوعته (وحيداً) وتحت عنوان (ناعماً ينبت العشب):
مثل أول رشفة.. أنتِ
أهجس أن أحتويك كثيراً
وحين أضمك صوب ضلوعي
أهشم أنفاس حبكِ بين أصابع خوفي
إلى هذا الحد من هواجس القلق استخدم أداة التهشيم.. ومطرقة التحطيم لأنه خائف أن لا تواتيه فرصة لقاء آخر.. يهشمه كي يبقى دون مقدرة على الغياب.. أَليس من الحب ما قَتَل؟ ومنه أيضاً ما هُشم.. أو هُمش..
(شقراء قصيدة كروحي) أغرودة شاعرية وصفية إخالها في منأى عن المطرقة ومعول التهشيم:
تجيئين.. يتبعكِ الموج في السر وقت الرحيل
كما النقش في خاتم عشقته الأصابع
حتى امحى...
ومع إحاطته يقيناً بقدومها.. فإنه يسأل:
مَنْ سرق العمر حين دلفنا لبوابتيه؟
مَنْ فلَّ جدرانه الأربعة؟
أي الرجال سيخلع نعلاً قديماً.. وساعته المهملة؟
أسئلة حائرة أفاق منها إلى نفسه.. إلى أغنيات وحدته.. لأن عصافير شدوه، وربما عصافير ضميره أبدلت أغرودة الأمل إلى رسالة خجل.. لعلها هي تلك الجافلة.. الحافلة التي تركته وحيداً يمصمص أنفاس ما تبقى من نرجيلة قبلتها شفاه غريب فغربت.. عبرت دون أن تدله عليها بوصلة بحار ولا قارب بحر..
(بكائيات) وجه آخر للحزن في معترك الحبيبي.. ساحة حب ضرامها أحر من النار.. وضحاياها واحد كألف ضحية:
هي الآن تبكي..
وتحنث أن دموع البُنيَّات يأسرن لُبي
سوف تبكين وقتاً طويلاً
وحين يغمركِ الدمع.. تزفين أول قلبي
لماذا سادية الغرام؟ التعذيب ليس لغة تأديب أو تهذيب إلا إذا كانت عامية مستعصية على الحب.. هل إنها كذلك؟
لقد تراجع شاعرنا الحبيب عن سوأة غضبه.. الحب أقوى من طيش العاطفة.. وهبوب العاصفة.. لقد بكيا معاً:
بكت.. فبكيت على أثرها
وحين أفقنا تساءلتُ فيم البكاء؟
أدركا أنهما في مرحلة عبث وجداني.. كلاهما يمثل على الآخر.. استطاب لكل واحد منهما أن يبكي أمام الآخر لا شهية في البكاء.. وإنما لتذوق طعم البكاء لكثرة ما ضحك.. تجربة وحيدة وفريدة!
* فاصلة.. يقول فيها:
كلما عدتُ للقرية النائية فرَّ مني القمر
كلما لذتُ نحو الحميمين من أصدقاء الطفولة
يبكي علينا الشجر
كل ما أُبت من سفر يحتويني سفر..
القمر الذي يشير إليه شاعرنا قمر أرض لا قمر سماء.. القرية تفضح حبها لأنها صغيرة.. أما أصدقاء الطفولة فقد باتوا كباراً تشغلهم حياتهم.. ومسئولياتهم.. وأحياناً انفصالهم وانفصامهم عن قواعد وثبات التواصل الذي اعتاد عليه شاعرنا وكان صغيراً يلهو مع أقرانه داخل قريته.. أما السفر.. فمشقة ومتعة معاً.. إنه يُجهد بقدر ما يُمتع.. وكثرة التنقل خيار مَنْ لا خيار له.. إنه عذاب رغم عذوبته.. وطِّنْ نَفْسَكَ على واقع تعيشه.. القرية طاردة.. والمدينة صاخبة شاردة.. والناس مشغولون بدنياهم، مهمومون بمشاكلهم وتبعات حياتهم.. إنهم مُجهدون حتى وهم يتصنعون راحة البال.. خذنا معك إلى تِينتك علَّنا نقتطف من حبات تينها ما يساعدنا على كلفة الرحلة:
كان في بيت جدتي تينهْ
أُقبِّل أغصانها مرة. وأجرحها خفيهْ
ليسيل الحليب البهي على جذعها
تلك هي طبيعتنا كبشر.. نجرح من أجل أن نفرح.. وآخره بكاء على الأطلال كما أنتَ بكيت:
فأبكي على القين
أبكي على بيت جدي
على الطفل في داخلي
قبَّلك طفل بدوي عاشق كبرت معه أحلامه.. وتهادت على كبر.. واسترجع أيام طفولته وحبيبته.. وأغنامه التي كانا يرعيانها معاً.. قال:
صغيرين نرعى البهم ياليتنا
إلى الآن لم نكبر.. ولم تكبر البهم
أجمل في الحياة أن تكون طفلاً مدى العمر.. تحلم ببراءة الطفولة.. ما استطعت.. ولكن هل نستطيع؟!
(الرَّين) شجرة لها في ذاكرة شاعرنا قصة نهايتها غصة:
للحقول براءتها أينما وزعتها
على (الدوم) أو شجر (الرَّين)
آه.. يا شجر (الرين) كنا صغيرين
أُعَلِّمُهَا صُنع فقاعة من ورق
رسم قلب به عاشقين
أول حرف من اسمي..
ومن زهرة (الرين) عقداً يضيء ضفيرتها
يسترجع الآه مرة تلو الأخرى.. لقد عادا غريبين.. هو وهي.. وشجرة (الرين) أيضاً.. الحياة غربة.. ومن شجرة اغتربت إلى حمامة اقتربت:
في باحة الدار كنتُ أربي الحمام ذات قيظ
تطاير حتى تجاوز صندوق جاري
فأدركت أن الحمام يحب الهواء نقيا
وأني اختنقت بجو القفص..
الحمام رمز سلام.. والحرية شعار حياة. ومطلب أحياء.. الأقفاص للطيور حتى ولو جاءت ذهبية أشبه بالزنزانات. والقيود التي تحجب عن أصحابها أبواب الحرية..
أعطني حريتي. أطلق يديَّ
إنني أعطيتُ ما استبقيت شيا
مطلب حياتي دونه كل مغريات المال. والجاه. والشهرة..
(علوان) عنوان..
فتى أخضر، لا يمل الحياة
ويمنحها مقلتيه كفردوسة شاردة
يستل مزودة الماء نايا عتيقا.. وابريقه المتفحم
تلبن سمت الرعاة إذا غبشوا بالمواويل
والدندنات الحزينة
كل هذا من أجل محبوبة بث من خصرها العنفوان.. إلا أن عنف الحياة أبكاها
وحين يهل الغروب يخاتلها
دس في حزمة من قصب شيحا. وزعترا
وطوفها بالسُّكب..
كم هما بائسانِ يسترقانِ لحظة لقاء وجلٍ، وخائف من شيء ما.. ربما يمسحانِ موجة رقراقة على ضوء القمر المتهادي في سمائه..
شاعرنا الانطباعي يتطلع إلى الوجوه الكثيرة فما يلقاها واعدة بالبشرى والفرحة.. إنه يبكيها:
فمن لي بوجه.. كأمي:
قلت للعمر.. قفْ
لا تمر سريعاً,. فتفضح سري..
وَقَفَ العمر! لكنني كنت شحنتُ كثيراً
مرة قالها: أما حان أن تجمع الكلمات الكسولة؟!
كأوراق عمرك!؟؟ قلت: كيف رؤى؟
هل تحب الذي لا ترى منه غير الصور؟
رؤى أصبحت أثلة فارعة. ولم تنتظرك
شاعرنا أمام رؤاه أغفى محتضناً حسرته.. ما عليك تطلع إلى صورتك في مرآة عقلك.. وتسلق بها سيقان أثلتك الفارهة وطل منها على تلك الوجوه الكثيرة التي بكيت عليها.. ربما رحمةً.. وربما إشفاقاً.. كلاهما حب.. ومن البكاء إلى التطلع:
تركض هذي الفتاة. تلعب بالرمل
تصنع بيتاً من الطين. تنثر من حوله الأسئلة
تكبر.. تختار ألوانها بعناية
تتقن صبغ الشعر. تنسى فضول الصغار..
أَليست صبيةً شبت عن طوقها تنتظر فتى أحلامها؟ من حقها أن تتهيأ لحلمها المنتظر.. لفارس حياتها القادم.
يعشقها فارس.. ثم يشتاقها شاعر
فيخضب راحتها بخطوط الوطن
وترتجف الصورة.. تتمرد على إطارها الجميل لأن عاشقاً آخر اختطفها خلسةً من أحلامها الوردية ليتكئ عليها دون وطن.. حب غريب الخطى والخطأ.. ومع المتعبين.. وكلنا مُتعَب, ومُتْعِب
صاغ لي من مساميره خنجرا. فاشهتني يداه
رابض في الزوايا.. وصمت الطريق مداه
كل ما هاج بالشر من وهج.. سقطت دمعتاه
على قدر الوجيعة والفجيعة تُقاس الدموع.. الأكثر وجعاً لمن تفجعه فاجعة ألا يلقى دموعاً بحجمها.. وأن تتجمد وسط عينيه..
ومتعب آخر ينبع البؤس من بين شفتيه أشبه بتنهيدة الروح وهي تنتزع من جسدها.. ملامحها وقفة شاحبة.. رعشة يدين.. ونهايتها
غصة ذوَّبت منه ماء الجبين
ومُجهد ثالث يداه مملخة بالطباشير. مرزان مائل
ويُدوِّن في دفتر الوقت ما ذاب من عمره
تحت سبورة الفصل.
وفي حوصلات تلاميذه الأشقياء
ورابع يغزل من نسيج شعره قميصاً يتقمص به.. ولكنه لا يقيه لسع البرد:
يحمل أوراقه ويغني لوجوه البنيات. للرمل
كنت أرمقه.. كيف يغوي القواميس عن لغة هُذلية.!
وحين يفيء إلى سمته تخاتله اللغة الشاعرية.!
(ريحانة) شجرة غرستها أم شاعرنا في صحن الدار.. ولأنها زكية الرائحة وقد كبرت.. وتفتحت.. نذرها لعروسه دون سواها:
في أول أيام العرس.. تورق خمسين بلاطة..
ماتت الريحانة.. وبقي البلاط الذي لا عطر فيه
في ركن (نصوص رديئة) وتحت عنوان (وهم):
نحن الموهومين
رواحنا في وحله لم يشبهنا
مسروق نصف ملامحنا
والنصف الآخر غيبه الترحال
لم يبقَ شيء إلا طلال.. وبقايا أطلال يغني على أنقاضها غراب بَيْن... ومن (الوهم) إلى شقيقه (الارتياب).
من قبل هسيس الشرفة جارتها
وسوست، بأن الريبة منهما ضدي
ومن باب إلى باب آخر أقل منه نضارةً وطهارةً يأخذنا شاعرنا المتألق محمد حبيبي إلى ذباب المقهى كي نشنف أسماعنا بطنينه:
أين تذهب هذا الصباح؟
للمقهى!
كل النارجيلات امتصتك لحد القي
ظهر الكرسي دهنته ريحتك اللزجة
يجتر الأنفاس في مجهود خارق
حتى سحب الدخان بعيداً عنك تطير
لا يبقى غير ذباب المقهى يكنس
ذباب من نوع آخر يؤدي وظيفته على أحسن وجه.. إنه يكنس ولا يكنس!
ومن ذباب قهوته إلى نشوته مساحة لا تتعدى بضع خطوات رغم التباين الرهيب بينهما.. إنه يصف النشوة قائلاً:
ما بين يديك ملاك في جسد بض
شهقة... أخرى..
الآن فقط.. كومة ذنب بين يديك
من تاب وأناب عن ذنبه كمن لا ذنب له.. شاعرنا يدرك هذا جيداً.. وفي محطة (الرتابة) تطرق أسماعنا صوته:
الشرير.. وفوضاه
مشروع نص رديء بنصف المخده
الكتاب المعار قريباً
بين هذا الركام أقض اشتباكاً لجفني
من ليلة البارحة..
جميل أن استيقظ جفنك على ضوء الصبح.. كثيرون ينامون النهار.. ويسهرون الليل.. نوم له عيون. وآخر دون عيون.. وأخيراً مع كلماته.. ترى هل أنصفها؟
كصبي يجمع أعقاب السيجارات
كي يغلق متعته في ركن مهجور
أو فوق سطوح البيت
كلماتي تخرج في ذعر.. تتلفت
أبداً يا شاعرنا حبيبي.. كلماتك الشاعرية خرجت منتصرة على الخوف لأنها ثقافة شعر متجدد.. ومجدد أخذ من الكلمة خلاصتها دون تردد.. منحها الكثير من حداثة الطرد وأمانته.. طرزها بخيط تأملي يمكن ملامسته دون مشقة..
صحيح أن ديوانك النثري جاء مقتضباً في صوره.. إلا أنه على ما أحسب كبير في محتوياته التأملية يستحق القراءة.
العطاء ليس حجماً.. بل مضموناً ومحتوى.. هذا ما لمسته.


الرياض: ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved