الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 4th October,2004 العدد : 79

الأثنين 20 ,شعبان 1425

أيديولوجيا التسلية
د.أحمد برقاوي *

يقع الجديد بين فكي كماشة، ثقافة الماضي وثقافة التسلية، سنتوقف الآن عند هذه الظاهرة الخطيرة التي دعوتها بثقافة التسلية، وهي التي تنشرها الآن أغلب المحطات الفضائية العريبة
ما معنى ثقافة التسلية؟
جاء في الصحاح: سلاني فلان عن همي تسلية وأسلاني أي كشفه عني.
في الأصل التسلية حالة يفرج فيها الإنسان عن همه، لكن الأمر في الواقع غدا على نحو غريب وعجيب، بحيث غدت التسلية حالة أو قل نمط حياة يعيش فيها المرء خارج أية ثقافة ذات معنى من شأنها أن تسهم في زيادة معرفة الإنسان بالعالم، وتفعل فعلها في تكوين موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي، بل قل التسلية موقف سلبي من كل مشكلات الإنسان المعاصر تزيد اغترابه غير الواعي وفقره الروحي، وهشاشة موقفه الأخلاقي والسياسي، إني لأتحدث هنا حصراً عن برامج التسلية التي قدر لي أن أشاهدها آنفاً عني في أكثر الحالات ورغبة مني في حالات أخرى لكي أعرف بالضبط ما الذي يجري في برامج كهذه، وما كنت لأكتب عن هذه المسألة لولا شعوري الغاضب والحزين على أجيال من الشباب العربي الذين هم ما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، أجيال تنفق من الوقت، الممكن استغلاله للتنمية الشخصية، في النظر إلى برامج تدعو الناظر المسؤول إلى التقيؤ، مثلاً في برنامج يبث من إحدى الفضائيات تظهر أمامك مقدمة البرنامج تقوم بحركات هي أشبه بحركات القردة، وترتدي ما يظهر مفاتن الجسد، وتتحدث بلغة عامية سوقية على الهاتف، وتحضر لك مفاجآت اللقاء بنجوم غناء الغرب، وتشرح حياتهم وزواجهم وحالات حبهم وسفرهم و...الخ
ما يدهشك ليس مقدمة البرنامج التلفزيوني فحسب بل تلك المكالمات الهاتفية ورسائل الفاكس التي تأتيها من كل أنحاء الوطن العربي، والكل يبدأ بالإعجاب والشوق والتحية لها، ومدة البرنامج على ما أذكر تصل إلى ساعتين من الزمان ،أولادي المراهقون يجلسون مسمرين لا يسمحون لي أبداً بأن أغير هذا القرف الذي يشاهدونه وكل محاولاتي لافهامهم أن ما يقدمون عليه من رؤية هذا البرنامج إن هو إلا تشويه لثقافتهم وتبذير للوقت الثمين الذي يمكن أن يصرف في أمور مفيدة، ومسلية تبوء بالفشل معا، مما يضطرني ذلك إلى إغلاق شاشة التلفزيون واستخدام سلطة الأب الشرقي، ولكنني لا استطيع أن أكون مراقباً في البيت لفترة طويلة من الزمان
مثال آخر: حين كان الجنوب اللبناني مشتعلاً بالمعارك ضد العدو القومي والطائرات الهمجية الفرنسية مرة وباللغة الانجليزية مرة أخرى، ويقدمون مقالب لبعضهم البعض، وينهون السهرة برقص جماعي، وبأجساد شبه عارية، وكأن ما يحدث في لبنان من مقاومة وكفاح إنما يحدث في بلاد الواق واق،
والذي يتابع هذه الشاشة الخطيرة، يعرف ما مقدار جهل وأمية هؤلاء الذين يطلق عليهم نجوم الفضاء الذين يجلسون مجيبين عن أسئلة مقدمة البرنامج أو المشاهدين وبين الكلمة والأخرى يحمدون الله على النجاح الذي حققه ألبومهم الجديد الذي يحط
من الذوق الفني للناس، واللافت للنظر أن معظم برامج التسلية هذه تبث بالاشتراك مع هذه الشركة أو تلك وهنا بيت القصيد،
فإذا جميع البرامج محولة من شركات ومحلات تحول ثقافة التسلية إلى دعاية وإعلان لمنتوجاتها، إني أعتقد أن خطورة ثقافة التسلية التي تخرب الشخصية العربية الآن أمر مخطط له ومدبر ومتفق عليه من قبل السلطات والشركات والخدم والإعلاميين، فهناك وظيفة أيديولوجية خطيرة تقوم بها ثقافة التسلية وهي إبعاد الجموع الغفيرة من الأجيال الشابة عن الاهتمام بالهموم التي تعصف بالوطن من كل جانب، وبالتالي الحيلولة دون انخراط هذا الجيل بالسياسة التي هي التعبير عن مواجهة هذه الهموم
إذا ثقافة التسلية هي ثقافة نسيان الواقع أولاً، فالاعتقاد بأن ثقافة التسلية تنسي الإنسان العربي المسحوق والمعذب والمضطهد والفقير قادرة على أن تغير واقعه النفسي أشبه بمدمن يولي وجهه شطر الخمرة لكي تنسيه همومه،
ناهيك عن أن ثقافة التسلية تحشو ذهن الشاب العربي بمعلومات لا قيمة لها ولا تنفعه لا في حياته العملية ولا في تنمية حياته الروحية
تأمل معي أيها القارئ أسئلة الجوائز المتعددة الآن:
ما اسم الرياضي الذي فعل كذا وكذا؟
من الذي حقق أكبر عدد من الأهداف في بطولة العالم لكرة القدم سنة كذا؟
ما اسم الممثل الذي قام ببطولة فيلم كذا؟
حزر.. ما هو الشيء الذي إذا كان كذا وكان كذا...؟ وهلم جرا
أبهذه الثقافة نواجه عالمنا المتقد؟ أبنشرة أخبار الرياضة التي تسرد لنا عشرات أسماء اللاعبين في كرة القدم والسلة والتنس والقفز والملاكمة والمصارعة وسباق السيارات؟ وبالمناسبة جميع هؤلاء أوروبيون،
ولا شك عندي أن نمط الحياة الأوروبية التي يعيش الإنسان فيها مستوى عاليا من العلاقات الرأسمالية حيث العمل من أجل تلبية الحاجات التي تخلقها التقنية المرسملة تقوم الآن باستبداد على مستوى العالم، فإذا بالبلاد التي يبحث فيها العباد من اللقمة والحرية والكرامة كبلادنا تقلد هؤلاء المتخمين الذين لا يعرفون كيف يصرفون وقت فراغهم،هناك في الغرب يتسلون بعد طول عناء من العمل، فيما ملايين الناس لدينا يبحثون عن أي عمل يقيتهم ويملأ فراغهم القاتل، هناك في الغرب لا يجدون تناقضاً بين نمط الحياة الذي تقدمه لهم برامج التسلية ونمط حياتهم، في حين أن تناقضاً صارخاً يقوم بين نمط الحياة التي
تقدمها برامجنا ونمط حياة المجتمع، خذ معي مثالاً واحداً من أمثلة عديدة تؤكد قولنا السابق، فهناك عدد من المحطات الفضائية يقدم برامج حول آخر صرعات الزي (الموضة) في الغرب وهو الزي الذي تطرحه شركات عالمية فرنسية أو إيطالية، فلو أخذنا الزي الوطني في معظم دول الخليج العربي والسعودية ومناطق واسعة من المغرب العربي، ومعظم القرى في العالم العربي سنجد أن برامج الأزياء لا علاقة لها بالزي الوطني، هذا أولاً.
ثانياً: إن سكان المدن في بلاد الشام ومصر والعراق وخاصة عنصر النساء يلبسون الزي الافرنجي بعامة، ولكن تصور معي معاناة الملايين من النساء العربيات في الحصول على آخر زي تبدعه الآلة الغربية،ناهيك عن أن المراهقات اللواتي هن أكثر استجابة للزي يعانون العرف العام والتقاليد العربية التي تميل نحو الزي الذي يستر مفاتن الجسد، وبالتالي فهم لو توافر لهن هذا الزي سيجدن انفسهن في صراع مع جيل الآباء والأمهات والمجتمع ككل،
فلو استثنينا مناطق جبل لبنان وبيروت، فإنا لا نجد حالة امتثال للزي الأوروبي في آخر صرعاته، وإن حصل ومشت مراهقة في شوارع عاصمة عربية ما وهي تظهر صرتها وجزءا من صدرها وبعضاً من مفاتن جسدها الآخرى، فإنها ستعاني النظرات الذئبوية، وعندها نتساءل:
ما قيمة برنامج عربي عرض آخر الأزياء الأوروبية؟
إن التسلية في النظر إلى برنامج كهذا تؤدي إلى توتر عائلي وشبابي ومجتمعي قلما يحسب حسابه مقدمو هذه البرامج، بل لقد وصل الأمر بدعايات وإعلانات السلعة لأن تغدو برامج تسلية، لما تنطوي عليه من مظاهر ملفتة للنظر، وأغان سوقية بات يحفظها جزء من الناس، فالدعاية لأية سلعة على شاشة التلفزيون أصبحت رسماً لصورة عالم مثالي من الوفرة والسعادة والهناء، هيهات للأسرة العربية أن تحقق الجزء اليسير منها، تصور معي حالات الملايين من الأمهات العربيات وهن ينظرن إلى دعاية للسمنة، أجل للسمنة،
صاحب الدعاية هنا يرسم أولاً مطبخاً أكبر من بيت الأسرة التي تشاهده، ثم يقدم امرأة منتقاة بعناية فائقة، ثم يقدم الأكل وأصنافه المتعددة في غرفة خاصة للأكل وبعد هذا كله وذاك أسرتها وتذهب إلى السوق راجعة بالنذر اليسير من السلع البسيطة، وتنظر إلى هذا العالم البهي للدعاية، لا تستطيع إلا الحياة على أنها في كل الأوقات حياة جدية،فاللعب جزء لا يتجزأ من الحياة، ولكن هناك فرقاً بين اللعب الصادر عن الشخصية والتسلية التي هي ايديولوجيا مدمرة الآن، وتقف وراءها قوى الرأسمالية الهمجية، إني أطرح أمراً خطيراً أيها القراء، حسبي أن أقول لكم: إن المشاهد العربي الذي ينتقل من مشاهدة منظر أطفال فلسطين وهم يقتلون والبيوت التي تدمر إلى برنامج (ساعة بقرب الحبيب) إن هذا المشاهد سرعان ما ينسى المنظر الأول ويمر بذهنه كلحظة وشيئاً فشيئاً تنمو لديه روح العبث،
ترى أية جريمة ترتكب حين ننسى عالمنا المأساوي وهمومنا الكبرى عبر أيديولوجيا التسلية المدمرة؟


* رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved