الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 4th October,2004 العدد : 79

الأثنين 20 ,شعبان 1425

تعقيباً على مقال الجلهم:
مع يتيمة ابن زريق .. مرة أخرى
اطلعت باهتمام على مقال قيم نشر بالمجلة الثقافية لجريدة الجزيرة عدد 73 بتاريخ 2382004م، تحت عنوان (وقفة مع يتيمة ابن زريق)، بقلم الأستاذ عبدالله البراهيم الجلهم. ولقد أحسن الأستاذ الجلهم صنعا بتناوله بالمدارسة والتحليل هذه القلادة الشعرية ذات الفيض الإبداعي الشعري المتألق، وأبدع في الإحاطة بكثير من الجوانب الفنية فيها.
على أني أود أن أشير، بادئ ذي بدء، إلى أن أول عهدي بهذه القصيدة الرائعة كان من خلال برنامج تلفزيوني يعده الشاعر المغربي صلاح الوديع الذي أبدع في إلقاء القصيدة إلقاء رائعاً استطاع من خلاله أن يكشف للسامع عن بواطن الجمال الفني ومكامن الإبداع في القصيدة وأن يستثير في نفسه عشقاً لها. وبودي أن أقف وقفة عجلى عند هذه النقطة. ذلك بأن كيفية إلقاء الشعر قضية جوهرية على جانب عظيم من الأهمية في تذوق الشعر وفي تحبيبه إلى النفوس، وهي مسألة أثارها الأستاذ صلاح عبدالصبور في دراسته القيمة (قراءة جديدة لشعرنا القديم) متحدثاً عن قصيدة المنخل اليشكري الشهيرة ببيتها الطريف (وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري)، إذ يقول صلاح عبدالصبور إنه بعد قراءات متعددة للقصيدة انقدحت في ذهنه على حين غرة صورة المنخل اليشكري وهو ينشد القصيدة في جمع غفير من السامعين ينفجرون ضحكا بينما هو يتلو أبياتها الطريفة، ليخلص إلى القول إن حسن قراءة النص الشعري هو السبيل إلى تذوقه، ولنا أن نزيد على ذلك بالقول إن للإلقاء أثراً بالغاً يشنف الأسماع ويفضي بالسامع إلى تعشق الشعر والإقبال عليه.
وعوداً على بدء، أقول: لقد استطاع الأستاذ عبدالله الجهلم أن يكشف عن مكونات الجمال والإبداع في القصيدة، فكان أن سعيت إلى البحث عن القصيدة، وهي تستحق بحق القراءة لا بل الحفظ والتأمل.
كان مما أثارني في هذه القصيدة أن ابن زريق قد هيأ لها مساحة زمنية واسعة، وكأنه كان من الممكن أن ينظم أبياتاً عدة قبل مطلع القصيدة. ولربّ قائل يقول إن القصيدة قد تكون بالفعل ناقصة، بيد أن دليلنا الخرّيت على أن مطلع القصيدة هو البيت نفسه (لا تعذليه فإن العذل يولعه).. هو وجود التصريع الذي دأب العديد من الشعراء منذ غابر العصور الشعرية على تصدير قصيدهم به (وهو تجانس حرفي الروى بين الصدر والعجز)، ليطالعنا الشاعر بحوار من جانب واحد وكأننا به قد سبقه حوار من الطرف الثاني الزوجة الملتاعة للفراق فأقلبت عليه تثربه وتعاتبه على صنيعه، وكأن لسان حاله يقول، كما ورد في إحدى الحكايات عن أعرابي اعتزم التظعان مخاطبا زوجته:
عدي السنين بعدنا وتصبري
ودعي الشهور فإنهن قصار
فلا تملك إلا أن ترد عليه:
اذكر صبابتنا إليك وشوقنا
واذكر بناتك إنهن صغار
فيتقدم شاعرنا البغدادي إلى الزوجة المكلومة مستعطفاً يتوزعه الأمل العزيز المنال في التماس سبل نيل بغيته المتمثلة في أن يحيا حياة رغيدة، والألم في مبارحة الزوجة وقد شط به المزار عن قمره الذي خلفه في بغداد ليفتقده في هاتيك الليالي الظلماء التي قضاها في النأي وكابد فيها لواعج الوجد والأسى للفراق جراء اضطراره إلى جوبان الآفاق سعياً وراء إدراك رغيبته، وكأن التظعان والتحمل قدره المقدور، وهكذا يقول متحسراً:
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
وعلاوة على ما تعج به القصيدة من لواعج
وأشجان، فلعل مما يستوقف القارئ والدارس لهذه القلادة الشعرية التي يخيل لقارئها وكأن ابن زريق خطها بعبراته وهي تنذرف من مآقيه، هو جانب الحكمة الذي ينتظم عدداً من أبيات القصيدة، ولنتأمل، بداية، البيت التاسع المضمخ بالحكمة إذ يقول:
وما مجاهدة الإنسان توصله
رزقا، ولا دعة الإنسان تقطعه
ولا بأس من الإشارة إلى أن هذا البيت ينظر إلى بيت لإيليا أبو ماضي واحد من كبار شعراء الحكمة يقول فيه:
لو كان يحصد زرعه كل امرئ
لم تخلق الدنيا ولم تتجدد
كما ينظر إلى بيت شهير للمتنبي بالمعنى ذاته. ويستطرد شاعرنا في الأبيات الثلاثة الموالية في إيراد حكم بالغة مفادها أن الورى ربما أهلكوا أنفسهم بالحرص في الرزق بينما الله قد قيّض لكل مخلوق رزقه، فكان أولى بهم أن يدعوا الأقدار (تجري في أعنتها) طالما أن المجاهدة والمكابدة في طلب الرزق ليست دوما سعيا مكفول التوفيق، يقول إذن:
قد وزع الله بين الخلق رزقهمُ
لم يخلق الله من رزق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصا، فلست ترى
مسترزقا، وسوى الغايات تقنعه
والحرص في الرزق، والأرزاق قد قسمت
بغي، ألا إن بغى المرء يصرعه
ثم يعود ليصور زوجته التي أضناه فراقها، وقد تجرع مر الخيبة حتى أترع قلبه اليأسُ وغدا نهباً للهم والغم، فما كان أمامه إلا أن يتوق إلى ملاقاة قمره يحمله جناح الشوق الذي شف جسمه وظلت تباريحه تلح عليه، وهو راجف الكبد قد برح به الألم، لتستحيل الوحدة لديه مناجاة سحيقة الغور متماوجة الأرجاء والأصداء، يصورها وكأنها ملك بلغه لكنه فرط فيه ولم يدبره كما ينبغي، صائغاً الصورة البالغة الروعة في حكمة بليغة:
رزقت ملكا فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا
شكر عليه، فإن الله ينزعه
والحق أن كل بيت من أبيات القصيدة يأسر قارئه، بما يثبت بالفعل أن ابن زريق شاعر يمتلك أدوات الإبداع الشعري الجميل. وما أجمل هذه الصورة المجازية البديعة في البيت 17 متحدثا عن مكابدته آلام البعد عن (غزاله الربيب)، ولكنه يغالب النفس بالصبر الجميل:
لا أكذب الله، ثوب الصبر منخرق
عني بفرقته، لكن أرقعه
وبالقدر نفسه من الروعة التي بدأ بها قصيدته، يختتمها ببيت حكمي هو أدخل في باب الشعر الصوفي، إذ لا يملك أمام كل ما صاغه من خلجات النفس ومشاعر الأسى إلا أن يعرب عن تسليمه أمام القدر الذي يظل المتحكم الأول والأخير في تحديد مصائر الخلق:
وإن تغلْ أحداً منا منيتُه
فما الذي بقضاء الله يصنعه؟
وخلاصة القول إن يتمية ابن زريق هاته هي بحق لؤلؤة شعرية بكل مقياس نستروح أريج شعريتها الرفافة الرقراقة في زمن نكاد نفتقد فيه مقومات الشعر الحقيقي إن لم نكن قد افتقدناها تماماً، تدعو القارئ والدارس على حد سواء إلى الغوص في أبياتها واستكناه مواطن الجمال والألق والإبداع الشعري الدافق فيها، بما لا يدع مجالاً للشك في أن ابن زريق شاعر مفلق يستأهل مكانة مكينة ورفيعة على خارطة الشعر العربي. وهي رائعة يمكن تناولها من عديد من الوجوه. وأخيراً وليس آخراً، يبقى لنا أن نتساءل بكل مشروعية: أوليس من المأسوف عليه ونحن إزاء هذه القصيدة الرائعة المتألقة أن ابن زريق، هذا الشاعر المبدع، لم يخلف لنا سواها، أو أننا لم نظفر من شعره بغيرها؟

عبد الحكيم خيرانجدة

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved