الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 4th October,2004 العدد : 79

الأثنين 20 ,شعبان 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
تقاسيم على غور الشجنيوسف أبو سعد
سعد البواردي

الغور جمعه أغوار.. تعني الأرض الهابطة..وبالتالي اختار شاعرنا أن يوقع تقاسيمه عليها.. وليته اختار توقيعه فيها.. لا يهم فمن حقه أن يختار على ماذا يُقسم.. اختار الأرض أن يعزف على ترابها. والعزف للأرض ومن أجلها أشرف من العزوف عنها.. من هنا جاءت الفرحة بتقاسيمه طاغية مرحباً بها من حيث المبدأ.. كيف جاءت ايقاعات تقاسيمه؟ بأي الأوتار استخدم؟! وبأي الأشعار تحدث؟! هذا ما يهمنا جميعا معرفته واستشرافه من خلال المتابعة في رحلتنا معه..
هو نفسه عرَّفنا عليها شعراً في مقدمة ديوانه الأنيق طباعة.. الديواني حرفاً:
( لا تخل هذه التقاسيم لغوا
أو حروفاً نظمتها للتسالي
هي دفق من مهجة تتلظى
وزفير على فم الموَّال!
كل حرف اخطه فوق طرسي
حفقة من تأوهي.. واشتعالي)
بداية مؤثرة بالفأل والأمل ان نلقى وهجا شعرياً يستجيب لروح الشاعر وطموحه في رصد خلجاته.. وانفعالاته الموسعة بتقاسيمها العذبة.. وايحاءاتها المعبرة.
(أمل) تلك كانت بدايته.. ولا شيء يسبق الأصل في حياة الانسان.. به يصنع الفكر.. وبه يرسم لوحات الشعر.. وبه يلج الى الحياة من بوابة العمل.. والعطاء.. متجاوزاً عقابيل اليأس.. وقيود القنوط.. أليس الحب أمل..؟ أليست الحياة حب؟!
(مدي لمضناك حبال اللقاء
وأنزلي الصادي بشط الوفاء
وهدهدي في المهد أحلامه
بهمسة الود.. ودفق الصفاء)
هل استجابت لضراعته.. ودعوته؟ هذا ما يعنينا أكثر.. شاعرنا مع معشوقة شعره.. ومع عش غرامه في نجوى وذكرى وتذكير:
( يا عش لا تيأس وكن صابراً
تقشع ضباب اليأس كف الرجاء
كم سادر مرت على سدره
سنين أوهام بدون اهتداء)
كف الرجاء يا صديقي لا تصنع شيئا.. إنها كف الوفاء وحدها.. وخشيتي أن تنتهي السدرة بحسرة لأنها مجرد أوهام لا تهتدي كما ذكرتَ.. وأحسب أن خافقك المعذب خانه أمله لأن أحلامه مجروحة.. هكذا أوحت نهاية الأمل بعذاب.. لا عذوبة:
(صبرا على بلواك يا خافقي
ان نز جرح في الحشا بالدماء)
حبال الصبر قصيرة وإن طالت.. وأحياناً طويلة وان قصرت.. أيهما اخترت لصبرك لا أدري.!
(دعي البكاء) مقطوعة جميلة مليئة بالشجن.. رغم بوادر فرحتها:
(كفي المناجات يا سجاعة الوادي
ورددي فوق أيك الحب انشادي
أتسكبين الحون الشجو باكية؟!
لتوقظي الوجد في خفاقي الصادي)
ربما أرادت لك ألا تنسى.. وربما أيضا تشتكي حالها فأنت.. لست وحدك الذي يعاني شجو الحب.. ويغني أيضا لشدو الحب..!
يمضي شاعرنا في بكائية لا يلوي على شيء.. فلا الشجاعة انقذته.. ولا هو أنقذ نفسه:
(شاخ الزمان الذي بالأمس أسعده
فأصبح اليوم في أشراك صياد)
حين يشيخ الزمان يشيخ معه كل شيء إلا الذكريات.. وإلا الدعوات الطيبات:
(يا رب طالت بكهف البؤس غربته
يحيا بواد ومن يهواه في واد)
هل تقطعت الأسباب؟! وأوصدت الأبواب أمام شيخوخة لا تقوى على الحركة؟!.. أخال ذلك..
(لكِ عمري) محطتنا الثالثة في رحلتنا مع الشاعر يوسف أبو سعد في ديوانه (تقاسيم على غور الشجن).. بماذا جاءت؟!
(لكِ عمري.. وأنتِ عمري الطليح
فكلانا في الحب.. قلب وروح
فرقتنا السنون بعد التصافي
وطوت صفحة الهناء الريح)
على وتر الاغتراب الوجداني يعزف.. ومن ثمار ذكرياته الحلوة المرة يقطف.. لا شيء إلا التذكير بالذكرى.. والذكرى أحيانا لا تنفع ولا تشفع لصاحبها وإنما توجع.. هذا ما تتحدث عنه النهاية:
(أنا أخبو على مجامر همي
كسراج مرت عليه الريح
هجرك الداء، والوصال دوائي
عانقيني لكي تعود الروح)
اشكالية شاعرنا انه يحب.. ولا يعرف السبيل إلى حبه.. الضراعة اضاعة للوقت.. من استهان بقلبك لا يستحق المطاردة وحتى لو جاءت سهام الحب نافذة كما تشير اليها مقطوعته (سهام الحب):
(اسقني الحب جرعة بعد جرعة
وأنر لي.. وللصبابة شمعه)
هذا النسق من الاستجداء يمضي شاعرنا دون أن يحرك فينا مشاعر القوة في الموقف.. لأنه باعترافه يجهل منابع حبه:
(لا تسلني عن الهوى. ما حداه؟
إنني أحتسي وأجهل نبه)
لا شيء في صوره الشعرية يختلف فمن السهام الى النار الى الاحتراق.. شيء واحد انتظره منه الاختراق واثبات الذات أمام معركة هو أحد أطرافها.. لهذا سأتجاوز الكثير من محطات شاعرنا الملوع أو الملوح لا فرق..
(نار النوى)، (لا تصدي)، (فرقد في القلب)، (طائر الشوق)، (في بحر عينيك)، (تعالي)، (لغز) محطات متجانسة في صورها، واطاراتها لم تخرج عن القاعدة.. لم تتزحزح عنها ولو قليلاً.. ونفتح مع فارس رحلتنا صفحات سوانح أفكاره.. ومن هجر مسقط رأسه الأحرى بتلك الذكريات:
(أيقنت يا هجر أني مغرم دلف
إذ كاد قلبي من الأشواق ينخطف
لما تغربت عن عينيك مرتجلا
الى سواك وأنت الروح والهدف)
دفقة انتماء تستحق أن تخطف.. وان (تقطف).. وإن كنت لا أرى خشية من الترحال لأن الوطن يسكن في أعماق أبنائه.. ويستوطن دواخلهم.. أليس هو القائل؟!
(هجر هي الروح، والدنيا لها جسد
هتانة من نداها الكون يغترف)
هكذا يقول كل مواطن عن وطنه.. قلت هذا مبكراً في صغري يوم أن تخيلت ان بلدتي شقراء هي قلب العالم يدور من حولها ويتحرك من أجلها.. الوطن شيء كبير مغزاه حتى ولو كان صغيراً في مبناه.. ومع هذا الوطن حب.. وفداء. وبناء. وتراث. وتاريخ. وحرية..
ومن هجر الى (سراج حبه):
(لا تحسبو روضة الباروك تلهيني
عن نخل هجر.. أو العاصي يسليني
يخبو السراح إذا جفت ذبالته
لكن زيت الهوى ملء الشرايين)
شهادة ثانية استشهد بها شاعرنا تأكيداً لالتصاقه بالأرض.. والأهل.. والأحبة.. ومن أمه الأرض الى أمه التي أنجبته:
(خيالك يا أماه روض لناظري
وصوتك إلهامي.. ولحن قياثري
رسمتك في قلبي شعاعاً يشدني
اليه هوى يسمو بصدق مشاعري)
كما أن خطاب شاعر لأمه جاء لحظة اغتراب أو سفر.. هذا ما يفسره بيته القائل:
(متى تسمح الدنيا بانهاء رحلتي
لتحيا بأكتاف الحنان مزاهري
قريباً قريباً. فاهنئي وترقبي
مجيئي. ولا تبدي كآبة حائر)
البر.. والحب ينضح جلياً بين أبياتها.. أليست الأم التي تستحق هذا. وأكثر من هذا؟! ماذا عن (الشمم) في تقاسيم شاعرنا؟!
(حطمت من غضبي ما كنت أجمعه
فبي شموخ أبي لست أخضعه
ينداح في ساحتي هم يضاجعني
يفت في أضلعي كالسيف مبضعه)
كبرياء نفتقر إليه جميعاً، في فكرنا.. وفي أطرنا.. وهو بيت القصيد.. ومربط الفرس..
(أجني ثمار الأذى من ثغر حنظلة
وورد قلبي على الصواري ازرعه
وأرفع النفس عن ذل يراد لها
وحنجري لضروب الذل أرفعه)
رائعة هذه الأبيات.. وأروع منها أن تتحول الى ممارسات تُفعَّل على أرضية الواقع.. والمواقع..
(في سبيل العلا)، (وتحية)، لوحتان من ذكرياته الحلوة لأننا على ما هو أحلى حيث الوطن بشموخه وشيوخه وأطفاله:
(من أي روض زهرها المتفتح؟
ونميرها من أي نبع يمنح؟
أمن السماء تدفقت خيراتها..
فزهت بها وديانها والأبطح؟
أم من حدائق عبقر شتلاتها
جاءت بثوب جمالها تترنح؟!)
يجيب شاعرنا أبو سعد على تساؤلاته:
(هي نهضة مجبولة من جنة
قسماتها بسنا الهداية تنضح
أسد الجزيرة قد أشاد دعامها
ولكل شبل في التقدم مطمح)
حبذا لو أنه أحل مفردة (كيانها) بدلاً من (دعامها).. القصيدة معبرة ومليئة بالصور الوطنية والجمالية عن نهضة وطننا الغالي:
(الشعب أمسى ناهلا من شهدها
نشوان يسرح في المروج ويمرح
فكأنه مما يخالج نفسه..
طير يرفرف في الرياض ويصدح)
بقدر ما نطوي من مسافة الرحلة نطوي مساحات من صفحات الديوان على غير رغبة.. مسيرين لا مخيرين.. فقط نملك حرية اختيار البعض وتجاوز البعض الآخر.. (اشراقة) اشتاقني نيابة عنكم الوقوف أمامها:
(وجهك الفاتن الصبح تألق
مثل بدر على البسيطة أشرق
رف يزهو بوردتين بشوشا
وبعقدين من أقاح وزنبق)
يبدو أن شاعرنا عاوده الحنين الى عشقه.. ربما في محاولة متأخرة على أمل أن يكسب جولة حبه. وينتصر لقلبه.. ولو كان عشقه هذه المرة عشق مجال طبيعي يعوضه عما فات.. المهم أن يملأ رئتيه راحة واستراحة بعد طول جهد واجهاد:
(يا فؤادي المشوق رفرف عليه
كهزار على الخمائل حلق
وتأمل جماله دون خدش
لورود أكمامها تتفتق
وأجب العشق أن يصان جمال
يتراءى كلؤلؤ يتألق
يا ضفاف الجمال رفقا بقلبي
كاد قلبي من شوقه يتمزق)
(بين عهدين) ذات العناوين الأربعة تتحدث عن ذكريات طفولته. وربما رجولته في مقارنة بين مرحلتين.. الأولى طفولية بعنوان:
(مرح وترح) اجتزئ منها هذه الأبيات:
(كنتُ طفلا في ميعة العمر يمرح
خالي الباب بالبشاشة ينضح
دغدغته الحياة فافتر ثغراً
وتهادى به خيال مجنح..)
وماذا بعد حلمه الطفولي هل بقي معافى أم تكسر على هبة رياح العمر؟!
(كان طفلا فأصبح اليوم كهلا
قد تداعى إما مشى يتأرجح)
(إما) حسنا لو انه أحل مكانها (إذا) أحسب أنها أنسب.. ماذا عن نفحاته ولفحاته.. أي مرحلته الثانية؟!
(كنت طفلا في هدأة الكون ينعم
يستشف المنى فيجني، ويغنم
كنت طفلا خطا على الورد نشوا
من يناغي الجمال انى تبسم)
وإلى أين انتهت به الحال؟ واستقر به المآل؟
(غاب طيف الشباب يا ويل قلبي
ذلك الطفل بات كهلاً مهدم)
نفس النهاية.. ماذا ينتظر شاعرنا في عنوانه الثالث (أحلام، وآلام)؟
(كنت طفلاً لكل نصح صديا
تخذ الحق منهجا قدسيا..
رشف النور من ثغور المثاني
ووعى قلبه الحديث السنيا)
هل انه تمرد على مثالية صغره؟ آلامه ونصف عنوانه في انتظارنا..
(يا زمان الشقاء أفزعت شمسي
وبدربي مددتَ الدجى سرمديا
ها أنا قد رضيت سهم بلاء
فت في القلب قاسياً نابغيا)
هنا أتوقع مع شاعرين في نقطتين. الأولى شطره الثاني (وبدربي مددت الدجى سرمديا) البيت يحتاج الى عكاز يتوكأ عليه. وكي لا يحتاج اليه يأتي كما يلي:(وبدربي مُدَّ الدجى سرمديا).. الثانية مفردة نابغياً غير مفهومة.. والأصح.. وبغياً.. هنا يكتمل المعنى..
(أطياف وأشباح) آخر مقطوعاته الأربع.. الأكثر توحشاً وقلقاً:
(كنت طفلا بالأمس يغتر.. غضا
يذرع الدرب كالفراشات ركضا)
قبل التواصل معه أشير الى أن (كالفراشات جملة معترضة وحتى نحتفظ للطفل بركضه لا الفراشة يستحسن أن يكون كما يلي):
(يذرع الدرب كالفراشات ركضا)
ونمضي فيه حكاية أطيافه وأشباحه التي ننهي بها مسار رحلتنا مع شاعرنا المجيد (يوسف أبو سعد).
(كنت طفلاً أنى رنا أبصر الكون
خلوبا.. فعاف جفناه غمضا
عاش طيرا من القيود طليقا
يتهادى في الروض طولا وعرضا)
عاش طيراً غير مناسبة حبذا لو (عاش حراً) لتوافقها مع الشطر.. وأخيراً أين هو القطاف في نهاية المطاف؟!
(ذلك الطفل صار شيخاً عجوزاً
يتداعى ان رام للعزم نهضا
زهرة العمر افلتت من يديه
والشباب ائتلافه قد تقضى)
تلك هي سنة الحياة يا شاعرنا.. وحمداً لله على السلامة من أشباح روعتك لم نجد لها مكانا في ثنايا قصيدتك.

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved