الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th December,2006 العدد : 179

الأثنين 13 ,ذو القعدة 1427

هل سيموت البطل؟
د. إبراهيم محمد الشتوي

أتصور لو أن كاتبا أراد أن يكتب مسرحية عما وقع في العراق من أحداث منذ الغزو الأمريكي إلى اليوم فلن يجد أحسن، ولا أكثر بناء فنيا مما وقع في الحقيقة، فمهما يمكن أن يقال عن صدام حسين من نعوت سيئة، فإنني أظن ما قام به في مواجهة الأحداث الأخيرة تكشف عن عقلية غير عادية، وشخصية عميقة جدا. كنت أتحدث إلى أحد البغداديين فقال لي: إن صدام حسين قد خسر كثيرا من أنصاره حين وجدوه في القبو، وقال: إنهم كانوا يتوقعونه يقاتل الأمريكان، ويقود عمليات المقاومة، أو على الأقل يدافع عن نفسه كفعل الرجال كما فعل أبناؤه الذين دافعوا عن أنفسهم إلى آخر رمق، لكن الذي حدث فاجأ الجميع، فصدام حسين البطل الصنديد المناضل قائد حزب البعث الذي دافع عن شرف العرب والعروبة يختبئ مثل جرذ تحت الأرض، ويسلم نفسه ساكناً مثل قط أليف، أو فأر أتعبه الركض وحجر في الزاوية. كان من الممكن أن يتم السيناريو بهذه الصورة، وتأخذ المسرحية هذا الاتجاه من الأحداث، ويسقط صدام حسين مضرجا بدمائه في معركة المقاومة كما مات من قبله الشرفاء العظماء المقاتلون، و(ليس الكريم على القنا بمحرم) كما يقول عنترة بن شداد، لكن المسرحية ستنتهي وستبلغ الأحداث ذروتها قبل أن ينتهي وقت العرض، وسيشعر المخرج والكاتب معا بالحاجة إلى إضافة مشاهد كما يحدث في مسلسلات رمضان لإمضاء وقت المشاهدين في المسرح. أو كان من الممكن أن يوقع اتفاقية وأن ينسحب كما فعل أبو عبد الله الصغير في الأندلس، وهنا سيجد المؤلف والمخرج نفسيهما محرجين لأن المسرحية انتهت قبل أن تبدأ، ولن يكون هناك فرصة لكل ما يحدث الآن في العراق من مظاهر تطهير عرقي، واقتتال طائفي، وضغط على الدول المجاورة باتهامها بتصدير الإرهابيين، أو تهريب السلاح، أو تخويف بعضها بالمآل الذي ستؤول إليه بعد أن يصيبها ما أصاب صدام، كما أن المؤلف والمخرج سيواجهان أزمة التعامل مع ما بعد صدام. بصورة أخرى ستتحول المسرحية من فك أسر العراق من الطاغية إلى تصوير ماذا حل بالعراق بعد دخول المحتل، أو بصورة أخرى بعد أن أصبح بيد الأمريكان، ومن هنا سيكون الموضوع مختلفا والمسؤولية كاملة على كاهل الغازي المحتل الذي أخذ العراق بلا قتال، وهنا لا بد أن يكون قد أعد لمرحلة ما بعد الدخول، ويكون قد ساس البلد، وهنا أيضا لا قيمة للمقاومة، ولا لصراع السنة والشيعة، أو الأكراد والعرب لأن التحول كان سلميا، والاتفاقات صيغت على ورق قبل اندلاع الأزمة، ولن يكون هناك ضغوط نفسية، ولا اغتيالات يضغط بها على أحد. إضافة إلى أن عنتريات صدام ستكون قد انتهت بسقوطه في المعركة، ولن يبقى منه سوى اسم ربما يحتاج بعض السياسيين أن يستعملوه في معركة جمع الأتباع والحصول على السلطة والنفوذ، أو بانسحابه منها وخروجه من العراق، وهنا قد ينتهي في فراشه على يد أحد الموتورين من عائلته، وما أكثرهم، بعيدا عن عدسات التصوير. من هنا كان صدام حسين حكيما محنكا حين اختار الحل الأخير، ورضي بأن يختفي كالجرذ في حفرة حقيرة - على حد تعبير البغدادي، فقد نمى الحدث بصورة درامية بمهارة فنية عالية، فكما أنه يمثل تشابك الأحداث وذروة تناميها فهو يعطي صدام حسين فرصة الظهور، والاستمرار في حلبة الصراع كبطل أسير في يدي الغازي المحتل، يستطيع من خلال ظهوره المتكرر في وسائل الإعلام في المحاكمة من إصدار التصريحات والظهور بمظهر البطل المناضل الذي لا يركع ولا يخاف، ويمارس دوره كبطل في المسرحية، وكشخصية ذات أهمية في الحرب على العراق في البعد الحقيقي بينما هو ذو أهمية فقط في البعد الفني منها.
وإذا كان هذا الأمر كما يبدو لصدام حسين البطل، وللكاتب والمخرج (جورج بوش ورامسفيلد)، فهل هذا يعني أن النص مكتوب وأن الممثل صدام قد حفظ الدور جيدا؟ أم يعني أن هناك تواصلا لا واعي بين صدام حسين وجورج بوش، أم أنها نمط جديد من المسرحيات يشترك الممثل مع الكاتب في صنع الأحداث ويتمرد، وقد يشترط النهاية التي يريد؟
تنتهي المسرحية بهذه الصورة: يحاكم البطل بوصفه عدوا للإنسانية من قبل محكمة شكلت من لدن غاز محتل تسبب في قتل الأطفال والنساء، والشيوخ، وظهرت فضائح جنوده في أبو غريب وفي الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام. هذه المحكمة تقضي عليه بالإعدام، فيصرخ عند سماع الحكم: الله أكبر والهزيمة للمحتل، وبعدها بقليل يعلن قائد البلد المحتل بأن هذا الحكم كان دقيقا ومنصفا، في الوقت الذي تصرح فيه جماعة أوقفوا الحرب في بريطانيا بأن محاكمة صدام حسين ينبغي أن تتبع بمحاكم جورج بوش وتوني بلير.
نهاية درامية فنية ناجحة إذا كان المؤلف والمخرج يرغبان في إنهاء المعركة/المسرحية، والخروج من المسرح بوصفه قد أدى ما عليه وحرر البلد، وأعاد العراق للعراقيين بالقسطاس المستقيم. أما إذا كان يريد أن يحول المسرحية إلى مسلسل على طريقة سوب أوبرا (SOAP OPERA) فإن الحلقة القادمة يمكن أن تبدأ وقد هرب البطل إلى إحدى الدول المجاورة لتبدأ الأحداث من جديد عن طريق البحث عن الهارب، ومحاصرة البلد المتهم بإيوائه. هناك احتمالات أخرى تدور حول استئناف المحاكمة، وربما عرض جرائم أخرى، وهي جميعا لا تسهم في إذكاء حماس المشاهد، وستجعل الملل يتسلل إليه، فهي بمثابة المشاهد التي سبقت الإشارة إليها في مسلسلات رمضان، مما يجعلني أستبعد أن يلجأ إليها كاتب ومخرج محترفان.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved