الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th December,2006 العدد : 179

الأثنين 13 ,ذو القعدة 1427

الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (9-13)
تاريخية الأديان - تاريخية الإسلام - نزع المقدس
د. عبدالرزاق عيد

انطلاقاً من هذا المنظور الذي يقشر التاريخ من لحاء المقدس، فإن محمد عبده يخضع التاريخ الديني للتاريخ الوضعي، فيصبح التاريخ تاريخ أفعال البشر لا تاريخ الجبرالإلهي: قضاؤه وقدره، ووفق هذا المنظور يتناول تاريخ الديانات بما فيها تاريخ الدين الإسلامي، وجوهر هذه التاريخية أنها تخضع لمبدأ العلل السببية الكامنة وراء سلسلة الحركة التاريخية المحكومة بقانون التطور والتقدم، وهي التي تفسر هذا الجدل بين الوحي والتاريخ، والشريعة والمُشرع لهم، كما يفسر الشاطبي (أمية الشريعة)، فها هو يستعير المفهوم الخلدوني: إذ يحدثنا (إن الأمم في أحوالها العمومية كالأشخاص في أحوالها الخصوصية، وكما أنه لا يمكن للطفل أن يتعلم الأفكار البالية إلا بعد ان يتعلم القراءة ويتدرج في التعليم، وقياسا على هذا فمن الخطأ بل من الجهالة أن تكلف الامة بالسير على ما لا تعرف له حقيقة او تطلب منها ما هو بعيد عن مداركها الكلية.. إنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية ثم تطلب بعض التحسينات فيها.
فإذا اعتادها (افرادهم طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى) - الأعمال الكاملة (ج3 - ص 373.
هذا النص ينطوي على عدد من المفردات تمثل أدوات مفاهيمية أساسية في تقميش خطاب الامام التاريخي التطوري (التدرج - تحسينات- الارقى- الأعلى) وهي تشكل عناصر مصفوفته النظرية عن التطور الذي يسير إلى الأرقى ومن ثم الأعلى، وهكذا يغدو التقدم عنصرا مفتاحيا في رؤية الإمام لغاية التطور وبالعكس أيضا يغدو التطور غاية التقدم، حيث (مفهوم) التقدم يمثل روحية العصر الحديث، وقد اوردنا من قبل نصا لأحد فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر وهو كوندرسيه (1743- 1794) مفعما بالتفائل والثقة بالمستقبل من خلال ثقة لا تتزعزع بقانون التقدم يقول: (ليس ثمة حدود مرسومة لتقدم الملكات الإنسانية، لأنه لا حد على الإطلاق لقبول الإنسان للكمال، وبما أنه ليس ثمة قوة اعلى من الكمال، فإن مسيرة الانسان نحو الكمال لن تعرف حدا ولا نهاية... وسيأتي يوم لن تشرق الشمس إلا على الامم الحرة... ولا يجد الكهنة ولا الطغاة ولا العبيد واتباعهم الأغبياء المنافقون أي مكان له، اللهم إلا على صفحات التاريخ وخشبة المسرح.
وعلى هذا فالتاريخية هي التي تمنحنا ملاحظة النسبي في حركية الزمان المتعاقبة بتحديد حلقة التطور في سيرورة التراكم، فلكي نتجاوز لا بد لنا أن نملك، (إذ من الخطأ أن تكلف الأمة بالسير على ما لا تعرف)... وأن تطالب بما هو (بعيد عن مداركها الكلية) فحركية التطور تراكم وفق مبدأ (التحسينات) لا وفق الانقلابات والطفرات - سنعود لاحقا إلى تجربته مع ثورة عرابي الانقلابية - حيث التراكم يتطلب أن تهضم الأمة (التحسينات) لتغدو جزءا من كيانها، وعنصرا تكوينيا في بنية نسيجها، للتحضير لانتقالات وتحسينات تدريجية جديدة، بعد أن يتم استيعابها ومن ثم التخلص من الموروث المنحط، والأخذ بما هو ارقى وأعلى.
وهذه الرؤية التاريخية المؤسسة لمفهوم التدرج في النمو والتطور التي وجدناها جامحة حتى الحد التي تخضع فيها الأديان ذاتها للتطور التاريخي، كما فسر فيها تاريخ قيام الديانات، فإنه ينتقل بالمنهج في (رسالة التوحيد) ذاتها إلى وضع مقدمة تاريخية تمهيدية للمقاربة الكلامية لعلم التوحيد (هذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلها من المحاولات الرائدة التي تكرس ريادية الإمام محمد عبده، لنموذج المثقف الحديث، الذي يفسر تاريخ الصراعات الكلامية في علم التوحيد، بوصفها تاريخ صراعات اجتماعية وسياسية، فنحن تجاه تجربة جديدة ستتواصل مع تلاميذ الإمام- تفسر اللاهوتي بالدنيوي، وعلم التوحيد الإلهي بواقع التمزق البشري، أي رصد الوحي من خلال حركته حدوثه في التاريخ، وليس داخل نسق قدمه الذي يعود به إلى اللوح المحفوظ.
يعود إلى زمن النبي الذي كان المرجع في تفسير كلام الله، وظل الناس مشغولين بقيادة الخليفتين- ب (مدافعة الاعداء وجمع كلمة الاولياء، وإذا جرت بعض الخلافات فإنها في أغلبها) كانت في فروع الأحكام لا في أصول العقائد، ثم كان الناس في الزمنين يفهمون إشارات الكتاب ونصوصه، يعتقدون بالتنزيه، ويفوضون فيما يوهم التشبيه، ويرون أن له معنى غير ما يفهمه ظاهر اللفظ (المصدر السابق ج3(ص 376) وكانت أولى المسائل: مسألة الاختيار واستقلال الانسان بإرادته، ومسألة مرتكب الكبيرة دون توبة، وراحوا ينازعون أهل الجبر الذين (ذهبوا إلى أن الإنسان في عمله الإرادي كأغصان الشجرة في حركاتها الاضطرارية) ثم اختلفوا في اثبات صفات المعاني للذات الإلهية أو نفيها عنها، وإلى تقدير سلطة العقل في معرفة الأحكام الدينية، فغالى آخرون: الظاهرية وأهل الحديث عنادا للأولين، إذ انكروا التأويل وإعمال العقل فيما وراء ظاهر النصوص.
محمد عبده إذ يسترسل مكثفا البيئة الفكرية الدينية لكنه في كل محطة يقوم بالإشارة إلى المُناظر أو المعادل السياسي للحركات الفكرية، ويعبر عن ذلك بألمعية مبكرة: (وكانت الآراء في الخلفاء والخلافة تسير مع الآراء في العقائد كأنها مباني الاعتقاد الإسلامي)، إنها لفتة تاريخية مبكرة لرصد حركة الديني بحركة الدنيوي، إذ يتأسس الأول على الثاني، بعد أن يتم تحوير وظيفة الإلهيات بوصفها سموا وارتقاء بالانسانيات، في خدمة الدنيويات السلطوية، حيث ستتحكم السلطة بشكل حضور الوحي في التاريخ، في نقله من وظائفه الروحية والأخلاقية والتربوية، إلى مجال القوة والسلطة والنفوذ...! ووفق علاقة التناظر هذه يرصد الإمام تشكل مذهب الاعتزال منذ (اعتزال) واصل بن عطاء (80-131) لمجلس استاذه الحسن البصري، إذ أخذ واصل المسمى ب(الغزال) القول بحرية الانسان واختياره من معبد الجهني، وأخذ القول بالتنزيه عن جهم بن صفوان.
إن دخول اليونان إلى فضاءات علم الكلام، سيبدأ مع أتباع واصل الذين لجوا في إدخال العلوم اليونانية لتأكيد العقائد الإسلامية، فأيدتهم الدولة العباسية وأمراؤها الذين قدروا للفرس دورهم في إقامة دولتهم وموقفهم معهم ضد الأمويين، فاعتمدوا على طلب الأنصار فيهم (فعلا أمر كثير منهم وهم ليسوا من الدين في شيء، وكان فيهم المانوية نبيهم ماني- وهم يقولون بالنور والظلمة واليزيدية والمزدكية وهي فرقة منهم، فانتشرت أفكارهم حتى ظهر الالحاد وتطلعت رؤوس الزندقة حتى صدر أمر المنصور بوضع كتب لكشف شبهاتهم وإبطال مزاعمهم).
إن الروح التنويري عند الإمام يتراءى من خلال تناول هذه التيارات بحيادية العالم لا بوعظية الفقيه الذي يوزع عواطفه ومشاعره على التاريخ ف(يشيطن) هذا و(يؤمثل) ذاك، وكأن التاريخ ليس إلا تجليا لرغباتهم المكبوتة، ومشاعرهم المأزومة.
الإمام: رائد مناصرة الفلسفة
في العصر الحديث
وإذا كان المذهب الأشعري ومناصروه قد أغلقوا باب الاستدلال، بانغلاق منظومتهم اليقينية، فإن الغزالي وفخر الدين الرازي المولود بالري 544هـ سيخالفونهم الرأي، فليس ثمة حجر في الاستدلال، وهذا ما سيستفيد منه الغزالي في معركته الحاسمة ضد الفلاسفة والفلسفة، حيث يرى الإمام أنه النهاية المؤسفة للفلسفة كانت على يد الغزالي، وذلك ربما يكون أول موقف في مناصرة الفلسفة بعد رد ابن رشد على الغزالي في (تهافت التهافت)! يخص الإمام تقديرا كبيرا للفلسفة، إذ هي تستمد آراءها من الفكر المحض، وكان همها (تحصيل العلم والوفاء بما تندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول أو استكناه معقول).
وهنا سيكرر موقفه رغم حياديته العلمية في البحث والعرض- وهو أن أهل الدين لم يضيقوا على الفلاسفة، بل أطلقوا لهم الإرادة وما شاؤوا مما يتمتعون به في تحصيل لذة عقولهم، وإفادة الصناعة، وتقوية أركان النظام البشري، بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة في ضمائر الكون، مما أباح الله لنا ان نتناوله بعقولنا وأفكارنا في قوله: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) البقرة 29.
ويمضي الإمام في تمجيد قيم العقل، وما خصه الله من رفعة الشأن حيث ينتهي إليه (أمر السعادة) والتمييز بين الحق والباطل.
إذن فسر السعادة في العقل، وليس في الغياب كما يسود الاعتقاد عن الصوفية، فالسعادة هي اكتناه سر الوجود عقلا لبلوغ تلك الرعشة التي تسكن هذا الوجود روحا.
والعقل في عالم العيان، هو عقل (العقلانية)، أي العقل القادر على معرفة الحق من الباطل، ملتقيا بذلك مع الفهم الاعتزالي عن القبيح والحسن، والذي يدعوه الإمام في مواطن اخرى: الجميل والقبيح، العقل في عالم الاعيان، في واقع التجربة البشرية، هو عقل مستقل عن الدين، يرى الطبيعة وفق نواميسها، والتاريخ وفق قوانينه، وربما كان الإمام هو اول من استثمر الحديث الشريف وظيفيا: (أنتم اعلم بشؤون دنياكم)، أي استثمارا مدنيا عقلانيا محفزا العقل على اطلاق اسئلته، وربما كان هو المستثمر الأول للبعد التاريخي المدني البشري لغزوة بدر، حيث سن الرسول بموقفه في غزوة بدر سنة (الأخذ بما صدق من التجارب وصح من الآراء) (الأعمال- المصدر السابق ص 382)، لكن هزيمة الفلسفة -فيما يرى الإمام- كانت بسببين، الأول: الإعجاب بما نقل إليهم الفلاسفة اليونان، وخصوصا أرسطو وأفلاطون، ومن تقليد هذه الفلسفة في البداية.
ثانيا: ما يسميه ب (روح الوقت) وهذا التعبير ينتمي إلى القاموس الاصطلاحي الفلسفي لهيغل، بما بات يتداول في الترجمات العربية لهذا المصطلح ب (روح العصر)، الذي يفتى فلسفيا في المصفوفة الهيغيلية: ب (تعيّن الروح المطلق في الزمن المعاصر)، وما يعنيه الامام بذلك، أن الفلسفة تدخلت بما ليس لها فيه شأن، وهو شأن أهل النظر في الدين ومنازعاتهم التي كانت تميز (روح وقتهم)، مما أدى إلى أن يميل عليهم حماة العقائد قدحا، وجاء الغزالي المقصود كتابه (تهافت الفلاسفة) ومن على طريقته فتناولوا كتبهم وقرأ كل ما يتصل بشؤون الدين، واشتدوا في نقدهم، حتى اسقطوا منزلتهم في النفوس ونبذتهم العامة ولم تحفل بهم الخاصة، ويختم الامام رأيه بدور الفلسفة والفلاسفة متأسفا على ما كان يمكن أن يقدموه للعالم الإسلامي قائلا (ذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الإسلامي من سعيهم) الأعمال - المصدر السابق ص 382.


abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved