الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 5th January,2004 العدد : 42

الأثنين 13 ,ذو القعدة 1424

الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية
علي الدميني
«تجربة شخصية»

نُشرت الحلقة الأولى من مقال الأستاذ الدميني على أنها «13» والصحيح أنها «15» مما اقتضى التنويه والاعتذار.
ما أنضج الإسهامات المبكرة والمتميزة في كتابة الشعر الحر، والتي جمعت بين تشكّل الوعي المغاير، والمقدرة الإبداعية على تمثله، فقد توفرت في شعر عبدالرحمن المنصور، من حيث تشكيل مساحة الصورة الشعرية الواسعة، وحساسية توزيع العبارة الشعرية، وبناء المعادل الموضوعي للشحنة الشعورية، والاتهام بالحس الاجتماعي، والانتباه الواعي للمستجدات الفكرية والسياسية. وقد احتفى به العلامة حمد الجاسر حيث نشر قصيدته الموسومة ب «ميلاد إنسان» في العدد الأول من مجلة اليمامة التي أصدرها الجاسر في عام 1952م، كما نشرت له جريدة «الفجر الجديد» في الخبر عام 1954م عدداً من قصائده الملفتة.
ونثبت هنا مطلع قصيدة المنصور المشار إليها:
«أنعيش والمحراث والفأس الثليم
والأرض نزرعها، ويحصدها الغريم
وكآبة خرساء
تقضمنا على مر القرون
لا فرحة
لا بهجة
غير الكآبة والأنين.»
ويبدو لنا، حين ننظر إلى ما تم جمعه من شعره مؤخراً، في ديوان، بأنه كان من أكثر الشعراء في مرحلته إخلاصاً لكتابة قصيدة الشعر الحر، بدلالة أن أغلب قصائده المنشورة في الديوان كتبت وفق هذا النسق، غير أن تجربة السجن، ثم الانغماس في مشاغل العمل الإداري فيما بعد، قد دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر» فخسرته المشاهد المحلية، والعربية، وخسر نفسه حين جّمد الكلمة على شفتيه» بحسب الدكتور حسن الهويمل.
وقد أثبتت ممكنات التفتح الثقافي في مستواها الفردي قدرتها على المتابعة وتصاديها مع حركة التجديد الشعري في الوسط الثقافي العربي والإنساني، حيث كتب ناصر أبو حيمد ومحمد الرميح قصائد الشعر الحر وقصيدة النثر في الخمسينيات نتيجة لانفتاحهما على الثقافة الغربية ولتواجدهما خارج البلاد، كما أن فوزية أبو خالد انحازت لكتابة قصيدة النثر منذ أواخر الستينيات نتيجة لنفس الأسباب، ومن النماذج اللافتة لقصيدة النثر ما كتبه محمد الرميح أثناء زيارته لمعرض لوحات فنية في إيطاليا، في أواخر الخمسينيات، حيث يقول:
«آلاف اللوحات
على الحائط الأزرق الطويل
عيونها المنفتحات
تحدق بي
تسمرت أحداقها في معطفي
وآلاف الأيدي تلوح لي
تقول لي:
«نحن هنا في يويتوبيا
أسرة واحدة
فلا تشتر منا شيئاً»
كما سجلت تجربة الصدى استمرار بعض الشعراء في المزاوجة بين كتابة الشعر العمودي والشعر الحر، منذ أواخر الخمسينيات وفترة الستينيات مثل سعد البواردي، وحسن عبدالله القرشي، وعبدالله العثيمين، وسواهم، حيث يقول سعد البواردي في قصيدته: تلك بلادي يا فلنتينا (وفنلتينا أول رائدة فضاء في تاريخ البشرية)
«فلنتينا
يا زهرة الفولغا
يا بعثة الأرض إلى الفضاء
وأنت تعبرين الكون
في مركبة الفضاء
هل أبصرت عيناك شيئا
اسمه الصحراء؟
كثبان رمل أحمرٍ
يدعونه الدهناء»
غابات نخلٍ..
اسمها القطيف والأحساء
وبلدة ناعسة الجفنين
اسمها شقراء
وبئر ماءٍ
عمقها شيء بعيد
دون ماء»
بيد أن كل تلك الجذوة الشعرية ذات النزوع نحو الحداثة الشعرية لم تجد المناخ الملائم لكي تنجز صوتها الخاص وملامحها المختلفة، التي تهيئها لتجاوز شكلانية توزيع الجملة الشعرية، والتوفر على مقومات صياغة النموذج المؤثر، والديناميكي الفاعل، إلا منذ منتصف السبعينيات، حيث أسهمت مختلف العوامل في التأسيس لكتابة قصيدة الشعر الحر، والتعريف بجمالياته، رغم قوى الممانعة في الوقوف ضد التجربة.
ثانياً: مخاض السبعينيات:
محمد العلي
توفرت للسنوات الأخيرة من مرحلة الستينيات وعقد السبعينيات عوامل إثراء وتغيير شاملة، سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، هيأتها لدخول مرحلة الإخصاب والولادة، حيث استقبلت البلاد في أواخر الستينيات ، أفواجاً من أكاديمييها العائدين من الدراسة في الغرب في حقول الأدب والاجتماع واللغات الأجنبية مثل الدكتور منصور الحازمي، والدكتور عزت خطاب، الذين أسهموا مع الشعراء والنقاد السعوديين والعرب المقيمين في المملكة مثل الدكتور أحمد كمال زكي وفواز عيد، وعبدالرحيم نصار، ومحمد العلي وعبدالله نور وعبدالله الماجد، والدكتور محمد الشنطي، وشاكر النابلسي، ونبيه شعار، في توسيع دائرة تقبل القارئ لقصيدة الشعر الحر، من خلال مشاركاتهم في الكتابة للصحف المحلية التي فتحت بدورها منابرها لهم.
وقد لعبت «الصفحة السابعة» في «عكاظ» وملحق البلاد الأدبي، والصفحات الأدبية في الرياض ومجلة اليمامة، دوراً تأسيسياً، منذ مطلع السبعينيات، في غرس بذور حساسية فنية جديدة، لغة ودلالة، حيث تخلت الجملة الشعرية عن بلاغتها التراثية، وتفتحت لغة القصيدة على المفردة اليومية، واحتفى النص الحديث بدلالة الوطن الملموس، لا الوطن المغيَّب بين تراكمات النصوص الاحتفالية الباردة، أو المعوَّم فوق خارطة العروبة الشاسعة.
ويمكننا باطمئنان القول بأن تياراً شعرياً قد تبلور خلال عقد السبعينيات، حاسماً خياره الشعري ضمن أفق قصيدة التفعيلة، ومعتمداً على تنوع مكونات ثقافية وشعرية متباينة، وبنت الأسماء المؤثرة فيه فاعليتها النصية على استلهام تجليات الوطن الحلم، والوطن المدينة الفاضلة، والتشوف إلى مثالات الحرية، والاهتمام بقضايا المرأة، حيث غدا مرموز المرأة نصا يتعالق فيه الحب الإنساني والوطن الحلم المأمول، الذي ينعم فيه الناس بتحقيق أقانيم الحق والعدل والحرية، والجمال، ولعل هذا التيار هو الأكثر تعبيراً عن أحلام مضامين الخطاب التحديثي، والنقدي الغاضب الذي بثه العواد طوال مسيرة حياته الثقافية.
ولتثبيت الحقائق التاريخية، فإن علينا أن نتوقف أمام فاعلية شاعرين من أبرز الشعراء في بلادنا، وهما محمد العلي، وغازي القصيبي، واللذين يشتركان في الحصيلة المعرفية التراثية، وفي تميزهما في إبداع القصيدة العمودية ذات النزوع التجديدي، وفي تجاوزهما أسوار تلك التجربة، إلى الانفتاح على ثقافة العصر في بعديها الفكري والإبداعي، وبما أبدعاه داخل نسق شعر التفعيلة.
وخلال تلك الفترة، ساهم غازي القصيبي، في إغناء مشهدنا الشعري الحديث، وفي التصدي لتحدياته، بكتابة شعر التفعيلة، ضمن نسق تشكل من خلفيته الشعرية المنغمسة في التراث العربي ومن خلال تأثره ببساطة الإيقاع الشعري ومفردات الحياة اليومية المتوفرة في شعر نزار قباني، حتى استطاع فيما بعد تحديد ملامح خصوصية نصه الشعري ومنذ ديوانه «أنت الرياض».
والقصيبي أحد الفعاليات المضيئة في تاريخ بلادنا ثقافيا وإدارياً، ويكاد يكون إحدى الشخصيات ذات الطابع الإشكالي التي ينقسم الناس حولها بين محب ومعاد، وقد دخل في معارك عديدة مع مناوئ قصيدة التفعيلة، وتم استهدافه من قبل القوى المحافظة باستمرار كأحد رموز التحديث والحداثة، وتعرض ديوانه «معركة بلا راية»، للهجوم العنيف من قبل المحافظين، الذين ذهبوا إلى استعداء المقدس ضد انتشار قصيدة الشعر الحر، حيث وسموها بالإسهام في تهديم الثوابت والإساءة إلى لغة القرآن الكريم.
وقد شارك القصيبي بفعالية في تحديث البنية التحتية للوطن، وفي رفع سقف حرية الإبداع، ولا سيما في نصه الروائي، بما يضعه في موقعه البارز من تيار التحديث في المملكة، إلا أن انشغالاته الوظيفية وتنوع اهتماماته الثقافية، وتشككه في الدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في القرن العشرين، قد قلل من فاعلية دوره الشعري وإمكانية تجاوزه لأفق السائد، حتى أصبحت استجابته الوجدانية، أكثر ميلاً للتعبير بالشعر العمودي منها بالتفعيلة.
أما محمد العلي، المفكر والأديب والشاعر، فإنه يمثل خلاصة التجربة وحداثتها، على صعيد الكتابة الثقافية، والقراءة النقدية، والإبداع الشعري، ورغم أنه شاعر مقل، وزاهد في الضجيج والأضواء، إلا أن قصائده العديدة التي لم تنشر في أزمنة كتابتها، كانت توزع بين الأصدقاء والمهتمين، وقد شكّلت مركز استقطاب تتمحور حوله الشعرية الجديدة، بما توفرت عليه من حساسية لغوية متفردة، وخصوبة تصويرية مكثفة ورؤية فكرية ثاقبة، ومخيلة خلاقة، وقد غدت بعض قصائده مثل، «لا ماء في الماء» و «آه متى اتغزّل» التي تجاوز فيها مكوناته الأولى المنحدرة من أبو تمام والشريف الرضي، والمتن السيابي، لتخط تميزها، ولكي تغدو نصوصا تأسيسية للحداثة الشعرية في المملكة، حيث حفرت تجربته المختلفة مسارها في حياتنا الثقافية (خاصة في المنطقة الشرقية والوسطى) روية وإبداعا وموقفاً.
ومن مطلع قصيدته «لا ماء في الماء» نقرأ ما يلي:
«ما الذي سوف يبقى إذا رحت أنزع عنك الأساطير
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوهم
ماذا سأصنع بالأرق العذب
بالجارحات الأنيقات
إما لقيتك دون الضباب الجميل
كما أنت.. كن لي كما أنت
معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة
مختلطاً بالثمار
ومكتئباً كالعيون الوحيدة
بيني وبينك هذا الضباب
الذي يمنح الحلم أشواقه
يمنح الوهم أجنحة الماء
ها أنت فيه غويُ
كأرجوحة من هديل
.... إلى أن يقول
كان الأصيل شهياً
كنهرين ما التفتا بعد
..»
«وإذا كانت الحداثة قد اتخذت على المستوى الكوني معنى التحرر الشامل من الأوهام والأيديولوجية والطبقية والأخلاق المرتبطة بها، والانتقال من العقل الخرافي إلى العقل العلمي، ومن الميوعة العاطفية إلى الرؤيا التغييرية، فإن معنى كل كتابة حقيقية يكمن في الاتحاد بهذه الروح وتفجير النور الكامن فيها». وبهذا التوصيف الذي تصرفت فيه من كلام فاضل العزاوي، أستطيع القول بأن محمد العلي غدا أهم مركز تأثير محلي لتطور القصيدة في بلادنا تعبيراً ودلالة خلال عقدي السبعينيات، ومطلع الثمانينيات، حيث أسهم بتميز في حفر مجرى الحس الوطني في تجليات الكتابة بشكل عام، وأنه بهذا وسواه، مما لا تسعه اللحظة، خليق بالريادة، وخليق بموضعته في المكان اللائق به كأب للحداثة في المملكة، رغم تحفظه على بعض ما في مصطلح الحداثة من شطط، سأشير إليه لاحقاً.


يتبع

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved