Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
قراءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 
إبراهيم الناصر الحميدان من (دم البراءة)

 

 

طرق رجل ملثم منزل عجوز اشتهرت بغسل الموتى، فطلب منها بعد أن حياها بأن تذهب معه لغسل امرأة متوفاة.. ولم يكن من عادة المرأة أن تسأل في مثل هذه الحالات تقديراً لشعور من يطلب منها مثل هذا العمل باعتباره متأثراً ويكفيه ما هو فيه من ألم وأسى.

وهكذا مضت تجمع عدة الشغل والتي هي عبارة عن سطل نظيف، وليفة أو حجر لماع وبعض الأعشاب التي تستخدم في الغسيل عوضاً عن الصابون الذي لم يكن منتشراً ومعروفاً في ذلك الحين إلى جانب منشفة كبيرة بيضاء والكفن.. تضعها جميعاً في صرة نظيفة ملونة وتجعلها على هيئة كيس يحتفظ بهذه الأدوات دون أن تتسرب حيث إن إقفالها يتم عن طريق ربط أطرافها بعناية ولم تنس أن تتوضأ قبل أن تغادر المنزل.

لاحت البراري من بعيد غبراء تنتابها العواصف الصغيرة التي تنطلق من الأرض ثم ترتفع إلى السماء بما يشبه الزوبعة التي تستمر في الارتفاع مثل حزمة حتى تبلغ قمة الأفق، وهناك تشكل خيمة تدور في داخلها تلك الأتربة الناعمة التي تشبه الذرور.. ذلك المسحوق الأحمر الذي يستعمل لعلاج العيون من الرمد كوصفة شعبية تباع لدى العطارين.. كما كانت ترى من بعيد بعض الخيام السوداء التي يقطنها بعض البدو الرحل أو الغجر الذين يمرون متعجلين في بعض القرى التي يتبضعون منها ما يحتاجون من الأطعمة ثم يواصلون مسيرتهم إلى الجهات التي يبغونها، وبالقرب من تلك الخيام تسرح ماشيتهم من الأغنام أو الحمير بحثاً عن الكلأ وهي والصغار يتراكضون وراء أمهاتهم حتى تحميهم من الأغنام الكبيرة لترضعهم من ضرعها المكتنز بالحليب.. بينما ثمة بعض عربات الشحن الكبيرة تنقل الرمال من التلال المحيطة بالقرية لإحضارها من أجل بناء المنازل الجديدة وكذلك الجص، وبعض الأحجار التي تستعمل لهذا الغرض، وثمة سوق في أطراف القرية تباع فيه الأغنام التي يأتي بها الرعيان يومياً من أجل تلبية احتياجات أهالي القرية من هذه الماشية، لذا فإن أصوات الباعة والمشترين ترتفع حتى تملأ ذلك الجو الخانق بالغبار الكثيف.

واستمرت العربة تنهب الطريق متحاشية التلال المحيطة بالقرية وسالكة في الوقت ذاته المسارات المعبدة التي تستعملها العربات الأخرى حتى لا تغوص العجلات في طرق وعرة كثيفة الرمال. ومع ذلك فإن السائق كان يميل إلى تحاشي الطرق التي تكثر فيها العربات متوجهاً باستمرار إلى النائي منها حتى لا يلفت النظر إلى ركوب نساء في عربته في مثل ذلك الوقت من النهار، ثم انحرف بالعربة نحو تل عالٍ بدا منعزلاً عن الطريق الرئيسة حتى حاذاه وتوقف حينئذ وترجل من عربته وكأنما ليتأكد من عدم وجود من يراقب سر العربة من الفضوليين رغم انطلاق سحب الغبار في أكثر أنحاء المنطقة، وبعد أن أرسل نظره في عدة اتجاهات عاد إلى العربة وفتح الباب الذي خرج منه، ثم أمسك بمعصم المرأة القابعة بجانبه وسحبها إلى الخارج بعنف فاستسلمت حتى ترجلت من العربة وقادها معه إلى جناح من التل وأوغل معها حتى اختفيا مع انحناءة التل، ولم تعد الغاسلة تسمع شيئاً ولكنه في الحقيقة استمر في قيادة الفتاة حتى تأكد من عمق ابتعادهما عن الطريق.. وهناك أوقفها ثم أطلق يدها قائلاً بصوت أجش:

- تشهدي على روحك النجسة.. ولم يستمع إلى نشيج الفتاة وهي تتمتم ببعض الكلمات المتقطعة لأنه مد يده في جيبه، وخرجت ممسكة بمسدس صغير وضعه على صدر الفتاة، ثم أفرغه فانطلق صوت عدة رصاصات في فضاء التل اختلط بصرخة استغاثة حتى انهارت الفتاة، ووقعت على الأرض مضرجة بدمها، حينذاك تنفس الرجل الصعداء وأعاد مسدسه إلى جيبه وسار من حيث أتى إلى أن وصل إلى العربة، بينما المرأة العجوز كانت تفكر متسائلة أين هي المرأة المتوفاة هل هي في الجانب الآخر من التل؟ ولماذا ذهب إليها الرجل مع تلك الفتاة ولم يأخذاها معهما حتى تقوم بما ينبغي حيالها؟ وتنبهت إلى أن الرجل ارتقى جهة من العربة حيث كان سطحها وأنزل سطلاً بدأ يملأه من برميل صغير في ظهر العربة، ولما فرغ من ذلك أنزل مسحاة وفأساً كذلك، ثم قال مخاطباً المرأة تعالي واتبعيني.. وحمل هو السطل المملؤ بالماء والمسحاة والفأس وسار أمامها.. واستمرا يسيران حتى وصلا إلى مكان الفتاة التي كان جسدها قد تمدد على الأرض، فقال للمرأة - تلك هي الميتة.. فقومي بواجبك. وقفت متفكرة بلا فهم أو تفسير وفتحت وجه الفتاة عن تلك العباءة التي كانت ترتديها، والبرقع الذي يخفي وجهها فإذا بها أمام وجه فتاة جميلة لم تبلغ العشرين من عمرها، حنطية اللون ذات وجه خال من كل تعكير ما زال الدم ساخناً في جسدها.. فمددتها على القماش الذي أحضرته معها وبدأت في نزع الملابس عنها بينما الرجل ابتعد عن مكانها.. واستمرت تعمل حتى خلعت كافة ملابسها، وهي تنظر إلى ذلك الجسد الناعم والشعر الطويل المسترسل، فإذا بها آية في الجمال والتناسق البديع فذرفت دمعة ساخنة عليها وهي تبسمل وترجو من الله أن يستر على كافة بنات المسلمين.. وبدأت تستعد لغسل ذلك الجسد الممدد أمامها بكل ما يزخر به من جمال وإغراء متألمة لهذه النهاية التي لا تعرف سبباً بها بينما خيط من الدم كان يسيل من جانب الرأس ويلوث ذلك الشعر الناعم الأسود الحريري.. وتمتمت ببعض الأدعية وهي تخرج من جرابها تلك العدة المحدودة من أدوات العمل مقربة سطل الماء من الجثة حيث ذرت عليها ذلك المسحوق من (الشنان) والسدر وأخذت تدعكه على الجسد بعد أن أفرغت القليل من الماء حتى أصبح ذي رغوة خضراء مستخدمة ليفة حرشاء، واستمرت تفرغ القليل من الماء وتقلب الجسد حتى تهيل عليه ذلك المسحوق الأخضر مع دعكة بالليفة الحرشاء عدة دقائق حتى تصورت أنها لم تبق من الجسد ما لم تعطه نصيبه من ذلك الدعك لتتأكد أن الجسد قد تبلل جميعه بالماء فقرأت بعض الأدعية واستغفرت الله بصوت متألم وهي تجفف الجسد، وبعد ذلك أحضرت الكفن وبدأت تلف به الجسد الذي بدأ يجف من البلل وتربط طرفيه بطريقة حاذقة، ونظرت إلى الرجل الواقف في الجهة الأخرى من المكان وأخبرته أنها فرغت من الغسل. حينذاك رأته يرفع الفأس ويضرب به الأرض ثم يأتي بالمسحاة ويزيل التراب عن الحفرة التي اختارها حتى يقبر بها الميتة القتيلة، واستمر على ذلك المنوال عدة دقائق حتى نزل إلى داخل الحفرة ليزيد من تعميقها لأن الأرض كانت هشة، وأهوى بالفتاة داخلها والمرأة تنظر إليه بتساؤل: منذ متى وهو يفعل مثل هذه الحفرة يا ترى؟ أهو محترف.. ومضيا نحو العربة يحملان معهما ما استعملاه في إخفاء الجثة (دم البراءة ص.ص 36-41)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة