الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 5th May,2003 العدد : 10

الأثنين 4 ,ربيع الاول 1424

الوجه الثقافي في الحرب على العراق
(2) إرباك الهوية
د. صالح زيَّاد

في الحروب، كما في المواجهات التنافسية وذات التقابل الحدي، كالمباريات الرياضية، تستيقظ الهوية، تلقائياً، ويتم إيقاظها والإلحاح في التذكير بها. والهوية،
بوصفها إطاراً ثقافياً، هي وعي الانتماء الذي يندرج فيه الفرد والجماعة والطائفة والوطن. إنها الكل الذي تذوب فيه الأجزاء، والوحدة التي تجمع المتعدد،
والانسجام الذي يؤلف المختلف.
فهي مطلق في مقابل نسبية المحمول عليه بها، وهي الأنا الذي يحد الذات، مثلما هي النحن التي تجمعها. وهذا هو سر قوتها الرمزية التي يصعب التفكير كما
يصعب الفهم خارج منظومتها لمن يتورط في المواجهة مادياً أو معنوياً، فضلاً عمن يراقب تلك المواجهة ويحللها.
وعي الهوية، دوماً، هو وعي التركيز على اختلاف الآخر عن الذات لا على تشابهه معها، إنه وعي يهجس بخصوصية ما. وهي خصوصية ذات مستويات
ومواصفات ومرجعيات عدة يتم استحضار أحدها والتركيز عليه تبعاً لمقابلة في الآخر الذي يواجه الذات في ساحة المعركة. ولعل المثل العربي القائل: «أنا
وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب» تلخيص نموذجي لتلك الفكرة بالإبدال بالأخ ابن القرية، أو القبيلة، أو البلد، أو القومية، أو المهنة، أو
الدين، أو الإيديلوجيا.. الخ حين يغدو الخصم خارج صفتها، حتى لتغذو الحرب العدوانية، في التجليات الأشد عنفاً للخصومة والمواجهة، مظهراً لغريزة
التملك والسيطرة في مداها الأكثر إيغالاً في الأنانية والأثرة.
في الحرب على العراق، تستيقظ الهوية عند الفرقاء بما يجعل كلا منهم يصوغ هدفه بوعيها، وعلى نحو يتحرى المختلف ويركز على وجه التقاطع مع خصمه،
فهي من هذه الزاوية حرب بين القومية الأصولية والليبرالية الديموقراطية بما يبدو معه أن كل فريق يختزل هذه الهوية أو تلك في ذاته، ويخوض الحرب نيابة عن
الجماعة الثقافية وباسمها. والناتج عن ذلك، في الجانب العراقي والعربي والإسلامي، هو صدع الهوية الثقافية من داخلها، ليتشوف البعض إلى انتصار هذه
وآخرون إلى انتصار تلك، ويستصحب هؤلاء وأولئك موقفاً فصامياً من الذات، وازدواجاً في الرؤية قوامه: الفرح بالحرية والتحسر على الوطن المحتل،
والاحتفال والفوضى، والنصر والهزيمة..!!
هكذا تنتهي بنا حرب الخليج الثالثة إلى إرباك للهوية في مستوياتها الوطنية والعربية والإسلامية، وإلى تشتيت وتمزيق لتصوراتها عن أجزائها وعن مجموعها
وعن العالم. وهذا الإرباك والتمزيق هو نتيجة مشابهة، وإن كانت أشد عنفاً، لما عاناه وعي هذه الذات في حربي العراق السابقتين سواء في حربه مع إيران
التي اتخذ فيها الهوية القومية العربية ودعوى حراسة البوابة الشرقية مشروعية لاختزال الأمة في نظامه، والنيابة عنها بشخصه، أو في غزوه للكويت الذي تلبس
فيه أول الأمر الهوية الوطنية العراقية، والانتقام لكرامة العراق الكبير!!، ثم استحال خطابه إلى تأليف جديد ينيبه عن فقراء الأمة ضد أغنيائها، ومن بعد
النيابة المطلقة عن الأحرار ضد العبيد، وعن المسلمين ضد الكفار، وعن أصحاب المبادئ ضد المرتزقة!!.
ويحار المرء، حقاً، في تفسير هذا الإرباك الثقافي والأيديلوجي: هل هو، فقط، نتاج لمغامرات النظام العراقي الذي لم تأسف الأمة ولا العراقيون ولا العالم على
نهايته الحاسمة؟!. أم أن المغامرات العراقية عبر النظام البائد نتاج لحالة أعم من الإرباك والتشويش تعانيها الأمة في تصوراتها عن التاريخ والسياسة والعصر
والذات والعالم..؟!.
إن الأمة العربية الإسلامية تعاني صراعاً زائفاً مع الهوية، وهو صراع ذو ثقافة مشبوحة بين الماضي والحاضر، والقديم والجديد، والتقليد والحداثة، والاشتراكية
والرأسمالية، والاستبداد والحرية، والدين والدولة، والقومية والقطرية، والوحدة والشتات، والواقع والمثال، والممكن والمستحيل، والانغلاق والانفتاح، والرفض
للعالم والحاجة إليه.. الخ. إن الأمة تعيش منذ قرنين على الأقل حالة اللاحسم الثقافي بين تلك الثنائيات. وهي حالة مربكة، مربكة على مستوى
التصورات والمفاهيم والأفكار، ومربكة على مستوى الفعل والممارسة.
تلك، إذن، هي صورة الأزمة، إنها أزمة ثقافة وفكر قبل أن تكون أزمة وقائع. وهي أزمة لأنها إشكالية تؤلف معضلتها مجموعة من التناقضات التي يصعب
حل إحداها دون حل الأخريات. وأهمية هذه التناقضات تكمن في انطوائها على مساءلة الوجود التي تعني الوعي بالهوية في صيغة مأزومة من السؤال عن
الذات، لأننا في كل مرة كما يقول مارتن هيرجر نبحث بمشقة عن تحديد السؤال الأساسي عن الوجود فهذا دليل على وجود أزمة.
لكن الهوية، التي تعني فلسفياً مشابهة الشيء لذاته، لا تتحقق من التصورات والمفاهيم والأماني وشروطها التي لا تتطابق مع الوقائع والممارسات، فالهوية
اتصال بين الشعور والفكر، والممارسة والمفهوم. وهذا يعني أن الهوية داخل التاريخ لا خارجه، وهي إذن تحيل إلى الملموس والمحسوس والمعاش وليس إلى
المجرد والمثالي، وبالتالي إلى المقيد لا إلى المطلق.
وهنا يبدو وجه مريع للأزمة حين نستعيد الصورة قبل الحرب وفي بداياتها والنظام العراقي يسير إلى الهزيمة بإصرار، وأكاد أقول بفرح؛ لأنه يتحرك، كما لابد
أن نستنتج، في سجن المفاهيم والتصورات المستحيلة، وليس في ساحة الوقائع والممارسات والبدائل الممكنة.


zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
المنتدى
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved