الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

المجالس الثقافية
(ماهيتها..خصوصيتها..ودورها في نشر ثقافة الحوار)
د. صالح بن علي أبوعرّاد
عُرفت الصالونات أو المجالس الثقافية في المجتمع المُسلم منذ وقتٍ مُبكرٍ، حيث تُشير بعض المراجع إلى أنها عُرفت في بداية عهد الدولة الأموية، وازدهرت في عهد الدولة العباسية، ولا سيما في قصور الخُلفاء والوزراء والأمراء والولاة وعلية القوم في المجتمع، وكانت هذه المجالس تستقبل العُلماء والأُدباء والشعراء والبُلغاء والمفكرين ونحوهم، وتشهد سجالاتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ أسهمت بلا شك في التطور الثقافي ونشر المعارف والعلوم المختلفة في المجتمع.
كما أن هذه المجالس الثقافية كانت كما أشارت إلى ذلك بعض كتب التراث الإسلامي تمتاز ببعض (الآداب الخاصة، والتقاليد المُعيّنة التي يجب أن يراعيها أولئك الذين كان يُسمح لهم بحضورها) (1) وليس هذا فحسب فقد كان للمرأة نصيب ومُشاركة جيدة في هذه المجالس الثقافية، وهو ما أشار إليه أحد الكُّتاب بقوله: (وكثيراً ما كانت الأديبات من المُسلمات يعقدن المجالس الأدبية لدراسة الأدب والشعر، ونقد الشعراء، والموازنة بينهم، ومن هؤلاء السيدة سكينة، والولادة بنت الخليفة المُستكفي) (2) وما الصورة الحالية للمجالس الثقافية إلا امتداد لتلك الصورة القديمة التي عُرفت بها تلك المجالس مع بعض التعديلات والتغييرات التي تفرضها ظروف الزمان والمكان بين حينٍ وآخر.
والمجالس الثقافية في مجتمعنا المعاصر ليست إلا أحد أنماط المنتديات الثقافية في المجتمع، والتي تُمثل في مجموعها (النوافذ التي يُطل من خلالها الفكر والثقافة) (3) وما ذلك إلا لأنها منتدياتٍ تجري فيها اللقاءات الثقافية بين مختلف شرائح المجتمع على الطبيعة، وتشتمل على بعض الفعاليات كالحوار، والمحاضرة، والندوات، واللقاءات العلمية، ونحوها.
وهنا أود الإشارة إلى أنني أُفضلُ بل وأدعو عبر هذا المنبر الإعلامي الى أن نستعمل تسمية (مجالس ثقافية) بدلاً من تسمية (صالونات ثقافية)؛ لأن كلمة (صالون) كلمةٌ أجنبية الأصل، وقد عُربت بكلمة (صالة)، في حين أن لها معاني مختلفة في اللغة الإنجليزية؛ وهو ما أشار إليه قاموس (المورد) حيث أورد في معنى كلمة صالون Salon أو Saloon أن المقصود بها البهو، أو الصالون الأدبي: اجتماع أدباء أو فنّانين أو سياسيين بارزين يُعقد دوريّاً في قصر رجل (أو امرأة) من ذوي الشأن، أو معرض فني (للوحات الزيتية والتماثيل...إلخ. وأضاف أنه قد يُقصد بها: (حانة أو سيارة مُقفلة تتسع لـ 4- 7 ركاب) (4). وليس هذا فحسب؛ بل إن لكلمة (صالون) دلالاتٍ مُختلفةٍ في واقعنا الاجتماعي، ولا تُشير مُباشرةً إلى المعنى المقصود من التسمية؛ فقد تدل على مكان حلاقة وقص الشعر، كما أنها قد تدل على صالة المنزل؛ الأمر الذي يجعل تسمية هذه المجالس بالصالونات تسميةً غير دقيقة، وغير صحيحة المعنى إلى حدٍ ما؛ فكان علينا أن نُصحح التسمية بأن تكون (المجالس الثقافية) بديلاً للصالونات الثقافية.
وهنا أتمنى من أخي الكريم الأستاذ سهم بن ضاوي الدعجاني صاحب كتاب (الصالونات الأدبية في المملكة العربية السعودية.. رصد وتوثيق) أن يتدارك ذلك الأمر في الطبعة الثانية من هذا الإصدار وما يليه -إن شاء الله تعالى- وأن يستبدل كلمة الأدبية بالثقافية لشموليتها اللفظية والمعنوية.
وعلى الرغم من أن هذه المجالس الثقافية تُعد موازيةً في نشاطاتها للمنابر الثقافية الرسمية مثل الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون وغيرها من المؤسسات الاجتماعية الأُخرى التي تُعنى بفنون مختلفة من الفكر والثقافة والأدب والمعرفة، إلا أنها تمتاز ببعض الخصوصية التي تمنحها استقلاليةً تامةً عن غيرها، ويأتي من أبرز ملامح هذه الخصوصية ما يلي:
1- إنها تُمثل في مجموعها مؤسساتٍ اجتماعيةٍ غير رسمية في الغالب، وربما كانت غير منتظمة المواعيد لأنها تخضع للعديد من الظروف المرتبطة بأصحابها، أو ببعض الظروف الزمانية والمكانية المختلفة التي قد تستلزم ذلك.
2- إن هذه المجالس الثقافية تمتاز (في الغالب) أن معظم روادها ممن يتعارفون شخصياً ويتقاربون فكرياً وثقافياً، فهي قد تجمع بين العالم والمتعلم، والأديب والمتذوق، والوجيه والتاجر، والإعلامي والعامي، والأساتذة والطلاب، وغيرهم من أفراد المجتمع وفئاته المُختلفة.
الأمر الذي يجعل الحوار الموضوعي الهادف هو الغالب على جلساتهم ونقاشاتهم وطروحاتهم؛ يُضاف إلى ذلك أنها تُقام في الأصل على اعتبار أنها لقاءاتٍ وديةٍ وأخوية وحميمية، ولا يكون النقاش والحوار فيها إلا حول القضايا والموضوعات التي تهم الجميع. 3- إن هذه المجالس بعيدةٌ إلى حدٍ ما عن قيود المظلة الرسمية لبعض الجهات التي تتبع لها بعض المؤسسات الثقافية الموازية، والتي قد تُحدد أو تُخضع الموضوعات المطروحة فيها لبعض الشروط والقيود، الأمر الذي قد يترتب عليه عدم ارتياح المُتحدث أو الحضور لشعورهم بأن هناك نوعاً من المراقبة على طروحاتهم ومُشاركاتهم وتعليقاتهم.
4- إن هذه المجالس الثقافية تُمثلُ قناةً جديدةً من القنوات الحوارية التي تمتاز بأن لها جمهورها الخاص الذي يُتاح له حضور هذه المجالس والمُشاركة فيها، كما أن لها جمهورها العام الذي يتناقل أخبارها وما يحدُث فيها من حوارات ونقاشات ونحو ذلك، الأمر الذي يكفل لهذه المجالس إشاعة ونشر ثقافة الحوار بين فئةٍ مُعينةٍ من أبناء المجتمع.
5- إن هذه المجالس الثقافية تُتيح لروادها (في الغالب) فرصة الحوارات المُتميزة التي يُشارك فيها (غالباً) نخبةٌ من المُثقفين الذين يتواصلون مع نشاطات هذه المجالس، والذين يحرصون على إثراء حواراتها، وتأصيل مبدأ الحوار الهادف في لقاءاتها، الأمر الذي يكون له أثرٌ فاعلٌ في تجسير العلاقة بين المُتحاورين وتوثيقها ولا سيما أن هؤلاء المُثقفين يشعرون بين حينٍ وآخر بالحاجة إلى لقاء أقرانهم طمعاً في تلاقح الأفكار وتبادل الخبرات والبحث عن الجديد والمُفيد.
6- إن هذه المجالس الثقافية تقوم بوظيفةٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ حيث تعمل على ردم الفجوة (التي لا يُنكرها أي منصف) بين المثقف والمتلقي في بلادنا على وجه الخصوص، عن طريق طبيعة تلك المجالس المفتوحة، والقلوب المشرعة، والفرص المُتاحة للجميع.
7- إن هذه المجالس الثقافية تراعي في طروحاتها وحواراتها مُقتضى حال المجتمع بصفةٍ عامة، وحال مُرتادي المجالس بصفةٍ خاصة، فتُعنى بما يهمهم ويُشغلهم ثقافياً، أو اجتماعياً، أو علمياً، أو اقتصادياً، أو غير ذلك، الأمر الذي يجعلهم يحرصون على حضورها، وقد لا أكون (مُبالغاً) حينما أقول إن منهم من ينتظر موعد انعقاد هذه المجالس بفارغ الصبر لما يجده فيها من انشراحٍ وسرورٍ وأُنسٍ بلقاء الآخرين.
8- إن هذه المجالس الثقافية تُسهم - ولا شك - في تقريب وجهات النظر، وتُتيح الفرصة لسماع آراء الآخرين، وتعمل بطريقةٍ مُباشرةٍ أو غير مُباشرةٍ على تعويد الحضور على حُسن الاستماع للرأي والرأي الآخر، وإتاحة الفرصة للجميع حتى يطرحون ما لديهم من طروحاتٍ وأفكار بكل هدوءٍ وشفافية. 9- إن هذه المجالس الثقافية تُعد فكرةً جيدةً وظاهرة اجتماعية حسنةً استطاعت أن توجد لقاءً ثقافياً بين المثقفين والمُهتمين، وحققت لهم التواصل المفقود ولا سيما في زماننا الذي يعاني فيه الكثير ندرة فرص التواصل بين أبناء المجتمع.
10- إن هذه المجالس الثقافية تُتيح لروادها وقتاً أكبر، وفُرصاً أكثر للنقاش والحوار والتعليق والمُشاركة؛ وهو ما لا نراه في غيرها من المؤسسات الأُخرى التي طالما أفسدت كثيراً من اللقاءات بمنع الحوار والتعليق بدعوى الالتزام بالوقت المُحدد.
من هنا فإن إسهام هذه المجالس الثقافية في إشاعة ونشر ثقافة الحوار بين أفراد وفئات المجتمع، يمكن أن يتحقق من خلال التالي:
1- أن تُشجع مثل هذه المجالس وأن يتم دعمها مادياً ومعنوياً، وأن يحرص المجتمع على توافرها في كل مدينةٍ من مُدن بلادنا الغالية، وأن تحرص الجهات المعنية في وزارة الثقافة والإعلام على توافرها بصورةٍ مُنظمةٍ ولا أقول رسمية على اعتبار أنها تُمثل في مجموعها قنواتٍ ثقافيةٍ جديدةٍ يمكن أن يتم من خلالها إشاعة ثقافة الحوار في المجتمع، وخاصة عندما توجد هذه المجالس في أماكن لا تتوافر فيها النوادي الأدبية الرسمية، أو لا تصل إليها خدماتها ونشاطاتها بشكلٍ مُستمر؛ كما هي الحال في (اثنينية تنومة) التي تُعقد في مدينة تنومة على بعد (125) كلم شمال مدينة أبها، والتي تُعد النافذة الوحيدة التي تُطل من خلالها الثقافة ويتنفس الفكر في تلك المنطقة.
2- أن تُسند مهمة الإشراف والتنظيم لفعاليات هذه المجالس الثقافية لمن يوثق في دينه وأمانته وفكره ووعيه؛ إضافةً إلى قدرته على الإعداد والمُتابعة والعمل على تحقيق أهداف تلك المجالس وغاياتها الإيجابية. 3 - أن يتم تسليط الضوء على هذه المجالس وفعالياتها المختلفة من قبل وسائل الإعلام من خلال نقل وبث ونشر ما تُقدمه تلك المجالس من لقاءاتٍ، والحرص على رصد ما يدور فيها من حواراتٍ ونقاشات.
وهنا أؤكد وأُشدِّد على ضرورة تحقيق مبدأ المساواة في هذا الشأن، وعدم التركيز على منطقةٍ دون أُخرى فالملاحظ أن بعض المناطق تستأثر بنصيب الأسد في حين لا تحظى المناطق الأخرى بشيءٍ يُذكر.
4 - أن تُعنى هذه المجالس بتهيئة الفرصة لالتقاء واجتماع المثقفين من أبناء الوطن في لقاءاتٍ دوريةٍ (ولا سيما خلال فترة الإجازات) لتطارح الآراء، وتبادل الأفكار، وعقد اللقاءات الودية، وعرض الجديد والمفيد في مختلف العلوم والمعارف والقضايا الاجتماعية.
5 - أن يكون هناك نوعٌ من التنسيق بين الجهات المعنية بالنشاطات الثقافية والاجتماعية والدعوية والتوعوية في المناطق والمدن التي توجد فيها هذه المجالس الثقافية منعاً لتضارب المواعيد أو تزامن أوقات الأنشطة بين هذه المرافق (إن وجدت).
6 - أن يتم توظيف نشاطات وفعاليات هذه المجالس الثقافية من خلال استشعار أصحابها والقائمين عليها توظيفاً إيجابياً لتحقيق أهدافها المنشودة، بمعنى أن يضبطها الوعي بأهمية الحوار واحترام وجهات النظر المختلفة ما دامت إيجابيةً وفاعلة.
7 - أن تتوقف بعض وسائل الإعلام المحلية عن إشغال المجتمع بطرح بعض القضايا الصحفية المُفتعلة و(الساذجة) ذات العلاقة بهذه المجالس الثقافية، كأن يُطرح سؤالٌ يقول: هل صحيح أن المجالس الثقافية سحبت البساط من تحت أقدام الأندية الأدبية أو أن تطرح قضية أُخرى تقول: هل وجدت المجالس الثقافية للثقافة أم للوجاهة الاجتماعية؟! إلى غير ذلك من الطروحات الصحفية (الممجوجة) التي لا يمكن الخروج منها بفائدةٍ تُذكر، والتي أجزم أنها لا ولم ولن تخدم مسيرة الثقافة في البلاد بقدر ما تُثير البلبلة وتُعطل المسيرة، ولعل خير دليلٍ على ذلك ما حصل من ردودٍ ومُساجلاتٍ حول هذه النقطة في ندوة الصالونات الثقافية التي عقدت في مكة المكرمة تحت رعاية مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني خلال الفترة من 22-23-4-1427هـ.
8 - أن يتم الاحتفال المناسب في هذه المجالس الثقافية بالموضوعات الثقافية العامة التي تندرج في إطار الثقافة الشعبية، ولا سيما الموضوعات الساخنة التي تطفو على السطح في مختلف المجالات الدينية والعلمية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية ونحوها، وأن يتم خلال تلك الفعاليات تكريم الرواد والمبدعين والمتميزين في مختلف المجالات والميادين العلمية والمعرفية. وختاماً؛ أتمنى من الجهات المعنية في وزارة الثقافة والإعلام، وغيرها من الجهات المعنية الأُخرى في مختلف المناطق والمدن، أن تحرص على نشر هذه المجالس الثقافية التي تُعد رافداً رئيساً وفاعلاً من روافد مسيرة الثقافة في البلاد، والتي لها أثرٌ فاعلٌ في مد جسور التعاون والتواصل الثقافي مع مختلف المؤسسات العلمية، والثقافية، والاجتماعية، والتربوية، ذات الاهتمام بالأنشطة المماثلة في بلادنا. والله الهادي إلى سبيل الرشاد.


*عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين في أبها
والمُشرف على إثنينية تُنومة الثقافية
arrad@hotmail.com


***
الهوامش والمراجع
- أحمد شلبي. (1978م). التربية الإسلامية (نظمها، فلسفتها، تاريخها). ط (6). القاهرة: مكتبة النهضة المصرية.
- محمد عطية الإبراشي. (1985م). التربية الإسلامية وفلاسفتها. ط (4). القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه.
- سهم الدعجاني. (1427هـ - 2006م). الصالونات الأدبية.. نوافذ للحوار الوطني. مجلة الإعلام والاتصال. العدد (94)، السنة (8)، غرة ربيع الثاني - 29 إبريل.
- منير البعلبكي. (1989م). المورد.. قاموس إنكليزي - عربي. ط (23). بيروت: دار العلم للملايين.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved