عبد الله نور (2) محمد جبر الحربي
|
تعرفت مع الصديق الراحل عبد الله نور على عوالم شعرية متباينة ومختلفة يجمعها خيط إبداعي واحد هو التجاوز والاختلاف، وكان كل منها يأخذ شكل تميزه بطريقة أبي عبد الرحمن الفذة في تصويره حين يتقمصه بطريقة مسرحية صافية تخصه هو وحده. فكلنا قد تعرفنا على الشنفرى في مرحلة أو أخرى، ولكننا مع عبد الله نور عايشناه، بل عشناه صعلوكاً متمرداً كريماً جواداً شاعراً نبيلاً مغرداً متفرداً.
لقد أهداني النور مبكراً معرفة الشنفرى والصمة القشيري وعنترة وسيل من الشعراء، كما عرَّفني على فواز عيد واليوت وباوند وغيرهم.
كان المكان لا يسع أبا عبد الرحمن حين يقرأ لأحدهم أو يتحدث عنه، بل كانت خشبة المسرح التي ينصبها أينما ذهب تقصر أحياناً عن خطواته الفارهة، إذ إنه لا بد أن يتجلى واقفاً بعد بيتين لأي منهم ليكمل القصيدة إيقاعاً وتجسيداً، حتى تعودنا منه ذلك كخبزنا اليومي.
وكان كلما قرأت له في بداياتي يحرضني على رفع الصوت والإبانة والتجويد والتجسيد.
يحرضني على تقمص حالة الكتابة الأولى.
لقد كنا نردد مثلاً هذه الأبيات غير مدركين، أو غير عابئين بشاعرها أو بالقصيدة وترتيبها:
بكت عينك اليسرى فلما عذلتها
عن الجهلِ بعد الحلمِ أسبلتا معا
وليست عشيات الحمى برواجعِ
إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشيةٍ أنْ تصدعا
ثم اكتشفناها حين حببها لنا أبو عبد الرحمن وقرّب شاعرها من ذواتنا العجلة، فتعرفنا على واحد من أرق شعراء الجزيرة على الإطلاق، هو الصمة القشيري، وقد اهتم به كل من الشيخ الجاسر، والباحث الفيصل، ولكن اهتمام عبد الله نور كان من نوع آخر، فقد كان اهتمام شعري وتحليلي يكشف عن عبقرية فريدة، وطاقة كشف نادرة متوقدة.
ومن تلك المحبة، وذلك التقريب، ذلك أنني ما زلت أستعيد من الذاكرة للصمة القشيري، ولكن دون ترتيب، فمن أين لي بذاكرة كالذاكرة العبقرية التي كان يتمتع بها ليروي لنا لساعات من الشعر والنثر غيباً، ودونما لحن أو تباطؤ أو نسيان:
ألا من لعينِ لا ترى قلل الحمى
ولا جبل الأوشال إلا استهلّتِ
ولا النير إلا أسبلت وكأنها
على ربدٍ باتت عليه وظلّتِ
لجوجٍ إذا لجّت بكيّ إذا بكت
بكتْ فأدقّتْ في البكا فأجلتَِ
ومنها هذه الأبيات التي أحبها وميزها عبد الله شرحاً وتعليلاً:
ألا قاتل الله الحمى من محلةٍ
وقاتل دنيانا بها كيف ولتِ
أقول لأصحابي غداة فراقها
وددت البحورَ العامَ بالناس طمّتِ
لتنقطع الدنيا التي أصبحت بنا
كمثلِ مصاباتٍ على الناس عمّتِ
لقد انتزع أبو عبد الرحمن الصمة من التراث ليدخله إلى قلوبنا التواقة للجمال، وذلك عبر مقدرته على تقريب البعيد، وتبسيط الصعب كما في لامية العرب.. وغيرها من عيون الشعر العربي.
لقد حبب العملاق التراث في نفوسنا، كما نبهنا إلى أن الحديث ليس بحديثٍ إلا بمدى قدرته على التجاوز، إلا بقاعدة معرفية عميقة، إلا بركوب الصعب، إلا بلغة ثرية ورؤية صافية. لقد أجلسنا أبو عبد الرحمن أمام التراث تلاميذَ نجباء كاشفين لنا أسئلتنا الخاصة، لا متلقين بلداء نردد ما نسمع دون إحساس بقيم الجمال، مكامنه وبواعثه.
mjharbi@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|