الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

من ثقافة العزاء!!
أمل زاهد
تتحول كثير من مجالس العزاء في مجتمعاتنا النسائية إلى ندوات دينية من دون سابق إنذار، فغالباً ما تذهب السيدة إلى العزاء للأخذ بخاطر أهل الميت ومواساتهم، لتُفاجأ بإحدى الداعيات (كما يحلو للبعض إطلاق هذا الاسم عليهن) تتسلم ميكرفوناً وتبدأ في إلقاء ندوة دينية تتوجه بها إلى الحاضرات واللاتي يجدن أنفسهن ملزمات بحضور وقائع تلك الجلسة الوعظية حتى النهاية.
ولقد استوقفني وبشدة إطلاق اسم داعيات على هؤلاء السيدات، ذلك لأننا في بلد يدين بديانة الإسلام عن بكرة أبيه ولله الحمد. فلا أدري كيف تكون هؤلاء السيدات داعيات في مجتمع إسلامي من رأسه حتى أخمص قدميه ؟؟!! إلا على افتراض أن من يطلق هذا اللقب يميل إلى فكرة أن المجتمع جاهلي ولا يطبق تعاليم الإسلام. وذلك طبقاً للفكر التكفيري الذي يتمسك بأصغر الأشياء ليأخذ بها كحجة إدانة على من لا يغلو في دينه أو يتنطع في بعض الأمور الصغيرة والهامشية.
وإطلاق هذه الألفاظ الرنانة والمسميات الضخمة التي لا تتوخى الدقة أحد أكبر من مآسينا، وتكرس لثقافة القطيع الذي يسير خلف كل من يلبس مسوح الدين حتى لو خرج من عباءة ثقافة الكاسيتات والكتب الصفراء!! ومسمى الداعية مسمى عظيم الأبعاد قطعي الدلالة ولا يجب أن يطلق إلا على من يتوافر فيه أو فيها شمولية الثقافة ودراسة الأديان المقارنة والقدرة على المحاججة والإقناع شريطة أن يتوجه بدعوته إلى غير المسلمين، فالرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم يطلق على معاذ بن جبل مسمى داعية عندما بعثه إلى اليمن ليعلم المسلمين الجدد أمور دينهم، والأجدر بنا أن نحذو حذوه ونسمي الأشخاص بأسمائهم التي تعبر حقيقة عن دورهم في المجتمع فهم وعاظ وواعظات يتوجهون للناس غالباً بأسلوبي الترغيب والترهيب حتى يحدوا من سلوكيات معينة يستنكرونها عليهم.
وقد يخالفني البعض ويرد قائلاً: إن كل من يبلغ آية كريمة يعتبر داعية، ولكني لا أتفق مع هذا الرأي لأنه يفتح الباب أمام أنصاف المتعلمين ليصبحوا وعاظاً وواعظات أو (دعاة) كما جرت التسمية السائدة، والوعظ سلاح ذو حدين قد يصل بالمتلقي إلى كراهية الحياة الدنيا والنفور منها فيستلزم أن يكون الواعظ أو الواعظة على علم بالمسارات النفسية والاتجاهات الذهنية للنفس البشرية حتى تؤدي مهمته ثمارها اليانعة وحتى لا يصل الأمر بالمتلقي إلى الدخول في نفق مرض عصابي أو اكتئاب يجتث من نفسه الرغبة في الحياة ويحولها في نظرة إلى صورة سوداء قاتمة.
وقد قيض الله لي الأسبوع الماضي حضور إحدى هذه الجلسات الإلزامية، لأكتشف أن بعض هؤلاء السيدات لديهن ميول سادية من الفولت العالي جداً. لأن هذه السيدة انبرت تتحدث عن عذاب اجتثاث الروح من الجسد وآلام النزاع وتفاصيله، وعن ويلات عذاب القبر وأهواله، بينما انطلقت دموع أم المتوفى مدراراً خوفاً على ولدها الميت، والذي لا تزال حاسيات التراب مضطربة لم تهدأ فوق قبره بعد.
وأعتقد أن مقياس نجاح هؤلاء السيدات في إلقاء ندواتهن يرتبط في أذهانهن بكمية الدموع التي تذرف والآهات التي تنطلق من الحناجر والزفرات التي تعلو وتنخفض بها الصدور.
وبعد أن انتهت من سردها الذي كانت تصاحبه مؤثرات صوتية تُستخدم فيها تدرجات الصوت من ارتفاع وانخفاض وحدة ورقة، وذلك حسب سخونة الموقف الذي ترويه تلك السيدة. اتجه مسار الحديث إلى منحى آخر يطيب لهن عادةً الحديث عنه.
وهو إضاعة وقت المؤمنة الثمين في التوافه من الأمور، ومن هذه التوافه في نظر تلك المحاضِرة الاهتمام بالأبناء والبيت!! فكلاهما جزء من الدنيا التي لا يجب أن يلقي لها بالاً من ينشغل قلبه بحب الله ورسوله.
ثم انطلقت مسهبةً تتحدث عن من يشغل وقته بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية بطريقة ممعنة في استهجان ذلك العمل، بينما انطلقت دموع السيدة المسنة التي كانت تجلس إلى جانبي وهمست في أذني قائلة: (سأتابع غداً الحلقة الأخيرة المعروضة على القناة الأولى ثم أتوب لوجه الله تعالى).
المشكلة في معظم هذه الندوات أنها ترسخ كراهية الدنيا بأسلوب سلبي وتحض على حب الموت والتطلع إليه خوفا من الذنوب والخطايا التي تحيط بممارستنا اليومية وحياتنا الدنيوية.
وغالباً ما تخرج الحاضرات بشعور مر وممض من الإحساس بالتقصير يدفعهن إلى اليأس من العمل وإلى تحقير شأن الممارسات الدنيوية الحيوية في حياتهن، وإلى الخوف الهستيري من الوقوع في الشبهات الصغيرة. مع خلق صراع نفسي في نفس المتلقي، لأن هذه الجلسات الوعظية تتعارض مع الطبيعة البشرية، لأنها تحاول أن تلغي الرغبة الموجودة عند كل إنسان في الترفيه واللهو البريء و الاهتمام بشؤون الدنيا، وتمعن في تهميش الحياة الدنيا وكأنها ليست الطريق الذي يؤدي إلى الآخرة.
ولا تحاول تسليط الضوء على القيم الإسلامية التي تحفز الإنسان على العمل البناء الذي يدعو إلى عمارة الأرض و السعي في تحصيل العلم و ربط العلم بالعمل, وإلى إتقان العمل وربط ذلك بحب الله سبحانه وتعالى فكلنا يعرف الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). كما أنها تسطح هذا الدين العظيم وتصبه فقط في خانة واحدة وهي الممارسات الشعائرية، فتجرده من الدعائم التي يقوم عليها والتي تشكل أهم مميزاته فهو دين الحياة الذي يجعل حياة الإنسان كلها عبادة ويؤكد أن جميع ممارساته الدنيوية تدخل في خانة العبادات.
أفظع ما في الأمر أن التركيز على التمسك بصغائر الأمور مع تهميش الجوهر، يؤدي إلى التعصب الذي يقود إلى التطرف والإحساس بالتفوق والتميز وامتلاك الحقيقة المطلقة. وبدون شك أن كل هذه الأمور تقود إلى النظرة الأحادية وإلى الكابوس المفزع والذي صار من سمات عصرنا وملمح من ملامحه والذي حشرنا كمسلمين في خانة الإرهابيين غير العابئين بالحياة الإنسانية المشرفة والمقدسة من الله سبحانه وتعالى، فغني عن الذكر أن حرمة اجتثاث النفس الإنسانية تزيد على حرمة الكعبة المشرفة.


aaz868@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved