الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

يرقد الآن بكامل ياسمينه
الماغوط يتوارى ظمئاً للأسفار والأشعار والمزايا المؤسفة
ميرغني معتصم

كان يحلم ببشر سافرين.. مطمئنين في الوضوح.. يتداولون الأرض بفراسة وصبر.. يتلمسون الحياة بعريهم.. دون زمن لارتداء دسيسة أو لغة.. (يقفون تحت أشجار كريمة) لم تستأثر وحدها بالثمار أو الظل.. وحالما يرفعون أبصارهم إلى الثمار الناضجة.. تقع بلطف في أفواههم دون أن يُقذف غصن بحجر.. ولكنه انطفأ في مفصل ما من المساء.
(1)
انطفأت..
وعرفنا أن قريضك بيننا لم يكُ طرباً.. فتماديت في غدك رغم أنك كنت تحيا أمسه حتى تعرفه.. وكيف خبوت كعصف ريح بعده..
انطفأت..
وكنتَ ارتجالاً للشرود ألا تبقى طويلاً حينما تكتسي ثوب الصفة.. تمتطي سحر الجهات.. تتوارى خلفنا ظمئاً للأسفار والأشعار والمزايا المؤسفة.
انطفأت أيها النسر الجريح..
عندما عرفت أن (الفرح ليس مهنتك).. عندما ظللت مع القضايا الخاسرة حتى الموت.. مع دمشق القديمة كملامحك.. مع بردى حين يمتشق أوضارك.. مع القابعين في أزقة الحميدية، أو.. معهم في صباحات ذاك الفندق الشامي الملامح.. مع (كوسا) و(عرسان) و(مازن) أو آخر القادمين من المدار.
انطفأت..
ولم نكُ نعلم وقتها أنك كنت تتتلمذ حين تهاوينا في الوصولية والأصولية.. العنف والدم والدموع.. واستغرقنا غرق (تايتانيك).. فبماذا كنت تعتصم؟.. ولماذا كنت الراقد المغدور على حرفه الأول؟.. أبحبر مومياء كنت تنتحب؟.. أم تغمس تلك المرارات في ريقك المطهم بالكلمات؟..وطقوس غسلك لن تؤوينا الآن، وهي أسماء التشريد ذات البريق الوحشي.. ذات السائس للخيل المسومة.. آه.. أيها المتكور داخل استسلامك الآن.. وتخومنا تحوم.. أيها الباذخ حتى في شظفك العدمي..
كنت ترقص حافي القدمين - وأذكر- عند منابت الزجر وأمامك الدمقس والحرير.. وأنت في (غرفة بملايين الجدران)«1».. ورئتاك صبر لا يجادل... لله ما أعطى.. وأين نحن من سحر النهار الجارح للعتمة عندما يصبح (الفرح ليس مهنتنا) أيضاً؟... وهذا اليأس الكاسر.. نسأل لمن تركته أيضاً؟..ألعصر ضد الموهبة؟... ولله ما أخذ.
(2)
انطفأت..
هذي دواة التاريخ.. ولمكانك عادة جدل في المفاجئ والمثير، والأيام الحبلى بالاختلاف والدهشة.. وومضك الحاذق في كثافة المأساة؛ حيث تركتنا نجمع أجزاء الصورة الناقصة.. ومضيت في الاكتشاف عند آخر حسراتنا.
لك.. نهضنا ذات ريح تخلط شمس الشعر ببقايا الحلم.. بيد أن أشباه رجالنا الحائضين يأوون دوماً إلى المدائح التي لا تهشم خزائن الشكل وتطلق سراح الظلال.
ولك.. يوماً اشتعلنا للقدرة على الموت حباً حول أثافي الوطن في شكله الهندسي المتواطئ مع خطوط (سايكس بيكو) وتوريات الاتفاقيات التي لم تعبر بنا رمال الذل والعبث العريق، وقبعت كالسبايا ضمن حريم (الباب العالي). ثم وُئدتَ أنت في غرفة (هناك) عند أول منفى.. ولم تنصت جيداً لصرختك الأولى:.. أيها العرب.. يا جبالاً من الطحين واللذة:
(كنت أود أن أكتب شيئاً
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو الوراء..)
إذن.. (الفرح ليس مهنتك).. ولا يعني أنك كنت نقيض مشروع التفاؤل العام الذي يسود المتن الشعري العربي المتثائب.. إنك لم تطرح خطاب أحلام.. بل رفعت جرأة الرؤية الحزينة الجارحة بعيداً عن التثبيط والتشاؤمية.. وطلبت من أقرب سائح في بلادك أن يصوّرك وأنت تبكي على عتبة الفندق، وأن يكتب على قفا الصورة: هذا شاعر من الشرق.
أمسك أمامنا هاهنا.. وقد أزحت عن كتفيك وزر المفصح عنه الأبكم.. ونحن لم نزل ذات بيادق الشطرنج التي ائتمنها الغزاة على الغنائم.. ذات الجروح.. القروح.. الهباء المنتفخ عجرفة.. ذات السوقة.. ماسحو الأحذية وقوادو الليل.. نفس العاطلين المعطلين عن الدهشة والذهول والكلام.. نتلمس الحياة بعرينا دون أن نرتدي اللغة الشافية.. ونتشدق بعبارات ليست بالضرورة لنا بعقلية حربائية أورثتنا التفسخ والانكسار، ولم نقتدِ بمقولة رامبو التي انتهجتها: (من الغباء أن تبلى سراويلنا على مقاعد الدراسة).. لله ما أعطى ولله ما أخذ.
(3)
انطفأت..
بعد أن تعب النقد في توصيف مسرحك.. جماهيري هو أم ملتزم.. ماذا؟.. وكقائد متمرد لتيار وحشي، قدتنا نحو الضحك المُر في غير ما تزمت لقوانين اللعبة المسرحية.. دون سوداوية هادمة، ولكننا نلمح آثاراً على قلوبنا، ونتساءل: أي ريح إلهامية ساخرة قذفت بذلك الرصد للحيوات في هذا العالم العربي المريب، القاهر والأسود؟.. ما الذي كنت تريدنا أن نقترفه باستنهاض حاستي التساؤل والتمرد فينا؟.. لِمَ حاولت أن تبتكر الحرية والألم والحياة والواقع دون مقومات ميدانية؟.. ولِمَ الشخوص دون بهرج أو رتوش؟.. ألأنك ابن حلمنا المسكون بالسجون والمنافي والطغاة، وإسقاطات (غربة) و(كاسك يا وطن) و(ضيعة تشرين) و(شقائق النعمان)«2»، التي أنزلت اللغة من عليائها البالغ التجريد إلى مفردات الواقع والأزمنة المبعثرة ومواطنها العربي الذي تحول من إنسان يستشرف كرامة في وطن حر رغيد إلى (خُردة) بشر يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
ولسنا هنا بصدد تمحيصية لمعادلات مسرحية بقدر وضع الشخوص السطحية (Flat Characters) موضع ذواتنا وتناقضاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والقيمية، بيد أنك سبقتنا حين استوعبت أننا لا نعدو سوى أن نكون منجزاً من مآثر - يا رعاها الله - جامعة الدول العربية... لله ما أعطى ولله ما أخذ.
(4)
(يا عتبتي السمراء المشوهة
لقد ماتوا جميعاً أهلي وأحبابي
ماتوا على مداخل القرى
وأصابعهم مفروشة
كالشوك في الريح
لكني سأعود ذات ليلة
ومن غلاصيمي
يفور دم النرجس والياسمين..)
وانطفأت أنت..
ودون المخيلة، تعبأت معشوقتك دمشق بدموع بردى، النهر الصغير من الطبقة المتوسطة، بوصفه أروع مطر في التاريخ، بحسبك.. يحضر النهر وتحضر دمشق، لا بجغرافيتهما، بل وشائج تقرّها ولا تقرّها كتشوهات اجتماعية تحمل الاستغلال والقهر الطبقيين.. (من تكون هذه العجوز الجامدة عند المنعطف والبعوض يحوم حول رأسها كأنه مصباح أو مستنقع؟.. وحين أخبروك أنها دمشق، سألتهم أن يطردوها، إذ لا تعرف أماً أو شقيقة بهذا الاسم، ثم تساءلت: أهي خزانة أم مطرقة أم مرآة؟)... هل كان هذا ثأراً ترده لدمشق.. المدينة التي سجنتك وطردتك وشردتك؟.. أم أنها تلك (المطوية بعناية في حقيبة المدرسة.. الخيول الجامحة والسفن التي تسد وجه الأفق؟).
(5)
انطفأت..
ولن تعود إلى حجرتك التي تغص بالأقاصي عند مفصل ما من الليل.. مصطحباً أوضارك فقط.. متجاوزاً يومك الذي لم تثبته على حقيقة.. فهناك ملامح في الصمت تتباين عنها في الحديث.. ويبدو أنه كان الملمح الأخير.. فللّه ما أعطى.. ولله ما أخذ.
***
«1»: هكذا تصفه الراحلة زوجته.
«2»: مسرحيات شهيرة للماغوط
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved