الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

مع قطرات سحائب السدحان
د. عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر

يقرأ القارئ لمعالي الأخ الأستاذ عبدالرحمن بن محمد السدحان مقالاته المتناثرة في المجلات والصحف، وقد لا يعرف منها صورة كاملة عن طول باعه في الأدب، ولكن من يقرأ كتابه: (قطرات سحائب الذكرى - سيرة ذاتية)، يدرك فعلاً أنه أمام أديب يجيد التخطيط لعرض أفكاره، واختيار الأسلوب الملائم، واقتناص التعبير الجذاب عن طرق البيان والبديع، استعارة وكناية ومثلاً، فالأسلوب الراقي في الكتابة يساعد القارئ على التبصر في المادة التي يقرؤها، وعلى التدبر ثم الاستيعاب والهضم، مع ضمان المتعة الكاملة لما أراد لها الكاتب.
بهذا الكتاب وفق معاليه للدخول في (نادي أصحاب المذكرات الشخصية)، وهو نادٍ رحب من دخل من بابه طائعاً مختاراً أغلق على نفسه عن رضى هذا الباب، ولم يخرج من ناديه، لما يكتشف فيه من فوائد جمة، منها أنه يسهم في كتابة جزء من تاريخ زمنه عن طريق سهل موصل. وفي نظري أن المذكرات الشخصية المحايدة هي في مقدمة مصادر التاريخ العام الصحيح.
* * *
** وإني ابتهج كلما رأيت كاتباً يكتب عن طفولته وعن البيئة التي عاش فيها، والمجتمع الذي أحاط به، ويرسم ما مر به من أحداث قد تكون طفيفة في زمنها، ولكنها مع مرور الوقت تصبح حدثاً مهماً فيما بعد، وقد تملأ فراغاً لا يملؤه إلا هي. وعدم تكلف الكاتب فيما يكتب، وتركه القلم يسير رهواً على الورق يضفي على المذكرات قوة تجعلها في محل الثقة والقبول.
والمملكة العربية السعودية اليوم بلاد مترامية الأطراف، وكانت أجزاؤها في الماضي متباعدة إلى أن وحدها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لقد كانت حينذاك العادات متباينة، والمظاهر الاجتماعية مختلفة إلى الحد الذي قد يحرج معه ضيف انتقل من منطقة إلى منطقة أخرى، لأنه يجهل عادات المنطقة التي وفد إليها، وقد يأتي بما هو منتقد. كانت العادات والتقاليد ترسبت بعد قرون، وأصبحت تلائم حياة الناس اجتماعياً وسياسياً وحربياً، ورمت ظلالها على ما أصبحت عليه من صورة.
بعد توحيد المملكة بدأت الاختلافات في العادات والتقاليد بين أجزاء المملكة تتوحد، وبرزت عادات وتقاليد هي صفوة ما كان قائماً، يحكمها المنطق والعقل، مع الاستنارة بتعاليم الدين، وتبلورت هذه بعفوية تامة، لا تكلف فيها ولا تعقيد، جاءت متناسبة مع الحياة الجديدة.
* * *
** لهذا من يقرأ هذه (القطرات) يجد في حياة معالي الأخ عبدالرحمن ما يشده، وما يجعله (يُقرِّب حاجباً من حاجب) من الدهشة في أمور كانت سائدة في منطقة عسير ومنطقة جازان، ثم بهتت الآن أو اختفت، وأقرب مثل دعوات المآدب، والتكاتف في تحمل مصاريف الاحتفال بالضيف القادم، أو المناسبة السنوية إذا حلت. ويدهش القارئ وهو يقرأ التفاصيل في التنظيم، الذي تسلسل من عصور ماضية، وتبلور إلى ما أصبح عليه مما يلائم ظروف المجتمع بأفراده: الأغنياء والفقراء، ويبرز في هذا الاستفادة من خبرة رجل أصبح علماً في القرية في تقطيع اللحم، وتقسيمه على الحاضرين، كلٌّ حسب مقامة، بدقة واقتدار. وإذا كان هذا محل الإعجاب فليس هو العمل الذي يستوقف ابن اليوم ولكن أَخْذُ كل فردٍ تَبَقَّى من حصته شيء لم يأكله، إلى بيته، ليتمتع به في اليوم التالي. وأهل عسير ليسوا بدعاً في هذا، فبعض الأقطار في الغرب يفعلون هذا ليس في الولائم ولكن في المطاعم، يأخذ أحدهم ما تبقى، لأنه قد دفع ثمنه، فإن أبدى السبب، وإلا أعتُقد أنه أخذه لكلبه أو قطته!
* * *
** تمتَّعت كثيراً بالفترة التي قضاها كاتب (القطرات) في عسير وجازان، وأكبرت عراكه مع ظروفه والبيئة، وهو ما صقله، وهيأه لما وصل إليه من كفاح في الدراسة العالية ثم في العمل فيما بعد.
من بين ما تطرقت له هذه الذكريات العزوف عن الدراسة في الصغر، مما يجعلنا ندرك أن هذا لم يكن وقفاً على هذه المنطقة أو تلك، وإنما هو عام في جميع المناطق، لأنه ملتصق بتكوين الطفل وسير الدراسة، وتصرّف المعلمين، والفكرة الخاطئة حينئذ عن التربية والتعليم، وترك الطفل لتصرف رجل جاهل، ينفرد بتشكيل نفسية الطفل، ونظرته للحياة. وتَفَرُّدِه بالعقاب الجائر دون رقيب، بل بتشجيع من أهل الطفل والمسؤولين.
وقد أعفى الله طفل اليوم من العصا ومن الفلقة أو الفلكة بعد أن أحيلتا على التقاعد، وأصبح عقاب من يتعدى الحدود يمر بمصفيات قبل أن ينفذ، وأصبح الهدف من العقاب التقويم لا تفريغ الغضب ولا التشفي.
لقد ذكرت ما يؤكد أن المقبل على خيارين في الدراسة يحتار، هل يذهب إلى القسم العلمي أو الأدبي؟ وكل من حوله يبتعد عن نصحه خوفاً من أن يلام إذا أخفق الطالب حتى والده، وحيرة الطالب تأتي من حمله همّ فراق من يعزهم من زملائه، فهل يتبع رغبته أو يتبعهم، وتأتي الحيرة أحياناً من أن رغبته في القسم الأدبي، ولكن المستقبل للعلمي لتعدد مجالات التوظيف فيه بعد التخرج، والأغلب عندما يقرر هذا أو ذاك يضع في ذهنه التحدي للنجاح حتى لا يكون عرضة للشامتين.
* * *
** لقد استفاد الكاتب من تذكره للحقائق، ولكنه لم يسردها سردهاً جافاً دون تدخل في البحث عن الأسباب التي أدت إليها، أو في بيان النتائج التي انتهت إليها، وإنما جاء بهذه الحقائق مسربلة بالتحليل الذي يعتقد الآن أنه كان يحكم هذه الأمور آنذاك، وهذا أدى إلى إيقاظ ذهن القارئ لقبول الرأي المبدى، أو رفضه، أو الإنقاص منه، أو الزيادة فيه. جاء هذا تحريكاً للساكن، وحفزاً للمشاركة في رسم الصور، حسب ما مرّ على كل شخص في صغره.
لقد أبرز الكاتب بصراحة تأثير بعض حوادث الصغر على الإنسان في كبره، وبيّن كيف تترسب بعض الأمور العابرة داخل النفس، فتلوّن سير الإنسان في الحياة، فدرس الحساب عنده أصبح كريهاً لتصرف المدرس السيئ عندما يخطئ الطالب فيه، والطريقة التربوية القيمة المتبعة حينذاك، وهي في خطئها الفادح كان يظن أنها الطريقة المثلى، لأنها الطريقة المتوارثة التي حفرت جواد عميقة في الأذهان. وهناك كذلك حادثة الكلب التي رافقه رعبها إلى اليوم.
إن في هذا عبرة للآباء والمربين ليجنبوا الصغار ما يمكن أن يرسخ خطأ في أذهانهم مما لا يمحوه الزمن، أو تخلفه الأيام، ويبقي ندوباً غير حميدة في أعماق أنفسهم، تظهر آثارها على تصرفهم، وتحرمهم السعادة التي كان بالإمكان أن ينعموا بها.
* * *
** والمذكرات تعطي صورة واضحة لجهاد الناس في ذلك الزمن وهم يسعون لتأمين معاشهم، وهذا يكشفه حديث الكاتب عن والده وعن جده بصفة مفصلة، وعن غيرهما بصفة عامة. ومع هذا فالمعيشة في عسير حينذاك أيسر منها في نجد بدليل ذهاب أهل نجد إلى عسير أو جازان طلباً للمعيشة. وبمقارنة حياة طفل عسير بحياة طفل نجد في الزمن نفسه نجد أن طفل عسير في حال أحسن، لأنه يتناول فطوراً، ويأخذ معه للمدرسة خبزة، وهو ما لم يكن متوافراً لطفل نجد.
هذا الكتاب من الكتب التي إذا بدأ المرء قراءتها لا يستطيع تركها إلى غيرها إلا بعد أن يكملها، وأكتفي بما ذكرته حتى لا أُطير الحمامة من القفص كما يقول المثل.
* * *
** أرجو ألا يجعل أبو محمد هذه القطرات بيضة الديك، وأن يتبعها بأخرى وأخرى تكشف جوانب لم تكشفها هذه، فما من كاتب مذكرات يمكنه أن يدعي أنه أتى على كل شيء في حياته في الصغر في أول جزء، لأن الذاكرة سوف تمده لاحقاً بما غاب عنها سابقاً.
ومادام الكاتب سمى مذكراته (قطرات) لا قطرة فهذا عهد منه أنه سوف يتبع هذه القطرة قطرة وقطرة، ووعد الحر دين عليه.
أود أن أوجه، في نهاية هذه الكلمة، رجائي وندائي إلى كل صاحب قلم، وإلى كل جامعي، وإلى كل صاحب عمود في الصحف إلى كتابة مذكراتهم، كل في منطقته، ولو استجابوا لجاء من هذا خير عميم، وأنا أضمن لكتّاب الأعمدة أن الإقبال على قراءة ما يكتبون عن حياتهم سيكون أعظم من الإقبال على ما يكتبون الآن عن غيرها.
والله المستعان....
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved