الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

لمحات من سيرة كاتب.. (1-3)
عبدالعزيز بن عبدالله السالم

بطل هذه السيرة لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ولا حتى من خشب، وإنما ولد كما يولد كثيرون من أمثاله وأمثالي ممن يمثلون معظم شرائح مجتمعنا الذي تغلب على طبيعته البساطة في مختلف ألوان العيش وأنواع السلوك.
وقد كانت الحياة وهي تستقبله قبل ستين عاماً تتصف بشظف المعيشة ومحدودية مجالاتها وصعوبة الحصول على المادة؛ فالبيئة شحيحة العطاء تنقصها كل مظاهر التطور والتجديد، فلم تنلها يد المدنية المعاصرة، ولا صبغتها ألوان الحضارة القائمة. كان طابعها البساطة المتناهية من جميع جوانبها. تعتمد على الجهد الإنساني الذي حلت محله الآلة في عصرنا الحاضر، ومن استقراء هذه السيرة نلمس المعاناة الشديدة التي واجهها كاتبها. بحكم أنه يمثل فرداً في مجتمع تتشابه فيه نشأة الأفراد، فلم تكن الآفاق مفتوحة على العلم كما هو واقع الحال، ولا كانت وسائل الاتصالات والمواصلات كما نعيشها الآن، ولكنها كانت حياة روتينية هادئة بطيئة الحركة. لا يتخللها طفرات مادية، ولا تبدو في أجوائها ومضات حضارية تُخفِّف عن كاهل الفرد معاناته، وتحمل عنه جل تبعاته، فهو لا يستند على آلة تحمل عن كاهله بعض ما يعانيه، ولا يوجد مخترع جديد يعينه في مناشطه الدنيوية ويسهل له تحركاته، وإنما هي آلات بدائية أوجدتها الحاجة (والحاجة أم الاختراع) وهي بمقياس ذلك الزمان مهمة ولكنها تعتمد على الإنسان في استعمالها لأنها بدائية في ذاتها، فلا كهرباء ولا نفط ولا ما يساعد على إيجاد المخترعات التي تتوافر حالياً في كل مبنى وفي كل دائرة وفي كل متجر، بل في كل مكان صغر أو كبر في مدينة أو في قرية، كما أصبح في مستطاع كل فرد أن يستخدم الآلة الحديثة بحسب اختصاصه ووفق احتياجاته، وليس الوضع كذلك بالنسبة لجيل سلف وعهد مضى.
***
كان المجتمع السعودي في تلك الفترة متكيفاً مع الطبيعة التي نشأ في ظلها والظروف التي يمر بها، فتعامل مع تلك البيئة من واقع حاله وبدوافع احتياجاته، فصنع من الأشجار والجلود والأصواف وما تنتجه البيئة من المواد المتاحة ما يكفي لتأمين متطلباته في هذه الدنيا ويستجيب لرغباته في تكييف حياته، كان الحيوان رفيقه في الدرب وحامله في السفر، ومؤدي خدماته في الزرع والحرث، فقد كانت الإبل هي الوسيلة التي يسافر الناس عليها في البر مسافات طويلة، وهي التي تحمل أثقالهم من بلد إلى آخر عبر الصحاري الشاسعة والدنيا الواسعة.
وكانوا مع مشقة العيش، وشدة تكاليف المعيشة سعداء في مجتمعاتهم هذه المحدودة الحركة الشديدة القناعة بما لديهم من خير قليل، فقد كانت لهم راية مرفوعة ونخوة مُهابة. شيمتهم الشجاعة ونهجهم السماحة. ليس للجبان بينهم مكان، ولا للبخيل عندهم قيمة. نشأوا على مكارم الأخلاق والتعاون فيما بينهم كرماً مع قلة ما في أيديهم من المال. نفوسهم سمحة تجود حتى بأرواحهم فضلاً عن أموالهم تلك كانت سيرتهم، وعلى نهجها كانت مسيرتهم.
***
الدنيا في واقعها ليست مسرات دائمة وأفراحاً متتالية، وإنما يعتريها الملل حتى مع وفرة المال ووجاهة الحال، فإن الإنسان مع كثرة غناه ووجاهة وضعه تتطرق إليه الهموم وتستبد به الأحزان، وقد يغبط الفقير على فقره، والمغمور من الناس مع عدم بروزه، وذلك لأن الحياة في ذاتها من مقتضياتها السرور والحزن، وإذا لم تكتنفها المصاعب وتبدو على جنباتها بوادر من المتاعب، فإنها تفقد أهميتها وتتضاءل قيمتها، فالشعور بالراحة يأتي بعد التعب، ولا يكون للفرح لذة إلا في أعقاب حزن، وتبادل المواقع بين أفراد البشر من مستلزمات طبيعة هذا الوجود، فإن من مقتضيات الحياة المحدودة الرتيبة أن يسري في مفاصلها التبرم، ويعتورها السأم، وكذلك يكون تكرار أنماط الحياة على نسق واحد وفي نطاق محدد، مما يجلب الملل الذي يمتد حتى يصبح الشعور به ملازماً للإنسان.. وتجدّد مناشط الحياة وتنوع وسائلها مما يستدعي الشعور بالراحة النفسية والإحساس بالرضا.
وعندما نتأمل مسار الحياة نجد أنها في كثير من جوانبها محاطة بكثير من المنغصات والعديد من الصعوبات. تحيطها المشكلات من كل جانب والمتاعب من كل صوب. حتى يكاد يبلغ الحال في انعكاسه على نفسيات بعض الأفراد إلى صورة من اليأس من دنياه، فتبدو له كما لو كانت تضيق بطموحاته وتحطم تطلعاته، فلا يستشعر لها قيمة ولا يحس نحوها بأهمية، يخالجه هذا الهاجس. حتى يراها تبتسم له بعد عبوس، وتصفو له بعد كدر، وتسخو بعد قنوط، وتزدهر بعد ذبول.
***
ونحن نتابع رحلة العذاب خلال هذه السيرة الذاتية نلتقي ببطلها عبر طفولته وصباه ويفاعته وشبابه، فنحس مدى معاناته في مخاض الأحداث وقسوة الظروف، وجد نفسه قد تمرد على السكون، والركون إلى الخمول والإخلاد إلى الراحة، فاعتمد بعد الله على هذه النفس التواقة للحركة. المتطلعة للعلم، فرسالته في الحياة أن يحقق أهدافه التي يرسمها في ذهنه ولا تستجيب لها ظروفه. حيث يراها تتحطم أمامه كما يتحطم الزجاج على مادة صلبة. إنه ينطوي في داخله على نفسية متمردة على العجز، وروح متوثبة نحو المجد، فارتقى بإصراره على تحقيق أحلامه وهو يمارس ما يشبه المعجزة، فكل المعوقات ضدّه. لكنه صمد أمامها وانتصر عليها، فارتقى بإصراره على تحقيق آماله، وما زادته العقبات إلا إصراراً على المضي في طريقه المحاط بالمخذِّلات، لم يستسلم الصبي الصغير لطول الطريق الذي يسلكه ووحشة المكان الذي سيقهره، وصعوبة المواصلات في عهده، وإنما حاول أن يبعث إرادته وأن يحقنها بالصبر على مواجهة الشدائد، ويستنهض همته لتقف معه وترفد مسيرته، فبدأ العلم من أبوابه الضيقة بداية تقليدية متعثراً في الانتظام في الدراسة بحسب الوقت المتاح والجهد المحدود.. لكنه جاهد نفسه بتطويعها على قبول التحديات التي تعترض طريقه، فحطَّم الحواجز الوهمية التي توهم أنه لن يستطيع اجتيازها، وانتصر على الصعوبات التي واجهته واحدة بعد الأخرى. حتى أسلست له قيادها، وبتصميمه الواثق وعزمه الأكيد وإمعانه في المضي قدماً نحو النجاح، تسنَّى له أن يمسك بالمفتاح الذي فتح آفاق المستقبل الواعد.
***
نشأ كما تنشأ النبتة الغضة. طري العود ضامر الجسم. لم تستقبله عند ولادته زغاريد الفرح في أحد مستشفيات الولادة التخصصية الراقية، ولم تحمله أكف مترفة من ممرضات مدربات، ولا هبط على وسائد من حرير، وإنما ولد على يد (قابلة) لم تعرف مدرسة في حياتها، ولا تخرجت من معهد صحي، ولا مارست دورات تدريبية في التمريض، وإنما صنعتها الصدفة استجابة للحاجة تبعاً لإمكانات البيئة، فكانت المرشحة لاستقبال مواليد البلدة، وربما كان استقبال هذا الوليد فوق كومة رمل أو على بساط ممزّق لكثرة الاستعمال.. وكأن هذا الاستقبال المتواضع يحمل في تضاعيفه ظلال متاعب ستواجه الوليد الذي يستقبل دنياه وهو جاهل بما ستحمله الأيام، وما سوف ترسمه الأحداث على صفحات الزمان، وهو بالتأكيد بعيد التصور عما سيجري له إذا درج على أديم هذه الأرض وسعى في مناكبها، وما قد تدخره له الحياة من مصاعب جمة خلال طفولة معذّبة، تعاورته الأمراض وهو في المهد صبيا، وجرّب المعاناة وهو غض الأهداب ليّن العود، فعاش طفولته يصارع فيها المد والجزر، وهو أشبه بغصن طري تلويه رياح المواجهات، وتتقاذفه الأعاصير من كل اتجاه، فتعلو به تارة وتهبط به أخرى، وهو كالريشة في مهب العاصفة. لم تتوافر له ظروف تقوده إلى مرفأ الأمان والهناء، وليست له قدرات تحميه من تقلبات الأجواء ونكد الدنيا.
***
واجه ظروفاً قاسية تتنازعه من خلالها عواطف مقسمة. بين والدين منفصلين عن بعضهما، والدة متزوجة بغير أبيه يشاركه في حضنها الدافئ إخوة من غير والده، وبيت تتزاحم فيه ثلاث ضرات. أمه ثالثة ثلاث لزوج واحد. كل واحدة منهن لها أولاد وترى أن لها وأولادها نصيباً في هذا البيت.. أما والده الذي ينتمي إليه، فلا يعرف عنه سوى أنه انتقل إلى منطقة أخرى يفصلها عن منطقته التي يعيش فيها جبال شامخات وعقبات صعاب، وبيئة مختلفة في مناخها وطبيعة حياتها.
وتلفّت حوله وهو يعاني مدى الفراغ الذي يلفه، والعجز الذي يقعد به عن التفكير في مصيره المجهول بين الأب الغائب والأم المرتبطة بأسرة طارئة على حياته لا يربطه بها سوى هذه الأم، فإذا حمله الحنين إليها وأفرغت عاطفتها باحتضانه والتودد إليه حدث منه كطفل بعض المشاكسات مع أولاد ضرات والدته، فهم يعدونه غريباً بينهم ليس من حقه أن يتمتع بما يتمتعون به من ميزات. أهمها أنهم في بيت والدهم وهو متطفل عليهم، فتحتدم بينه وبينهم المعارك بالأيدي والألسن، وعندما تسفر المعركة عن بكائه الحاد تتدخل الأم لصالحه ضد أولاد زوجها من الأخريات، وهنا يجيء دور أمهاتهم للدفاع عنهم (وينشب بسبب ذلك اشتباك صوتي بين الأمهات. كل أم ترى في طفلها ملاكاً بشرياً).. وهنا تتحكم عاطفة الأمومة، فكل أم لا ترى أخطاء ابنها وإنما ترى حسناته، ولأنه يحمله حبه لأمه إلى اللجوء لهذا البيت الذي يحس بغربته فيه، فإنه مضطر لاقتحام الصعاب في سبيل البقاء بجانب والدته، ولتكرار المنازعات بين الأطفال التي ستتبعها مناكفات بين الأمهات فقد قررت والدته أن تضع حداً لهذا الوضع الذي يتأزم بدخول ابنها البيت، وفي محاولة لإرضاء الآخرين والأخريات الذين يمتلئ بهم البيت فقد عاقَبته عقاباً قاسياً ظل يبكي جراءه مدة طويلة، وتمادى في بكائه وسط عاصفة صوتية أرغمت أمه على طرده من البيت، فخرج مكسور الجناح مجروح الكرامة متأثراً بشماتة أنداده من الأطفال وربما أمهاتهم، ولكي نرصد انعكاس مرارة طرده على نفسيته، نلمس شدة انفعاله بالحدث فقد كان رد الفعل لديه أن قام بشن هجوم بالحجارة على باب البيت، مما أحرج والدته: في أنها ما أحسنت تربيته، ففتحت الباب واستدرجته للدخول وضربته ضرباً شديداً على تعديه، فأخذ ينتحب في حزن وانكسار، ثم تراجع عن مواصلة البكاء وأدرك خطأه وأنه مستوجب للعقوبة على فعلته، فجفف دموعه الغزيرة بغترته، وعاد للبيت ليعتذر لأمه فوجدها نائمة، فخلع الغترة المبللة بالدموع التي انسكبت عليها وغطاها بها، وهي تحمل دموعه ومشاعره نحوها وحبه لها، وحين أحست الأم بما فعل تفجر في داخليها فيض من الحنان المتدفق، فأخذته بين يديها في لهفة المشفق عليه إلى صدرها الحنون وهي تمطره بوابل من قبلاتها الحارة ودموعها الساخنة، والألم يعتصر قلبها لضربه وطردها له. وفي مثل هذا المشهد تختلط الدموع بالدموع، وتمتزج العواطف بالعواطف.
وقد ظل هذا الموقف العاطفي العفوي مرتسماً في ذهن الأم والابن زمناً طويلاً: يحيا في وجدان كلٍ منهما ويتجدد عند كل مناسبة وفي كل ذكرى؛ في الهاتف إذا كانت بعيدة عنه، وفي حضورها إذا كانت قريبة منه. حب مفعم بأريج الود الصادق. ونبع الحنان المؤطّر بسياج الود الصادر من الأعماق، ولا شك أنه موقف عاطفي مؤثر جداً. لا يدركه إلا من تَمثله بوجدانه واستشعره بعواطفه.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved