الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

الأمريكي المتفوق دائماً.. ونحوه
ماجد الحجيلان

البطل الأمريكي التقليدي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ذاك الذي يقتل الأشرار فتطرب ويقتل الطيبين فتغفر له، هو ذاته الذي يعيد ستيفن سبيلبيرغ تخليقه في فيلمه (ميونخ) الذي يروي قصة اختطاف الرياضيين الإسرائيليين من أولمبياد ميونخ عام 1972 على يد منظمة أيلول الأسود التابعة لحركة فتح، انتقاماً لعدد من العمليات التي نفذتها إسرائيل أوائل السبعينيات في فلسطين ولبنان ودول أخرى وللمطالبة بإطلاق سراح أكثر من مئتي معتقل، لكن البطل هذه المرة هو عميل الموساد الشاب الإسرائيلي (آفنر) الذي تختاره غولدا مائير وكبار الضباط الإسرائيليين لقيادة عمليات التصفية التي قررتها رئيسة الوزراء وتابعتها بنفسها بعد تحديد المسؤولين عن العملية حسب الرواية الإسرائيلية، ويمضي الفيلم في تصوير مشاهد الانتقام من عدد من الناشطين الفلسطينيين في أوروبا، ممزوجاً بمواقف إنسانية مختلفة للبطل الموسادي ورفاقه الذين يحبون الأطفال ويكرهون القتل لكنهم يضطرون للقتل بدم بارد ثم يحتفلون، كما يضطر شارون بضمير متعب لقصف المدارس وسيارات الإسعاف.
هذا الفيلم أثار جدلاً واسعاً لأسباب في معظمها سياسية لا فنية، وهو لا يكاد يرضي أحداً سوى سبيلبيرغ نفسه الذي دعاه (رسالة سلام) فرغم تبنيه للرواية الإسرائيلية لما حدث من أن الخاطفين الفلسطينيين قتلوا الرياضيين الإسرائيليين حين اكتشفوا في المطار الألماني عدم وجود طيار في المروحية، وهي الرواية التي وضعها الكاتب الكندي (جورج يوناس) تحت عنوان (انتقام) أو ثأر، فإن القنصل العام الإسرائيلي في لوس أنجلوس إيهود دانوخ هاجم الفيلم وقال إنه ساوى بين خاطفي الرهائن وعناصر الموساد وكذلك فعل عدد من النقاد الإسرائيليين، بينما كتب نقاد فلسطينيون يهاجمون سبيلبيرغ لتبنيه هذه الرواية الإسرائيلية التي دحضتها تقارير الطب الشرعي الألمانية فيما بعد واعترفت بها صحيفة يدعوت أحرونوت وتثبت أن الأمن الألماني استجاب تماماً ًلطلب إسرائيل بعدم التفاوض مع الخاطفين مطلقاً وإطلاق النار عليهم مع الرهائن في المطار ما أدى إلى مقتل الرياضيين التسعة جميعاً الذين أصيب معظمهم برصاص ألماني، وهو ما يؤكد جهاد الخازن أنه يستطيع أن يشهد عليه لمتابعته الحدث عن قرب وقتذاك في أثناء تغطيته لوقائع الأولمبياد في ميونخ، وبعيداً عن هذه التفاصيل كان مأزق ترشيح الفيلم للأوسكار بالتزامن مع الفيلم الفلسطيني -تقريباً- (الجنة الآن) لهاني أبو أسعد أدخل أجواءه في سجال سياسي معقد بتعقيد القضية الخمسينية، علامته هذا التجاذب الشديد في الآراء حيث وصف ناقد فلسطيني سبيلبيرغ بالانحياز (وعدم التجرد من تعاطفه مع أبناء جلدته) لكونه يهودياً.. والواقع أنه لا يمكن الاطمئنان إلى وصف كهذا حتى لو كان سبيلبيرغ معتزاً بفيلمه الشهير (قائمة شاندلر) حول فظائع النازية، فالمراقب لمعطيات السينما الهوليوودية يجد في (ميونخ) استثناء كبيراً وخروجاً على القاعدة، فسبيلبيرغ بالذكاء الذي يطبع أفلامه لا تنطلي عليه الصورة النمطية الفاقعة للعربي الذي يمكن أن يقوم بدوره أي ممثل ذي ملامح كريهة، فهو اعتمد ممثلين عرباً وكان حريصاً على تطعيم فيلمه بناطقي اللهجة الفلسطينية بشكل لا تجده حتى في الأفلام العربية والمصرية منها على وجه الخصوص، ورغم أن حضور المقاتل الفلسطيني كان قليلاً أو مقتصراً على (بضع كلمات ثم يقتل مباشرة) كما رأى الصحافي سليم أبوجبل في تقريره عن الفيلم، إلا أن هناك مشاهد أخرى يبوح فيها الفلسطيني بوجعه.. والفيلم نفسه يطرح الأسئلة الكبرى حول أخلاقيات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وجدوى القتل أو عبثية (الانتقام) كما يرى النقاد السينمائيون..
وتبقى ملحوظات كثيرة حول بطل العمل (آفنر) الذي لا يفسر لك الفيلم لماذا يجري اختياره بوجه خاص وانتزاعه من حياته الخاصة وفصله من الموساد رسميا رغم انعدام خبرته لقيادة عملية حساسة كهذه، ولماذا عمد سبيلبيرغ إلى الفلاش باك طوال الفيلم عبر إعادة مشاهد من عملية الاختطاف والقتل (الوحشية) التي تؤرق البطل وترهق إنسانيته المرهفة في صحوه ونومه، كتبرير موضوعي لشهوة الانتقام حين تبلغ ذروتها، غير أن الرؤية الفلسطينية يمكن أن تراها محاولة لتكريس صورة الإرهابي والتعاطف مع عميل الموساد.. كما ترى أيضا أن الانطلاق من عملية ميونخ لمعالجة القضية هو أمر يمثل انحيازاً مسبقاً، فلم لم يختر سبيلبيرغ قصص المذابح الشهيرة في دير ياسين وقانا وجنين وغيرها.
ومن اليسير بالمعطيات الآنية أن يقال إن هذه العملية كانت من أبرز أخطاء المنظمة وارتكاباتها دون فحص دوافعها التي سبقت مباشرة عملية ميونخ وهي قصف مخيمات فلسطينية في لبنان وتهجير الآلاف من قريتين في الجليل، أو القول إن اختيار ألمانيا التي تعاني من عقدة يهودية مزمنة مسرحاً لعملية تتطلب التفاوض مع الأمنيين كان خطأ استراتيجياً بتجاهل الأثر النفسي المدمر على الثوريين الفلسطينيين إثر منع (فلسطين) من المشاركة في الأولمبياد بوصفها ليست دولة، وهو الأمر الذي يمكن أن يوفر الضغائن اللازمة لتنفيذ عملية كهذه وفي أجواء كأجواء النضال في السبعينيات.
الطابع الوثائقي التسجيلي الذي صبغ به سبيلبيرغ العمل بدءاً من مشاهد حقيقية لتغطيات الإعلام الألماني والعالمي في ذلك الوقت ثم التصوير في أماكن الحدث الحقيقية عدا بيروت واعتماد ممثلين من دول مختلفة كان سيسجل لصالحه قطعاً.. لو أن سبيلبيرغ أنفق شيئاً من الملايين السبعين ليقدم تبريراً كافياً للجمهور حول جدوى افتتاح الفيلم بمشهد شبان أوروبيين يساعدون الخاطفين العرب على قفز سور الاستاد دون أن يعرفوا أهدافهم، وكأن تخطيط العملية المتقن بكل المقاييس اللوجستية كان يعوزه الكرم الأوروبي الشهير، أو لو أنه برر خلق قائد فذ وعسكري محنك من عميل عديم الخبرة حديث السن أب حنون ذي ضمير متيقظ يهوى الطبخ، خلاف التبرير الهوليوودي الدرامي المعتاد للبطل بمواصفات أمريكية الذي يتمتع بملامح وسيمة ويشذب ذقنه جيداً ويقضي على الأعداء وتحبه النساء الأجنبيات.


hujailan@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved