الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

مفارق الكتابة
نحو قراءة متزنة للنقد العربي الحديث
مرزوق بن تنباك وقضية الوأد 1
محمد العامر الفتحي
أصغي -كثيراً- لما يقدم الدكتور مرزوق بن تنباك، وأتتلمذ على بعض ما يأتي به، وأُجلُّ اجتهادَه.. والدكتور -كما قرأته من قبل- متعطّش لمزيد من البحث، متسائل أمام ما يقع تحت ناظريه من القضايا، متشكك فيما يعترض دربه من المسلمات. ومع تسليم كل ذي عقل بأهمية البحث في آلاف الموروثات التي اعتدنا على أن نضع رقابنا في قيدها.. ومساءلة التراث ما جاء به.. في غير إذعان إلا للمقدس، فإنّ الدكتور مرزوقاً -في تقديري- جاوز حدّ العلاج في تناوله لقضية الوأد ليقع فيما حاول الاعتراض عليه من تصديق الوهم، والحكم بشيء من الهوى، وشيء من الظن. وستتناول أسطري القادمة أدلته التي بنى -على ضوء من قناعته بها- حكمه المطلق. سأقف أمام عشرات الأفكار التي بثها الدكتور في كتابه (الوأد عند العرب.. بين الوهم والحقيقة) لأُرِيَ القارئ الكريم أنه يمكن الاستدراك على كثير منها. وعلى أساسٍ من الإيمان بأن مثل هذه الدراسات حاجتها إلى الحجة تفوق بمراحل حاجتها إلى الظن أو الإنشاء، فسيكون منهجي فيها مبنياً على مناقشة البراهين التي كانت ثقة الدكتور فيها أساسًا لثقته في نظريته التي استحدثها من العدم!
ولأن الدكتور (وَأَدَ) كثيراً من الأدلة المبينة لحقيقة الوأد، فإنني أستأذنه في أن أخالفه إلى تلك الأدلة (لأستنقذها كما فعل الأولون) من سراديب الإقصاء التي أرادها لها! سأهتم بأن أتتبع ما ساقه الدكتور من الأدلة العقلية.. وسنرى أن في كثير منها مجالاً كبيراً للشك.. ومن الأدلة النقلية.. وسنرى أن الدكتور أوّلَ بعضها تأويلاً بعيداً (ليس من وجهة نظري) وإنما لأن بين يدي أدلة نقلية أخرى تنقض تأويله نقضاً لا لبس فيه.
وأريد أن أؤكد قبل كل شيء أنني لا أتهم الدكتور بشيء، بل إنني أقدم حسن الظن فيه على ما قد يعتري الذهن عند الوقوف على شيء مما في الكتاب. لقد جاءت أدلة الدكتور مضطربة ومتناقضة، وكانت -لذّة الكشف- دافعاً قوياً، سهّل عليه أمر الوثوق بها، دون زيادة تمحيص أو إعادة نظر. وقد أوقعه حرصه على أولية النتيجة في مزالق ما كان لمثله أن يقع فيها!
فمن هذه المزالق أن الدكتور يكثر من اتهام المفسرين بضعف الأمانة، واختراع القصص والاستفادة من أبيات الشعر، وقبول الكاذب منها والصادق دون مراجعة، كل ذلك لأنهم - في رأيه- لا يعرفون أسرار اللغة العربية! وأنا هنا لا أقوّل الدكتور ما لم يقل.. بل هو نقلٌ لما صرّح به..! فنحن نجده مرة يقول (أخذ المفسرون رواية الوأد، واعتمدوا أبياتا قالها شاعر يفخر بنسبه وحسبه، واعتمدوا عليه، ورددوا روايته، ثم صنعوا القصص حول الوأد، وطريقته وأسبابه)! وأخرى يقول: (نرى أن التأنيث - يعني في {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} - صرف بداهة أذهان أول المفسرين، فاجتهدوا بدلالة المعنى المباشر للموؤدة.... ولم يتدبروا النصوص التي أشارت إلى قتل الولد)! ويقول في موضع ثالث: إن الأوائل لم يكونوا في حاجة إلى: (العدول بالقرآن عن سياقه إلى المعنى البعيد الذي اتخذه المفسرون وأسرفوا في تأويله وعدلوا بالقرآن ومعناه عما تقوله اللغة)!.. كل هذا ومثله معه يريد الدكتور من خلاله أن يؤكد أن المفسرين الأولين رددوا رواية شاعر، ولم يتدبروا نصوص القرآن، وعدلوا به عن سياقه، وأسرفوا في تأويله، وعدلوا بمعناه عما تقوله اللغة! ومن منطلق إيمانه بتساهل المفسرين أو عدم فهمهم لما جاء به القرآن الكريم، طفق يخرج من ذهنه كل معنى أشار إليه المفسرون القدماء، ويباشر عملية استنتاج معان أخرى لا يصدّق فيها إلا نظره وفكره واستنتاجه! وسأباشر الوقوف بين يدي النصوص التي ظنّ أن المفسرين أخطأوا فيها من حيث أصاب!
فأولاً -يستنتج الدكتور من ذكر الله سبحانه لقضية (قتل الولد) في بيعة النساء في الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.. } الآية.. أنّ ذلك يفسر مسألة الوأد.. وأن الوأد الذي تتحدث عنه الآية مقصور على دفن المواليد الذين يكون الحمل بهم نتيجة لعلاقات غير شرعية! أما كيف فهم هذا.. ومن أين استخرجه.. فها هو يقول: (إن الدين لم يجعل عدم قتل الولد شرطاً في بيعة الرجال كما جعله شرطاً في بيعة النساء)! وهكذا بنى على هذه الملاحظة - التي صدّقها دون بحث وسأثبت هذا - فكرة أن القصد بقتل الأولاد هو قتل الأولاد الآتين من علاقة غير شرعية! وأنا هنا أود أن أذكّر الدكتور بدليلين ثابتين: الأول نقلي: وهو حديث شريف ينقض هذا الادعاء تماماً.. ويثبت أن الرجال قد طلب منهم أن يبايعوا على أن لا يقتلوا أولادهم.. والحديث أورده البخاري في صحيحه والنسائي في سننه وأحمد في مسنده.. يذكر (أنَّ عُبادةَ بنَ الصامِتِ رضيَ اللّهُ عنهُ - وكانَ شَهِدَ بَدْراً، وهُوَ أَحَدُ النُّقَباءِ لَيلةَ العقَبَةِ - أَنَّ رسولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلم، قال وَحَوْلَهُ عِصابَةٌ مِنْ أَصحابهِ: (بايعوني على أنْ لا تُشرِكوا باللّهِ شيئاً، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنوا، ولا تَقْتُلوا أَوْلادَكم، ولا تَأْتوا بِبُهْتانٍ تَفْتَرونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكمْ وأرْجُلِكمْ، ولا تَعْصوا في مَعْروف. فمَنْ وَفَّى منكم فأجْرُهُ على اللّهِ، ومن أصابَ مِنْ ذلك شيئاً فعُوقِبَ في الدُّنْيا فهُوَ كَفَّارَةٌ له، ومَن أصابَ مِنْ ذلك شيئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللّهُ فهُوَ إلى اللّهِ: إنْ شاء عَفا عنهُ، وإن شاء عاقَبَهُ). فبايَعناه على ذلك).. وهكذا يكون نقصان الاستقصاء في دراسة الدكتور سبباً في ارتكاب أخطاء ما كان لمثله أن يرتكبها! والثاني عقلي: فلو كان الوأد مقتصراً على الآتين من علاقات غير شرعية لما رضي أحد من العرب أن يفتدي صعصعة بن ناجية أو عمرو بن نفيل ابنته.. ولانتفت تماماً فكرة الاستنقاذ من أصلها.. وسيأتي بيان ذلك.
وثانياً - حين تأتي الآية الكريمة، صريحةَ الدلالة في تصوير حالة الجاهلي حين يرزق أنثى، فتذكر حالته النفسية، وتبين مظاهر الأسى الخارجية، وتصور ما يعتلج في صدره من مخططات متناقضة.. قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }58{ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}.. يرفض الدكتور هذه الدلالة الصريحة، ويرفض كل التفاسير التي تعرضت لها، ويحاول تفسير ما يمكن تفسيره منها بما يتوافق مع ما سبق تقريره في ذهنه. وهكذا نجده يعيد الضمائر في (أيمسكه) و(يدسه) على الوجه مرة.. وعلى الدس المجازي مرة، ويعني به إخفاء البنت في البيت لا تخرج منه!
يقول الدكتور: (الجديد في هذا النص أنه تجسيد لوصف حال الرجل الذي رزق البنات، وتصوير لغضبه وحزنه، وما يغضب الإنسان ويحزنه لا شك أنه يواريه ويدسه ويخفيه، ويكره أن يظهر للناس، فاستعمل القرآن المجاز الذي يبلغ الحد الأقصى في التأثير..... وهنا جاء التعبير بالدس في التراب، وهو أقصى ما يعبر عنه بالإخفاء وكذلك الإمساك بالهون استعمال أقوى في بلاغة التلقي لما يريد الإنسان إخفاءه إخفاء كاملاً له وكلمة الهون والتراب تؤديان معنى الذلة والضعف).
وأريد أن أُذَكّركم أولاً أن الدكتور خالف هنا ما قرره قبل خمس صفحات فقط من هذا الكلام! إذ قال في موضع متقدم: (والقرآن كما نعلم يفسر على ظاهره ما لم يكن هناك صارف يصرف عنه). فأي صارف وجده الدكتور صرف الآية الكريمة عن ظاهرها، وسمح له بالتأويل غير الواضح لقضية واضحة، إلى الدرجة التي جعلته يقول (ولا يفهم من هذا النص إلا المعنى المجازي للهوان)؟! والأمر الآخر أن الدكتور ساوى بين معنيي (يمسكه) و(يدسه) إذ جعل الدس هو الإخفاء، وقد أورده هكذا مفسراً بكلمة واحدة.. لأنه لا يناقض نظريته! ولكنه حين أراد أن يفسر كلمة (يمسكه) في الآية.. وجدها قد جاءت في مكان الخيار الثاني المخالف للدس وهذا ينقض نظرية الدكتور من أساسها، ومن أجل هذا نجد الدكتور يحاول تفسير كلمة (يمسكه) بعبارة طويلة وكأنه يهرب من مواجهة هذه الكلمة الصريحة. يقول الدكتور عن (يمسكه): (استعمال أقوى في بلاغة التلقي لما يريد الإنسان إخفاءه)! ولم أجد تفسيراً لقول الدكتور (استعمال أقوى) إلا أن يكون أراد أقوى من (يدسه)! وأنا أرى أن هذا التأويل ينطبق عليه ما اتهم المفسرين به من العدول بالقرآن عن سياقه! فمن الواضح أن الآية الكريمة تصور خيارين يحتار الوالد بينهما، الإمساك الذي يعني التربية والكفالة والرعاية مع ما فيها من الشعور بالذل.. أم الدس في التراب وهو أوضح من أن يحتاج إلى تفسير! ويزيد الدكتور فيزعم أن العرب كانوا يخفون أسماء البنات يقول: (وكذلك كان يفعل العرب أيضا إذ كانوا يخفون اسم المرأة ولا يذكرونه)! بينما يجد الدارس للآثار الأدبية والتاريخية أن هذا القول لا دليل عليه، ونعجب من دارسٍ يلقي كلمة كهذه وهو يعلم أن الواقع يخالفها، ثم يمضي في دربه دون إعطاء الكلمة حقها في التدليل والبرهنة شعراً أو نثراً! وقد ورد عن العرب في الجاهلية ثم في صدر الإسلام ثم في العصور التالية لهم تصريحاً لا غضاضة فيه بأسماء النساء.. والأدلة لا تكاد تحصى. ثمّ إنني أريد - قبل أن أخرج من هذه المسألة - أن أذكّر الدكتور بأن الحديث الشريف نصّ على القبر حين تحدث عن الموؤدة، وهذا دليل صريح على أن الوأد حقيقي لا مجازي، وأنه دسٌّ للبنت في القبر وليس دسّاً للوجه أو الاسم! فقد ورد في مسند الإمام أحمد: حدّثنا عبدالله حدَّثني أبي حدثنا حسن قال: حدثنا ابن لهيعة حدثنا كعب بن علقمة عن أبي كثير مولى عقبة بن عامر عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: (من ستر مؤمناً كان كمن أحيا موؤودة من قبرها). وهكذا نجد الحديث صريحاً في تأكيد العلاقة بين الوأد والقبر، لا كما أراد الدكتور أن يفعل من تعليق الوأد على المجاز!


يتبع

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved