الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

قصة قصيرة
رائحة الوجع
خليل إبراهيم الفزيع
امتدت يده إلى علبة الدواء.. تناول قرصا وأتبعه جرعة ماء.. أحس بمرارة الدواء في حلقه.. أم هي مرارة الماء يتركها المرض الذي يجتاح جسده ولا يستطيع مقاومته.. بعد أن خارت قواه، وهزل جسمه، واصفر لونه، واشتعل رأسه بالشيب.. ولما يكمل العقد الرابع من عمره؟
البرد شديد يكاد يتوغل في عظامه.. رغم الهواء الحار المنساب من المكيف.. تحامل على نفسه ونهض من السرير.. توجه إلى خزانة الملابس واستخرج رداء لفه حول نفسه.. عاد إلى السرير.. وغطى جسده بلحاف وثير لم يمنع البرد من التسرب إلى جسده الواهن.
لم تفده تشخيصات الأطباء.. ولم تنفعه الأدوية التي وصفوها له.. منذ ما يقرب من عام، وهو على هذه الحالة المتردية يوما بعد يوم.. فما الذي يحمله الغد بعد أن فشل الأطباء في معرفة علته، واكتفوا بوصف المسكنات له.. في بداية مرضه اقترح عليه المقربون من أصدقائه السفر للعلاج.. سافر.. حين احتار الأطباء في الخارج - كما هم في الداخل - في تشخيص علته رغم كل ما يقال عن تقدم الطب.. عاد إلى الوطن بعد شهرين قضاهما متنقلا بين بعض العواصم الأوروبية بحثا عن العلاج.. كلهم يؤكدون أن ضعف جسده، والحمى التي تنتابه، واصفرار لونه، كل ذلك بلا سبب واضح؛ لأن جميع أجهزة جسمه تعمل بانتظام، ولا يوجد مؤشر لتعطل أحدها، أو سبب يدعو إلى توجس الخطر.
التفت إلى ما حوله.. شعر بالفراغ يملأ جو الغرفة.. ها هي الستائر الممتدة بارتفاع الجدار تبوح بطعم الحزن.. اللوحات الزيتية المعلقة بغير انتظام على الجدران تفرز الملل.. جهاز التلفاز الضخم الذي يتصدر الغرفة يفصح عن الضيق.. الثريات المتدلية من السقف تنضح بالكآبة.. الكتب المتراصة غير بعيد تنفث الإحباط. كل هذه الأشياء التي تفوح منها رائحة الوجع.. كرست الفراغ الذي يشعر به يملأ نفسه قبل أن يملأ الغرفة.. أراد أن يذوب هذا الفراغ.. نادى الممرضة التي استقدمها من الخارج خصيصا لتمريضه.. لكن صوته لم يسعفه.. ضغط على الجرس.. خيل إليه أنها أبطات في الاستجابة لندائه.. عندما وجدها أمامه صب عليها جام غضبه.. لم تعتذر لتأخرها.. انتظرت حتى انتهت فورة الغضب التي اجتاحته.. قالت:
- ليس من المناسب أن تغضب وأنت في هذه الحالة.. إنني قلقة على صحتك.
أجابها وأنفاسه تكاد تنقطع لما بذل من جهد:
- لست قلقة على صحتي وإلا لأجبت بسرعة.
- حسن ماذا تريد الآن؟
- أخبري الطباخ أن يعد مع طعام الغداء شيئا من اللحوم.. لقد سئمت أكل الخضروات المسلوقة، كل يوم.. هذا نظام غذائي عقيم.
- ولكن هذا ما وصفه لك الأطباء.
- الأطباء.. الأطباء، إنهم لا يعرفون شيئا، بل إنهم يتآمرون على صحتي.. يلجؤون إلى تجويعي لأنهم يريدون التخلص مني.. لست مريضا إلى هذه الدرجة ليمنعوني من الأكل.
- الأعمار بيد الله.. أطال الله عمرك.. ولكن ذلك من باب الاحتياط ليس إلا، فليس بك ما يدعو للقلق.
أراد أن يقول أشياء وأشياء.. لم تسعفه شجاعته.. لولا ذلك الحاجز الذي لا يستطيع تجاوزه، لما تردد.. فهو صاحب الأمر والنهي، وهي الممرضة التي تنحصر مهمتها في العناية بحالته الصحية لا أكثر ولا أقل.. هذا قفص سجن نفسه فيه.. أطل من خلاله على جمالها.. ورقة أحاسيسها، ولطف حديثها، وثقافتها التي تتيح لها الحوار معه في أي شأن من شؤون الحياة، وليس في شؤون مهنتها فقط.
أطال الله عمرك.. أحس أنها تقولها بصدق.. أطال الله عمرك جملة طالما استمع إليها من كل من حوله، وإن اختلفوا في نطقها.. أقرباؤه يقولونها وكأنهم يقولون: (متى سترحل لنرث ثروتك الطائلة..) وأصدقاؤه الذين اصطفاهم لنفسه بعد أن تعاهد معهم - دون عهد - على الوفاء والمحبة، يقولونها بمنتهى الصدق والمشاركة الوجدانية، أما كبار موظفيه الذين تسمح لهم وظائفهم بالتردد عليه للتوقيع على بعض الأوراق أو للتشاور في بعض أمور العمل، فإنهم يقولونها بشكل آلي، وكأنها من واجباتهم الوظيفية.. أما هي فطالما شعر أنها تقولها بصدق.. هل هذه من واجبات الوظيفة؟ أم أنها هناك ما يتعدى واجبات الوظيفة إلى واجبات القلب؟ هل هو العطف؟ أم هي الشفقة؟ أم هو الحب، وهل يولد الألم الحب؟ هل سيكون الحب مقترنا بهذا الم فينتهي بانتهائه؟ أسئلة طالما بحث لها عن إجابة.
لا تزال تنتظر الجديد من أوامره قبل أن تغادر الغرفة، شعر بشيء من الحرج.. ترى هل قرأت أفكاره؟ هل تعلم بشدة معاناته؟ أذن لها بالانصراف، مكررا ما سبق أن قاله حول اهتمام الطباخ بطعام الغداء.
أمضى حياته بعد حصوله على شهادة جامعية.. في جميع ثروته التي بدأت متواضعة عندما شارك أحد أقاربه في مشروع تجاري، هو بعلمه وقريبه بماله، وعندما توسعت تجارتهما، انفصلا ليعمل كل واحد منهما بمفرده، وما هي إلا سنوات قليلة، حتى اتسعت دائرة أعماله.. أصبح من كبار رجال الأعمال الذين يشار إليهم بالبنان.. لم يهتم بأمر الزواج وتكوين أسرة، فقد تزوج العمل، وأنجب الثروة، دون أن يترك له ذلك فرصة الالتفات إلى نفسه.
وحدها الممرضة سعاد ينهمر مع كلماتها بوح حائر، لا يستطيع تفسير بواعثه وأهدافه.. عندما تقول: أطال الله عمرك، يشعر بأن دعاءها هالة من الأمل تطوف حوله، وأن كلماتها بلسم يداوي جراحه، ومع ذلك لا يستطع أن يمنع نفسه من الغضب، وإسماعها من الكلمات ما لا يرضيها.
ذات مساء شعر أنه في منتهى الصفاء الذهني، وقد عاد إليه نشاطه.. قاوم الآلام التي ترهق كاهله.. تناسى مرضه، وصمم على مفاتحتها بالأمر.. استدعاها وخاطبها دون مقدمات قائلا وقد بدا عليه الارتباك:
- أريد أن أفاتحك في أمر طالما شغل تفكيري!
سارعت إلى الاستفسار عن هذا الأمر وقد استغربت لهجته اللطيفة معها.. هل لأنه قد استغنى عن خدماتها بسبب خطأ ارتكبته دون قصد؟ أم أن في الأمر سرا لا تعرفه؟ سارعت إلى القول:
- ماذا في الأمر يا طويل العمر؟ أرجو ألا أكون قد أسأت التصرف لا قدر الله؟
حاول أن يسترد رباطة جأشه.. مسح العرق المتصبب من جبهته.. قال:
- ما سأطلبه منك طلب قد يبدو غريبا.. لا أعرف إلى متى سأعيش.. لم أفكر في الزواج من قبل.. لكني الآن أشعر أكثر من أي وقت مضى أنني أخطأت في حق نفسي، ولعل في الزواج ما يريحني وأنا في هذه الظروف الصحية.
قالت بسرعة أدخلت البهجة على نفسه:
- ما من فتاة إلا وستفرح بك لو طلبت يدها.
- لا أريد أية فتاة وإنما أريدك أنت.. فهل لديك مشاريع معينة فيما يتعلق بالزواج؟
أراد أن يخفف من التوتر الذي خيم على المكان فقال بشيء من المرح:
- لابد أن يكون ردك سريعا حتى لا أرجع في كلامي.
أجابته بهدوء أثار أعصابه:
- الحقيقة أنني متزوجة.. وقد أخفيت أمر زواجي لأحصل على هذه الوظيفة.


* من مجموعة (البحر يتنفس حزنا)
تحت الطبع.

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved