الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 5th July,2004 العدد : 66

الأثنين 17 ,جمادى الاولى 1425

شجن السؤال
قصيدة النثر لدينا ... قراءة في أنموذج ريادي

* عبد الله بن عبد العزيز الصالح
حين تصبح الكتابة موتاً مختلفاً، تجريباً لمناهضة الماثل في السياق الشعري الأصغر لا لجلب رصيد الشاعر، وإنما للاشتباك معه في محاولة لاستيلاد شعرية جديدة تناجز ولا تهادن، تقلق ولا تطمئن، تبحث ولا تصل، تسأل ولا تجيب.. إذ هي في منأى عن التنويع على النصوص المهيمنة عليها سمات التعليمية والعقلانية والإيقاع المتواصل لترميم تصدعات الزمن، تدخلنا الشاعرة فوزية أبو خالد بوصفها رائدة في كتابة قصيدة النثر إلى أقصى فضاءات السؤال/سؤال الشعر/الكتابة، أو كما اطلقت عليه الشاعرة (تجريب الجنازة) وقبلا ألمع حمزة شحاتة بألا يعطي تفسيرا تاما للحياة غير الموت.. فهل إن الشاعرة هنا تدلف من بوابة الموت/الكتابة، خارجة من شرنقة الكآبة وإيقاعاتها بمصلها الحارق الى براري البوح عبر نصوص (ماء السراب)؟
إمعاننا النظر في اسم الديوان من شأنه أن يضع أقدامنا على أقصر الطرق المؤدية إلى فضاء النصوص، تأسيسا على أن اسم الديوان يحمل في تضاعيفه نوعا من الإيماء باختزال الرؤية الشعرية المسيطرة على الديوان عامة ويكشف عن أن رؤية قد بزت سواها من الرؤى، فتألقت اسما لقصيدة، ثم اسما لديوان غير أننا لا نعثر خلال قراءة مجموعة (ماء السراب) على قصيدة تحمل هذا العنوان، ولكن نصادف مقطعين يرد فيهما عنوان المجموعة، المقطع الأول في نص (قصيدة الماء): (وكتبت بماء السراب قصيدة) ص21 والمقطع الثاني في نص (طفلتان): (نتراشق بماء السراب) ص64.
عنوان المجموعة يوحي بأننا إزاء تجربة كتبت بمداد مختلف يمحو أكثر مما يثبت، يشي بأشياء تؤدي الى مزيد من التمحور حول نقطة جذب داخلية في أعماق الكائن الإنساني، تتلاقي فيها تموجات الذات، وتموجات العالم نحو غوص أكثر عمقا في النفس، وفي أبعاد اللغة من أجل مزيد من إشعاع هوية الذات:
(وكتبتْ بماء السراب قصيدة..
تقطر..
تقطر..
تقطر..
إيقاعاً لا يمس بالحواس)ص12
إيقاع النصوص هنا لا يمس بالحواس فبأي معيار سنقف عليه؟
ربما بالحدس! إذن ما الذي عساه يبقى في الذاكرة من أمشاج القراءة الأولى؟
حالات ما وراء الكتابة ترتهن بما هو ماثل، النصوص تشير إلى شيء من هذا:
(أنا البنت التي بها مس)ص8
(تكاد أن تذبل الزنبقة
ولكن..
كلما نعست
رششتها بالحبر)ص9
(ما زجت أحماض الحبر بملح
البحروجروح الروح
مازجت
كتبت على قسوة الصحراء
ورحمة الورق أجنحة وأشواقا
جربت تطير..)ص16
(خلعت أسنان اللبن وتمضمضت بالحبر)ص17
الكتابة لدى الشاعرة آونة دخول في موت مختلف، وآونة أخرى حياة، فكما كانت (الكلمة) لشهر زاد تأجيلا للموت تجيء الكتابة هنا إعلانا عن حياة أخرى (كلما نعست رششتها بالحبر)ص9، وحينا تأتي احتراقا يؤدي الى إشعال فتيل التمرد على فروضات الوصاية الطاعنة في العمر حسب تعبير الشاعرة ص17.
وسواء امتثلت النصوص لحالات ما وراء الكتابة، أو تماهى رتم تلك الايقاعات بما هو ماثل في هذا الخطاب الشعري تدفعنا القراءة بالاسئلة عن (الشعري)؟
وأين نقبض عليه في هذه النصوص؟
أسئلة استيلاد الشعرية الجديدة تلح علينا أثناء قراءة هذا الخطاب، لكون الشاعرة تدوزن حالات ما وراء النص بمصلها الحارق، وإيقاعاتها المتشاكلة، مباغتة حرائق الحدس، محتشدة في احتمالات الحلم، متجردة عن أبعاد الانخطاف الشعري حين تعكس حالة النص ما يفور بدواخلها التي أخصبها قلق الكتابة بطاقة تزيح الإبهامات، وتتشظى متجاورة في مشهدية فاجعة، تجيد الشاعرة تخصيبها دراميا في عنوانات النصوص فقط (حبل السرة، تهلكة، مولودة موؤودة، مخالعة، نكهة الموت الأولى، نكسة تاسعة، حجامة، غواية أولى، هزائم ذاتية، امرأة من جنوب ما، تقزز، فاقة، شرك، ريبة).
أما معمارية النصوص فلا تحضن بهاء الشعر ودهشته، فليس ثمة سوى السرد الحكائي الموجز فأين بهاء الشعر الذي نطلبه، بوصفنا متلقين لتجربة جديدة، صاحبتها تؤسس لقول شعري يستولد الجديد، ويناهض الناجز بخروقات مغامرة لاتهادن المألوف!؟
الشاعرة تقايضنا وجع البوح بمداخلة النصوص:
(كيف اشتركنا في القصيدة
كيف بادلتكم سُلي برئة جديدة)ص65
فتحيلنا المداخلة الى استنفار الذاكرة كي نقف على ملامح الوجع الكتابي الممتد على مساحة تغطي أكثر من ربع قرن في سياق آخر أعلنته الشاعرة في تسعة أبعاد، ربما تضيف دلالة إلى إشارة النصوص هنا، دلالة لا أحسبها تتضمن قدراً من الابتسار الرؤيوي أو الاعتساف المرجعي بإرغامها على الدخول في أفق النصوص، أو ما يمكن أن نطلق عليها نصوص الكتابة.
عذابها في الكتابة عذاب معقد له أكثر من تسعة أبعاد قوافل ع3 صفر 1415هـ عذابها في العلاقة بين الوقت، وبين الكتابة، بين طاقة الجسد المحدودة، وبين طاقة الكتابة اللانهائية، عذابها بين عنفوان الكتابة وقسوتها، رعبها من العلاقة بين مباح البيئة، وبين مستحيل الكتابة.. إلخ فمن الذي يحرضها على ذلك؟ إنه جنون الكتابة (أنا البنت التي بها مس) ص7، يحرضها أن تلكز ناصية اللامألوف الذي يجدد آلامه نافيا أفقية الأشياء كاسرا أفق التوقع في بعض المواضع:
(سترت اليابسة والبحر
بأسئلة فضّاحة)ص7
(الشاي المنعنع بتعب اليوم)ص21
(مزينة بالهزائم وذكرى الخزامى)ص22
هذا الحضور المكثف لضجيج الحياة بتواتراته يؤطر الحدث الشعري في تقنيات فنية ذات امتداد ضارب في التقليدية المتواطئة مع البلاغيات الناجزة من جناس:
(الحبر البحرص6)، (تجزع تزعج ص18) (مجون مجنون ص19)، حذاء نصفه ذهب ونصفه أين ذهب؟ ص29)، وطباق: (قسوة رحمة ص16)، (السفلي العلوي ص18)، (شوك غار ص19)، (واقفةجالسة ص20) (اليوم، الأمس ص21)، (نعاس صحو ص35)، (الصباح المساء ص36)، (تقتربين تبتعدين ص51)، الشك اليقين ص53)، (نعش عرش ص55)، (مدججة عزلاء ص57)، (علو شاهق قاع سحيق ص16)، (قريب، بعيد ص62)، (الحياة الموت ص70).
واعتماد الصور التشبيهية بواسطة الأداة:
(وحباله بالية
تتدلى كمشانق ص41)
(رقيقة كالقبلة في الهواء ص15)
(علق شعرة من أهدابها كطائر
في دمه
يقتفيها برغبة ورهبة كلص صغير مبتدئ ص38)
(اسمر كعذوق رطب ص40)
(كغزال بري علق سهم في ساقه ص42)
فأين اجتراح الأفق الشعري الجديد؟ أين الصور الشعرية، المجاز، قناديل الادهاش؟ أين القيم الجمالية التي تبشر بها قصيدة النثر بعد الإطاحة بالإيقاع المعهود؟ نحن لا نريد بوصفنا متلقين لتجربة جديدة أن نجر النصوص إلى ذائقة معينة أو إلى سقف مبيت سلفا، ولكن لنا أن نسأل على مستوى آخر لماذا سكنت الشاعرة كلمة (جميل) وحقها النصب:
(نستمطر الوقت عمراً وصبراً جميل) إذ إن أفق قصيدة النثر منفسح لاحتمال حركة النصب بل لاحتمال أكثر من ذلك!! فليس من ضرورة إيقاعية وزنية للتسكين!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved