الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 5th July,2004 العدد : 66

الأثنين 17 ,جمادى الاولى 1425

أعراف
جَلَّ من أشعلَ الصباح

* محمد جبر الحربي
أكتب على عكس غيري من الشعراء فجراً، وفي ساعات الصباح الأولى، كذلك شعري ونثري، وأترك ليلي للقراءة والمشاهدة والاستماع.
صحيح أنني أدوّن بعض الهوامش والأبيات والملاحظات هنا وهناك آناء الليل، إلا أن التفرد ببياض الورق لا يليق لديّ إلا مع بياض الصباح، والصباح فنجان قهوة أوّل، لا تعدله فناجين قهوة الضحى والمساء خصوصاً إذا ما قمت قيام من لديه موعد لا يفوت، وصنعت فنجان قهوتك على نصف نعاس، وأنت تحاول استعادة ملامح حلم البارحة، أبطاله وأحداثه، متمتعاً بل متحدثاً إلى نفسك بصوت يعلو بين الحين والآخر، ثم تتلفت لكي لا يتهمك أحد بإثم الجنون، أو الجهر بالسريرة.
بل إنك في أحيان كثيرة تترنم بأغنية، لم تسمعها منذ سنين طوال، بسن شاب في مقتبل العمر، تقفز هكذا فجأة بينما تحمل قهوتك إلى مستودعها بين أوراقك وفوضاك المنظمة، كما تقفز الأغصان والورود، وأصوات العصافير إلى حضنك:
(صبّح صباح الخير من غير ما يتكلم
ولما غنى الطير ضحك لنا وسلم)
وهذه أغنية صباحية زاهية تدفعك إلى البوح رغم الجرح دفعاً جميلاً وناعماً وتعيدك إلى حيث كان للشجر معنى، وللطير مغنى، وللحياة مضمون ومبنى.
وعلى عكس الكروان الذي يوقظ المحظوظين، فإننا في شقق الرياض أو عليها، توقظنا إيقاظاً تاماً عناوين الأخبار الصباحية المصورة والملونة بالدم والرماد، بعد أن مضت أيام آبائنا الذين ما أن تداعب أناملهم مفاتيح المذياع الخشبي حتى تسقطنا أصوات مذيعي ال بي.بي.سي من غفواتنا اللذيذة.
والحقيقة انني لا أعلم كيف يريد مني الطبيب الاستشاري الذي زرته متعباً أن أستمع إلى الأخبار بهدوء ودون انفعال، وان يكون الصوت منخفضاً جداً حفاظاً على صحتي، بل قد يصل الأمر إلى أكثر من ذلك عندما يفضل ألا أستمع إلى الأخبار مطلقاً، وأن آخذ الأمور ببساطة: لأنني لن أحل مشاكل الكون وذلك أن الحروب والقتل والاحتلال والجرائم أمور مفروغ منها، وهي ديدن هذا العالم.
وحكيمي متميز في مجاله، ولكنه لا يعرف حرقة الأوطان، ومرارة الخذلان، وجحيم الآلام حين تتكسر الآمال وتتبخر..
حين تنتهك الأرض ويقتتل الأهل ويشردوا ويؤسروا..
حين يغتصب كل شيء.
أو أنه يعرف ولا يريد أن يعرف، وهو على كل حال أفضل من العرب الذين يعرفون، ولا يكتفون بأنهم لا يريدون أن يعرفوا، بل ينحازوا إلى المحتلين بدعوى أنهم متحضرون وديمقراطيون ودعاة سلام.
عموماً ها قد وضعت فنجان القهوة الأول وجلست إليه بإجلال فأنا أعامله كعاقل عادل، وكند ونديم عفيف وباذل، يلفنا صمت الطلوع المهيب، وتتنقل بنا الأفكار عبر الدنيا على اتساعها، وتضيق بنا العبارات كما قيل.
نخرج من وطن لندخل في وطن، ونودّع كلمات صديق وملامحه، لنحاور آخر ونشاكسه، متبدلة ملامحنا من ابتسامات تصل إلى الضحك العالي، إلى تجهم تصحبه زفرة تفور: يا الله.
ولأصدقائي الخلص فناجينهم وأكوابهم، لا أعتدي عليها، ولا يعتدون على صاحبي أو صباحي.. لا في البيت ولا في المكتب.
إذا فللصباح ذاكرة وقادة شاعلة، تذكرك بأهلك وأصدقائك. تذكرك أين أخفقت، وأين نجحت، تذكرك بمن فقدت وبما فقدت: بشراً كانوا أم نبض أوطان.
والصباحُ نور العينين، وهواء الرئتين، وبهجة المهجة، وطمأنينة الروح.
والصباح رغيف ساخن، وفنجان قهوة مرة، وأفكار طازجة، وذاكرة خارقة، وطفولة ضاحكة لها كل الجهات، وكل الاحتمالات.
والصباح حضورٌ بحريٌ أزرق، ومزاجٌ غجري لا كواقع بل كمتخيل كما في لوحة خالدة لا يعرف تفاصيلها إلا ذوو العيون المدربة، والقلوب الدافئة الشاعرة، وهو جمالٌ أنثوي لا صارخ ولا بارد.
هو كف امرأةٍ ورائحتها..
وجبين شيخ،
وعينا طفلٍ،
واتساع حدقة.
وهو أنت، أنت مجرداً من الأقنعة.. من الظلم والغرور والكذب..
ومن النفاق والتجمل والمجاملة.
وللصباح حزنه، كما لليل حزن.
الليل حزنه مرض ومذل وبكاء، أمّا الصباح فحزنه نبلٌ وبياض ياسمين.
الصباح لك، وهو مرآتك ومفتاح يومك ومعاشك.
والصباح بابٌ للإيمان، ولنظافة الروح والعقل والجسد.
والصباح نبلٌ وسمو وإشراق.
والصباح المطر، يغسل أرواحنا.. يغسلنا دون أن تبتل ثيابنا.
والصباح بوابة الخير، ونوافذ النور على الناس والوطن.
فجلّ من أرسل الصباح وأشعله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved