الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th September,2005 العدد : 121

الأثنين 1 ,شعبان 1426

كانت.. ثمّ زالت
الندوات الأدبية في الحجاز
مالك ناصر الدرار*
الندوات التي أعنيها هي الندوات الأدبية في المنازل، وكانت هذه من سمات مستهل القرن الخالي، حيث كان الأدباء يجتمعون في منازلهم ويلتقون في بيوتهم. فلم تكن النوادي الأدبية بمعناها الصحيح المعروف شائعة أو مطروقة، وكان ذلك في جميع البلاد العربية بلا استثناء، وأوحت به ضرورة الرغبة في الحياة الأدبية الاجتماعية، التي هي أصل من أصول الحاجة إلى تداول الآراء وتبادل الأفكار، وإنشاء كيان مجتمع إنساني يلتقي فيه الناس ويستنشقون عن طريقه ملء رئاتهم عبيراً نقياً، يهيئ لهم الاسترواح والاستجمام وإشباع هواياتهم النفسية من أدب وشعر. ثم تزجية أوقات الفراغ بما هو نافع مثمر مفيد، يعود عليهم وعلى مجتمعهم بكثير من العلم والمعرفة والثقافة وإشاعة ألوان من الرأي والاستطلاع.
ذلك شأن من شؤون الحياة ومظهر من مظاهرها، كان له أبرز الأثر في خلق جو أدبي وعلمي، ومزاولة حياة بريئة بعيدة عن مظان اللهو والمجون، والعبث والفتون، وتداول سير الأفراد والجماعات بما لا يليق ولا ينفع.
والندوات المنزلية كانت مظهراً للحياة الأدبية الرفيعة في كثير من البلاد، أو بلاد (الشرق العربي) كما كانوا يسمونها في مستهل هذا القرن، وأشهر هذه الندوات في مصر، إلى ثلث قرن مضى، ندوة الآنسة (مي) ابنة السيد الياس زيادة صاحب جريدة (المحروسة).
وقد اشتهرت هذه الندوة، وانتزعت مقاماً محفوظاً في الجو الأدبي الشائع في مصر آنذاك. وكانت إلى جانبها ندوات أدبية أخرى مماثلة، لعل آخرها. وقد تكون باقية إلى اليوم، هي ندوة السيدة الجليلة (جميلة العلايلي) إحدى الفضليات من أديبات هذا العصر، وقد أتيح لي أن أزورها منذ زمن بعيد.
وبالطبع لا يمكن أن ننسى ندوة أديب عصره وكاتبه البليغ الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله وقد دأبت على ملازمة ندوته في داره بمصر الجديدة كلما استطعت. وندوة الأستاذ العقاد جديرة بأن يفرد لها بحث خاص لما كان لها من مظهر مميز، وجو علمي رائع يندر وجوده.
وكانت هناك ندوة أدبية كبرى، تقيمها في دارها أميرة مصرية معروفة، هي الأميرة (نازلي فاضل)، كان يؤمها الكثير من الأدباء والشعراء، وطار صيتها في زمنها، واحتلت مكان الصدارة في الحياة الأدبية آنذاك.
وإنني حين أتكلم عن الندوات الأدبية التي انقرضت، لا أعني تلك الندوات التي تأخذ صفة الندوات العامة، إنما أعني الندوات الأدبية المنزلية؛ لأن لها من الصفة الخاصة ما يلفت النظر إلى وجودها وأثرها في الحياة الأدبية باعتبارها اجتماعات منزلية، يوحي بها الجو المنزلي الذي هو مجال هذا البحث.
ففي مكة المكرمة مثلاً شهدنا الندوات الأدبية المنزلية في أواسط القرن الحاضر، وهي وإن كانت قليلة في المنزل أو الدار، فقد كان مجالها، حسب البيئة وطبيعة ظروفها وحرارة الطقس في مكة المكرمة، في (المقاهي) الرابضة خارج البلدة آنذاك في أحياء (جرول) أو (المسفلة) أو (الشهدا) أو غيرها من الأماكن التي كانت خلوية صحراوية يخرج إليها الناس أدباء وغير أدباء في ساعات الأصيل، وفي الهزيع الأول من الليل، باعتبارها متنفس البلدة ومتنزهاتها. أما في المنازل، والدارات، والبيوت، فإنني لازلت أذكر ترددنا منذ ثلاثين عاماً أنا وأستاذي الكبير عبدالفتاح أبومدين على منزل الشيخ سعيد العامودي، وهو والد الأديب الكبير المرحوم الأستاذ محمد سعيد العامودي، رئيس تحرير مجلة (الحج) ومجلة (رابطة العالم الإسلامي) آنذاك. وكان (العامودي الكبير) رحمه الله له محل تجاري بخان (سويقة) في مكة المكرمة، ومجتمع أدبي في داره بالمسفلة. وقد قال فيه المرحوم الأديب عبدالسلام الساسي آنذاك أبياتاً من الشعر في دعابة أدبية مطلعها (في المسفلة منزلي، وبالخان دكاني).
وفي جدة، كانت هنالك ندوات أدبية، تقام في منازل أدبائها وعلمائها وشيوخها. ولعل أبرزها على الإطلاق ندوة الأدب والعلم والثقافة، والضيافة أيضاً، التي لاتزال كذلك حتى قبل فترة ليست بعيدة من الزمن في منزل العلامة الكبير الشيخ محمد حسين نصيف رحمه الله ... ذلك المنزل العامر، الذي ازدحم بالمؤلفات العديدة في مكتبة مثالية كانت ولازالت مقصد الناس من مختلف الطبقات والأجناس. وقد أهديت على ما أذكر إلى جامعة الملك عبدالعزيز.
كما لا يفوتني أن أذكر ذلك الصالون الأدبي الثقافي البديع الذي كان يعقده يومياً المرحوم الشيخ حسين شبكشي.. والذي كان يضم كافة رجال الأدب والصحافة والإذاعة.. في داره العامر بحي الرويس.. خلف مطابع الأصفهاني في ذلك التاريخ..
وفي المدينة المنورة كان (أدب المنازل) شائعاً إلى عهد قريب على مستوى رفيع، فكانت هناك ندوات خاصة تعقد في بعض البيوت التي انفردت باستقبال الأدباء والعلماء والشعراء والظرفاء، حيث يجري تبادل الآراء والدعابات والفكاهات، وتداول الأدب والشعر والمساجلة في مختلف أفانين القول ومذاهب الكلام. ومن ذلك إنشاء الشعر، وإنشاده، وتشطيره، وتخميسه، وتشجيره، والحديث فيه على أوسع مدى وأفسح مجال. ولم يكن ذلك قاصراً على رجال الأدب وحدهم، بل ينتظم في سمطه العلماء الأفاضل، من كبار الرجال على مختلف طبقاتهم. وإنما يجمعهم عقد نظيم، هو هواية الأدب، والشعر، والتندر، والفكاهة، والدعابة، في جو أدبي رائع، فيه المثل العليا التي تكاد تؤلف سوقاً أدبية، شبيهة بسوق عكاظ على نطاق منزلي محدود. ومن تلك المنازل التي كانت عامرة بالأدب الرفيع منزل الشيخ إبراهيم الأسكوبي، ومنزل الشيخ أنور عقي، والشيخ زكي برزنجي، والسيد عبدالجليل برادة، والسيد عبدالمحسن أسعد، والشيخ إبراهيم برّي، والشيخ سعد الدين برادة، رحمهم الله جميعاً رحمة الأبرار وغير هؤلاء من أندادهم وأضرابهم من الرجال الذين كانوا يفتحون منازلهم في شكل منتديات أدبية، يجرى فيها تداول الأدب الرفيع في أجمل صوره، وأبهى ألوانه، وأجلى مظاهره الشائقة التي تجمع باقة ناضرة من أولئك الجلة الأكرمين، من الرجال الذين صفت نفوسهم، وخلت من هموم الحياة وأوضارها ومثالبها وشرها. وربما كان الشعر أبرز موضوعات البحث والنقاش، حيث يجرى تناشد الأشعار، فلا يلتئم المجلس أو ينفرط إلا عن فائدة أدبية أو عملية، يتناقلها الرواة فيما بعد، ويتحدثون عنها في مجالسهم ومنتدياتهم إعجاباً ورواية وتقديراً. ومن الشعر الذي كان متداولاً في تلك الأيام، وربما بقى شيء منه إلى اليوم، قصيدة مشهورة، سارة بذكرها الركبان، بل الألسنة والألحان، هي قصيدة الشاعر (المدني) ابن النحاس، التي مطلعها قوله:
بات ساجي الطرف والشوق يلح
والدجى إن يمض جنح، يأت جنح
وكأن الشرق باب للدجى
ما له غير طلوع الصبح، فتح
لا تسل عن حال أرباب الهوى
يا ابن ودي، ما لهذا الحال شرح
لست أشكو حال جفني والكرى
إن يكن بيني وبين النوم صلح
لا أذمّ العيس، للعيس يد
في تلاقينا، وللأسفار نجح
كم أداوي القلب قلّ حيلتي
كلما داويت جرحاً، سال جرح
وهناك قصيدة أخرى، غنائية، للشاعر نفسه كانت أناشيدها كألحان الحداة، يترنم بها الرائح والغادي، نغما وغناء، منها:
رأى اللوم، من كل الجهات فراعه
فلا تنكروا أعراضه وامتناعه
ولا تسألوه عن فؤادي، فإنني
علمت يقيناً أنه قد أضاعه
ويا ليته قد كان من أول الهوى
أطاع عذولي، واكتفينا نزاعه
أشاع الذي أغرى بنا ألسن العدى
وما خرب الدنيا سوى ما أشاعه
له الله ظبياً كل شيء يراوعه
ويا ليت لي شيئاً يزيل ارتياعه
ذرعت الفلا، شرقاً وغرباً، لأجله
وحيّرت أخفاف المطي، ذراعه
فلم يبقَ بر ما طويت بساطه
ولم يبق بحر ما رفعت شراعه
إلى آخر تلك الأبيات الرقيقة المصورة المعبرة.
ولابن معتوق الشاعر، عدد من القصائد، وعديد من الأبيات، كانت وقد تكون باقية أيضاً في ألفاظ وأسماع المغنين ورواة الشعر، وأشهرها قصيدته الغنائية التي مطلعها:
خفرت بسيف اللحظ ذمة مغفري
وفرت برمح القد درع تصبّري
وجلت لنا من تحت مسكة خالها
كافور فجر شق ليل العنبر
يا حامل السيف الصحيح إذا رنت
ايك ضربة جفنها المتكسر
وتوَقّ يا رب القناة الطعن إن
حملت عليك من القوام بأسمر
تالله ما ذكر العيق، وأهله
إلا وأجراه الغرام، بمحجري
يا لعشيرة من لمهجة ضيغم
كتمت منيته بمقلة جؤذر
إلى آخر تلك المعاني الرقيقة الطريفة، التي كان لها شأنها في إشاعة الطرب والسرور بين النفوس، وكانت للمجالس عطر بعد عرس..


* كاتب صحافي جدة

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved