الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th September,2005 العدد : 121

الأثنين 1 ,شعبان 1426

وثيقة وجدانية
سعد بن عماش العنزي
كثيرة تلك النصوص التي يمر عليها القارئ مرور الكرام دون أن تترك أثراً في نفسه، ولكن رائعة الشاعر الدكتور غازي القصيبي (حديقة الغروب) التي نشرت في جريدة الجزيرة يوم 14 ربيع الآخر 1426هـ الموافق 22 مايو 2005م من النصوص التي تأسر لب القارئ؛ لأن أثرها يبقى راسخاً في وجدانه، مما سيدفعه للتفكير والتأمل وإعادة قراءتها أكثر من مرة.. فهي من الشعر الذاتي التي يتحدث بها الشاعر عن نفسه معبراً عما يختلج بين جوانحه من انفعالات وعواطف.. يترجم بها أحاسيسه برقة ويصف آلامه بعذوبة، بصورة فنية أنيقة تعكس للقارئ أصداء تلك المشاعر.. وهذا النوع من الشعر يسمى (الشعر الوجداني) وهو يعتبر لغة العواطف وحديث النفس والروح، لذا فإنه شعر إنساني في المقام الأول يشترك فيه كل الشعراء؛ لأنهم يتحدثون بلغة المشاعر والأحاسيس التي تشترك بها كل الأفئدة.. (حديقة الغروب) التقت عند مفرداتها أغلب أحاسيس القراء حتى وإن كانت تلك المفردات في الأصل تعبر عن وجدان قائلها حرفاً ومعنى، لكنها تبقى معبرة عن مشاعر الكثيرين من أولئك الذين يملكون الإحساس المرهف والمشاعر النقية الدفاقة.
***
رائعة افتقر زماننا الحالي لأمثالها فهي تستحق أن تكتب بماء الذهب.. إذ إنها (وثيقة وجدانية) تفصل لنا باختصار معنوي متقن مسيرة روح أجهدها الزمن، أعلنها الشاعر على الملأ بعفوية الواثق.. نثر (ستينه والخمس) ففاح شذاها العطر يملأ الأرجاء عبر مفردات توردت بأبهى المعاني.. أطلق العنان لفؤاده فراح يشدو ببوح شجي يحكي بأنغام عذبة سيرة وجدان نقي أرهقته تكاليف الحياة حتى بدأ الملل والسأم يتسرب لأعماقه وهو ذلك الوجدان الذي تقلب في نعيم الحب العفيف وجحيم الغيرة والحسد..
***
لأول وهلة يتبادر لذهن القارئ وهو يقرؤها أن قائلها قد عزم على الرحيل عن الفضاء الأدبي أو أنه قد أحس كما يحس المؤمن الصابر بقرب موعد الرحيل الأبدي خاصة حينما يربط بين عنوان القصيدة وبين بعض المفردات والمعاني التي تناثرت في أبيات متعددة من القصيدة فهو يقول:
(ويا بلاداً نذرت العمر.. زهرته
لعزها!.. إني حان إبحاري)
كذلك يقول في آخر الأبيات التي اختص بها رفيقة دربه:
وإن مضيت .. فقولي.. لم يكن بطلاً
لكنه لم يقبل جبهة العار
وعبارة (وإن مضيت).. قد تكررت في أكثر من موضع بالقصيدة والتي أتبع آخرهن بطلب المغفرة من الخالق عز وجل وجميعها أتت وهي تحمل الوداع بنبرة حزينة.
***
خمس وستون.. في أجفان إعصار
أما سئمت ارتحالاً أيها الساري؟
أما مللت من الأسفار.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاء أسفار؟
أما تعبت من الأعداء.. ما برحوا
يحاورونك بالكبريت والنارِ
سرد درامي لمحطات كثيرة مر بها الشاعر.. ففي هذه الأبيات يوضح لنا مرارة الأيام التي عاشها في خضم الأعاصير التي ما فتئت ترميه وسط دوامتها المتلاطمة من حين لآخر.. تساؤلات يسبقها الإقرار ويتبعها التعجب من حالة هذا الكيان الذي تحدى بفضل الله ثم بفضل قوة الإرادة كل تلك الأعاصير.. وقف بوجهها كالجبل الشامخ.. تجاوز بصبر كل المحطات المؤلمة والأعداء كثر.. فكيف به معهم وهم يحاورونه بالحسد والغيرة.. حيث رمز لهاتين الصفتين الممقوتتين (بالكبريت والنار) كيف يجابههم؟ كيف يناقشهم؟ ومبدؤهم في الحوار والنقاش هاتان الصفتان.. إذاً ليس أمامه إلا الصبر والتحمل فهاتان صفتان لا يمكن أن تحارب إلا بهما، وعدم الالتفات لأصحابهما الذين حتماً سيحرقهم حسدهم وسيموتون بغيظهم.
***
(حديقة الغروب).. ملحمة مختصرة لجسد يحمل روحاً شفافة وقلباً نقياً يملؤهما الألم والأسى والأمل والرجاء، فأتت القصيدة كأنما هي نعي للذات المجهدة.. من الصبر الطويل، ورثاء للنفس الأبية التي ربما قد أعلنت يأسها من كثرة الجراح التي لو حاول إخفاءها فإننا نلمح ندوبها كنياشين النصر والفخر اللذين توج بهما مسيرة حياته.. يؤكد للقارئ أن لا أحد يستطيع أن يجد عليه منقصة أو مثلباً؛ فهو يقول في المقطع الذي اختص به بلاده التي نذر نفسه وكل ما يملك لعزتها:
إن سألوك فقولي: لم أبع قلمي
ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري
نأى بنفسه عن العار ولم يدنس أفكاره بسوق الزيف وحرص على أن يبقى قلمه وفكره بعيدين عن المزادات في عالم اعتاد على شراء الذمم بأبخس الأثمان.
***
في إحدى وقفاته وحينما أحس بثقل السنين يتنهد الشاعر طويلاً ثم راح يفتش في أعماقه عن لحظة فرح.. تلك اللحظات موجودة ولكنها سريعة التلاشي؛ فالأعاصير عندما تزمجر في مسمعيه، وما أكثر ما عصفت به، يخرس نباحها ضحكة الفرح، فيلوذ بالصمت، ينتظر الهدوء ولكنه كثيراً ما يتأخر.
لا يحس الإنسان بقسوة الألم إلا عندما يزول، والذي في أحيان كثيرة يبقى أثره مترسخاً في أعماق الوجدان. والشاعر هنا عندما تحقق من قسوة تلك الأعاصير.. صمت برهة ثم راح وفي لحظة استكشافية يتلفت حوله.. يغرس عينيه بين السنين، لم يجدهم أولئك الصحب الذين رافقوه دربه!! فازداد ألمه.. فلجأ للذكريات يستجديها علها تغدق عليه أطيبها كي تزيل وحشته وتؤنس وحدته فقد سأم الترحال وروحه لم تعد تحتمل؛ فهي تواقة للصمت والسكون بعد رحلة الجهد تلك، معلناً بإيمان يقيني في إجابة تقريرية على ذلك التساؤل أن تلك المحطات ليست إلا أقداره التي قدرها له خالقه فهو يقول:
والصحب؟ أين رفاق العمر؟ هل بقيت
سوى ثمالة أيام.. وتذكار
بلى!! اكتفيت وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناء!.. ولكن تلك أقداري
أبيات تنضح بالوحشة.. في ثناياها إيحاءات عتب ولوم.. أبيات تتوشح بمعاني الأسى والفراق.. كأنما هي الخطوة الأخيرة في ذلك الطريق الطويل.
***
في خضم تعداد السنين داهمة طيف رفيقة الدرب وهي تلوح له.. تنادي عليه وسط ضجيج الأعاصير.. فأحس بأن الحياة لم تزل تنبض بالحب والود فراح يناجيها بحب كبير نلمس بين أحرفه إيماءات تبريرية لتلك الغالية التي سكنت قلبه إن غلبتها غيرة الأنثى وسألته عن (بنت الفجر الساحرة التي سيأتي الحديث عنها)..
راح يبث حبيبة عمره ورفيقة دربه أشجانه.. لم لا؟ وهي أنيسة الرحلة والوحيدة في عالمه القادرة على أن تروي عطش روحه، وتهدئ من روع فؤاده بطيب المعشر.. دثرته بالدفء والحنان فخلع عليها رداء الوفاء.. إن غاب عنها ينادم همساتها ويسامر عينيها التي أعلن بسخاء أن ينثر سنينه فداء لها.. يعانق أريجها في السهر ويتلذذ بصدى ضحكاتها في السفر.. صبرت عليه وعلى جهد أيامه وساعاته .. احتملته منذ أول لحظة التقت به.. أيضاً وكما نرى من حبه المتدفق لها نشعر بأنها لم تزل على الرغم من السنين تلك تفيض عليه من بحر عطائها الأشبه بالندى الذي يبعث الحياة في الأرض.. لم تزل تكرمه بجود حنانها الذي ظل ينير دربه كالمشعل في طريقه الطويل .. فلزاماً عليه إذاًَ أن يبادلها العطاء بعطاء، والحب المتدفق بحب أسمى إكراماً ووفاء لعينها.. وتلك الصفات لا تكون بأنثى كرفيقة درب شاعرنا إلا وتستحق جميل الثناء والاعتراف بفضلها.
***
في ثنايا هذا السرد الدرامي لتاريخ هذا الكيان نجد أن هناك محطة قد تكون هي من المحطات الجديدة في طريقه.. فهناك وقفة رقيقة لا بد لنا أن نتعمق في معانيها حيث أتت مباشرة بعد محطة (مناجاة رفيقة الدرب) والتي ربما تكون هي الباعث الأساسي للقصيدة، ألا وهي (بنت الفجر الساحرة) التي أرى أنها هي التي فجرت وجدانه وأوقدت جذوة الحب في قلبه فجعلته يراجع سجل حياته:
وأنت يا بنت فجر في تنفسه
ما في الأنوثة من سحر وأسرار
ماذا تريدين مني! إنني شبح
يهيم ما بين أغلال وأسوار
فقد اقتحمت عليه غفلته وهدأته وسكونه.. راحت تخاتله بسحرها وأنوثتها كي تصطاد قلبه، لكنه نهرها برفق واصفاً حالته مخوفاً لها؛ علها تبتعد عنه.. أبلغها بأنه لا يناسبها فهي تلك الفتاة الشبيهة بالفجر في ضحكته بما تحمله من سحر .. وأنوثة.. وشباب.. بينما هو شبح في جسد أنهكته السنين، فلا يغريها أنه لم يزل يمارس السير في الطرقات.. ينثر الأشعار سحراً وبياناً.
قد يقول القارئ إنه نجح في صدها عنه وأقول موافقاً له ربما!!.. ولكن حين أتمعن في تلك المفردات وكيفية تركيبها أقول معارضاً له: ربما أنه لم ينجح.. فآثار هجمتها لم تزل تتوهج في وجدانه، وإلا ما الدافع الذي جعله يصف حالته بشكل يائس لها؟ ما الذي جعله يتوقف أساساً ليحدثها؟ سوى أنه أجبر على الوقوف أمامها وما أجبره إلا تلك الومضة التي رجفت بأعماقه فاهتز كيانه منها واندفع بكل ما أوتي من سحر البيان يسرد لها حكايته ورحلته الطويلة.. لا نعلم ما هي ظروف تلك الوقفة الشاعرية، ولكن ألم يتمكن الشاعر من تجنبها..؟ الإجابة كما أراها أنه لم يتمكن.. إذاً فهناك أثر لجرح بهي غرسته بنت الفجر لم يزل يبتسم في وجدانه.. حتى لو أنها رحلت عنه فيخيل لنا أنه بعد رحيلها قد تنهد طويلاً، ليس فرحة بذهابها بل حين تذكر أنه يرفل في أغلال السنين.. فالعمر أزف على الرحيل وحديقته اعتراها الخريف الجائع الذي حتّ كل أوراقها ولم يبق منها إلا فتات بذور لا تقوى على الاستنبات.. طير الهوى هاجر راحلاً يبحث عن حديقة غناء وزهور يانعة فما له وتلك الحديقة التي ذبلت ورودها.. أواه.. كيف له أن يغرد في زمن الجفاف.. بل كيف بطير هرم أن يغرد في آخر العمر. وحتى لو غرد فلحنه سيكون قديماً وأنغامه متعبة.. فهو لا يقوى أن يصدح كتلك الطيور الفتية التي لم تزل تتنقل من غصن لغصن.
***
وأخيراً ما أروع سكون النفس بعد رحلة مريرة.. وما أجمل الإياب.. إنه أروع النهايات إن لجأت الروح إلى خالقها مؤمنة برحمته الواسعة وكرم غفرانه، وها هو ذا شاعرنا يختتم ملحمته تلك بإيمان يقيني وثقة فطرية بخالقه، وهو الذي برغم كل الخطايا التي قد اقترفها إلا أنها لم تخدش ولو للحظة إيمانه بالله الذي يرتجي عفوه ورحمته.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved