الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th September,2005 العدد : 121

الأثنين 1 ,شعبان 1426

مساقات
ذاكرة الكلمات
د. عبد الله الفَيْفي

تطرّق الأديب الأستاذ عبدالله بن إدريس، في عدد (الجزيرة) الصادر يوم الثلاثاء 12 صفر 1426هـ، ضمن مقالاته الماتعة بعنوان (مشواري الوظيفي)، إلى ما كنتُ كتبته في حلقات بعنوان (ذاكرة الكلمات)، في ملحق (الأربعاء)، جريدة (المدينة)، وذلك في معرض حديثه عن لهجات الجنوب، قائلاً:
(ولقد لمح الأخ الأستاذ (...) إلى مثل هذه الكلمات العويصة التي لا يمكن أن تعرف معانيها إلا بتوضيح خاص! وذلك في مقال نشره في إحدى الصحف المحلية، منذ أيام، وحبذا لو استمر في كتابته عن هذا الموضوع اللغوي المحلي في جبال فيفا.. وما حولها.. وهذه اللهجات المحلية في الجنوب تتكئ على موروث لغوي قديم هو اللغة الحميرية والتي نطق الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض مفرداتها في قوله (ليس من امْبر امْصيام في امْسفر)، أي ليس من البر الصيام في السفر).
وإذ أشكر شيخنا على اهتمامه بتلك الأنابيش اللهجية، أودّ المداخلة، في شيء من التفصيل، على كلمته تلك؛ لأنها تثير قضايا في صميم ما سعيت إليه في ذلك المشروع الكتابي، الذي لم يكتمل.
فأوّلاً، هي (فَيْفاء)، لا (فَيْفا)، وقد فرغتُ من مناقشة ذلك في الحلقات التي نشرت في (الأربعاء). وقصر الممدود على كل حال دارج على الألسنة والأقلام، في نجد كما في اليمن، وهو ما تدلّ النصوص المدوّنة في القرون الأخيرة. لكن تلك مسألة أخرى.
أمّا من أين جاء هذا الاسم (فَيْفَاء)؟ وكيف صحّ أن يُستخدم بمعنى (الصحراء)، في الوقت الذي يستخدم فيه بمعنى (الصخرة الملساء أو الجبل المعروف) كما فصّلت القول عنه في تلك المقالات؟ ثم علام ترادفتْ عليه المفردات (فَيْف، وفَيْفَا، وفَيْفَاة، وفَيْفَاء)، في معجم اللغة العربية، من معنى مشترك بينها؟ فإن من الواضح أن لأصوات هذه الكلمة علاقة بالتعبير الصوتي عن المعنى، أو ما يُسمّى بالانكليزية (الأنوماتوبويا) Onomatopoeia، أي الإيحاء الصوتي بالمعنى، بحيث تُنقل الدلالة من خلال تصوير المدلول صوتيًّا. وهي ظاهرة لغويّة جدّ بارزة في العربية. فكأن صوت الفاء هذا الصوت الشفوي الأسناني الاحتكاكي المهموس، المكرّر، يتخللّه حرف اللِّين المجهور الياء جاء تعبيرًا في تاريخ اللغة السحيق عن صوت الريح الذي يكون له صفيره في الصحارى والقفار؛ حتى لقد سمّى العرب بعض الأماكن في الجزيرة العربيّة ب(العَزّاف)، ومنها (العَزّاف) المذكور في شِعْر ابن مقبل، في قوله:
بشُقَّةٍ من نقا العَزّافِ يسكُنها
جنُّ الصريمةِ والعِيْنُ المطافيلُ
(قيل: هو صوتُ الرِّيْح في الجوّ، فتوهّمهُ أهلُ البادية صوتَ الجنّ. والعزّاف: رمل لبني سعد). (ابن منظور، لسان العرب، (عزف)).
وصوت الجنّ هنا يعني صوت عزيف الجنّ وغناءها، الذي توهّمه أهل الجاهلية، بسبب صوت الريح. وكذلك هي حال الرياح في الجبال، أو أشدّ.
وممّا يؤكّد على دلالة الرّيح وراء اسم (فَيْفَاء) بقاء اسم مكان في (الجزيرة) العربية يحمل إضافة مفردة (فَيْفَاء) إلى (الرّيْح)، هو: (فَيْفَاء الرّيْح)، وقد يسمى (فَيْف الرّيْح)، ويُنسب إليه يومٌ من أيّام العرب الحربيّة.
وربما كان للتعبير الصوتي في هذا الاسم علاقة أيضًا بفقدان الماء من المكان المطلق عليه. وهو أمر تشترك فيه الصحاري والجبال. ومن ثم كأن الكلمة (فَيْفَاء) تعبير عن أن المكان المُسَمَّى بها: أملس، قَحْل، جافٌّ لا ماء فيه، كالفلاة أو كالصخرة الملساء. ولا شكَّ أن المشكلة الكُبرى في فَيْفَاء الجبل، قديمًا وإلى اليوم، هي: المياه؛ لأن أهالي جبال فَيْفَاء يعتمدون على الأمطار الموسميّة في مشربهم، ناهيك عن زراعتهم، التي كانت مصدر عيشهم. والأمطار الموسميّة هناك متقلّبة الهطول بطبيعة الحال، ومياهها تذهب بطبيعة الحال ثانيةً إلى الأودية البعيدة والآبار الشحيحة المتنائية، وقدرة المواطن بطبيعة الحال مرة ثالثةً على خزن المياه، ولمجرد الشرب، تظل محدودة جدًّا، بل غير ممكنة في الماضي القريب. فكانت النساء يجلبن أَدَاوَى الماء على ظهورهنّ من الأودية البعيدة، حتى إن المرأة، في سني الجفاف، قد تغيب عن أهلها يومًا كاملاً لجلب إداوة ماء صغيرة لأطفالها. ولقد قال الرحالة البريطاني (فيلبي) إبّان زيارته فَيْفَاء، قبل 68 سنة تقريبًا، (1936م= 1355هـ):
(إنها لحقيقة غريبة حقًّا أن تعاني (فَيْفَاء) كثيرًا من نُدرة المياه، وذلك على الأقل في أجزائها العليا، حيث يبدو أنه ليس لديهم لا آبار ولا حتى صهاريج لحفظ ماء المطر. وإنما يعتمد إمداد المياه بشكل كبير على النساء، اللائي يجلبنه بالأَدَاوَى من الصدّوع والبِرَك المختلفة في الأجزاء العليا من وديان عديدة، وذلك لبيع الإداوة الواحدة بثُمْن ريال وهو السعر الحاليّ وقت زيارتي فَيْفَاء أو بسعرٍ أكثر من ذلك في الفصل الأكثر جفافًا، حينما يتطلّب الأمر غالباً أن يَرِدَ النساءَُ موارِدَ أبعد في أسفل الجبل، جهةَ مَعَايِن (الوُغْرَة)، التي لا تَنْضَب على ما يبدو. وفي مثل هذه الأزمنة قد يرتفع سعر الماء على قمّة الجبل بقدر نصف ريال للإداوة).
وقصة المياه في فَيْفَاء قصة، وهي قصة قديمة و(تراجيديّة)، يطول سردُها، وليس هذا بمحلّها، لكنها الإشارة إلى أن لاسم فَيْفَاء من معاناة أهلها نصيبًا؛ ففَيْفَاء حقًّا: (فَيْفَاء)، أي بعيدة عن الماء، اللهم إلا من ماء السماء.
ومن هذا يبدو متمثّلاً في الذهن ما نقف عليه من تعريف لمعنى (فَيْف، وفَيْفَا، وفَيْفاة، وفَيْفَاء) في المعاجم اللغوية بأنها: (الصخرة الملساء) تارة، وتارة أخرى: أنها (مُخْتَلَف الرّيْح)، أو المفازة (لا ماء فيها، أو البعيدة من الماء). وذلك بإلحاح تلك المعاجم على تلكما الدلالتين من خلال عبارتي: (مُخْتَلَف الرّيْح)، و(لا ماء فيها). (قال أبو خَيْرَة: الفيفاء: البعيدة الماء. قال شمر: والقول في الفَيْف والفَيْفَاء ما ذكر المؤرّج من مختَلَف الرِّياح). (ابن منظور، (فيف)).
ولقد أوشكَ صاحب (لسان العرب) أن يكشف معنى فَيْفَاء هذا الذي نحاول الاقتراب من ظِلاله الدلالية عندما نَقَل قائلاً: (أبو عمرو: كل طريق بين جبلين: فَيْف؛ وأنشد لرؤبة: مَهيلُ أفْيافٍ لها فُيُوفُ).
قال (الجوهريّ، الصحاح، (فيف)) في شرح البيت: (المهيل: المخوف. وقولُهُ لها، أي: من جوانبها صَحارَى). ونقل عنه ذلك صاحب (اللسان). على حين علّق (الزبيدي، تاج العروس، (فيف)) بقوله: (هذا نصّ الصحاح. وفي التكملة: هو تصحيفٌ قبيح، وتفسيرٌ غير صحيح. والرواية: (مَهْبِلُ)، (بسكون الهاء، وكسر الباء الموحّدة)، وهو مهواة ما بين كل جبلين. وازداد فسادًا بتفسيره؛ فإنه لو كان يكون من الهول، لقيل: (مهول)، بالواو))..
وخلاصة القول:
1 إن اسم (فَيْفَاء) المطلق على جبال (فَيْفَاء) هو بالمدّ (فَيْفَاء)، لا بالقصر (فَيْفَا)، كما يستعمله بعض الناس اعتمادًا على المنطوق. ولئن لم يكن قصر الممدود خطأً في العربية إنْ أُمن اللبس فيه، إلا أنه من الأدقّ بناء على ما تقدّم اعتماد كتابة الاسم بالمدّ. والملحوظ هنا أنه يرد مقصورًا في معاملات الأحوال المدنيّة مثلاً، كما يرد كذلك في اللوحات الإرشادية على الطرق.
2 إن اسم (فَيْفَاء) يعني: الصخرة الملساء، تحديدًا.
3 إن النسبة إلى (فَيْفَاء) بصيغة (الفَيْفي) لا (الفَيْفائي) ولا (الفَيْفاوي) صحيحة لغويًّا؛ بالنظر إلى ما ذكره اللغويون من زيادة المدّ في كلمة (فَيْفَاء). وقد فصلت البحث في هذا في الحلقات التي أشار إليها الشيخ ابن إدريس. بل ربما كانوا قديماً يَدْعون الجبل ب(فَيْف)، بدليل وجود مكان آخر في الجزيرة العربية يُدعى تارة: (فَيْف) وتارة أخرى: (فَيْفَاء)، وهو (فَيْف الريح) أو (فَيْفَاء الريح).
4 لعلّ اسم (فَيْفَاء) على صلة بالإشارة إلى الأحوال الطقسية والبيئيّة في الجبل، لاسيما من حيث: الرياح، وشحّ المياه الجوفيّة.
5 لعلّ القارئ في غنى عقب هذا عن التنبيه أيضًا إلى الخطأ اللهجي، الشائع لدى غير الفَيْفِيّين على كل حال في نطقهم اسم (فَيْفَاء): (فِيْفَاء)، أو (الفَيْفي): (الفِيْفي)، بكسر الفاء الأولى، والصواب: بالفتح.
ثانيًا، يقع في الجدل الثقافي الخلط كثيرًا بين مشروعيّة دراسة اللهجات العربية علميًّا من جهة، والترويج للعاميّات ثقافيًّا وإعلاميًّا من جهة أخرى. وليس هذا ممّا طرحه الشيخ ابن إدريس، لكنها سانحة لإيضاح هذه المسألة. فدراسة اللهجات ضرورة علميّة، وهي تصبّ في مصلحة العربيّة الفُصحى نفسها. أمّا الترويج للعاميّة، فله مآرب أخرى، بعضها بريء، وبعضها مريب. وهو مريب لا بما يفتحه من فُرقة لغويّة، وانقطاع ثقافي فحسب، ولكن بما وراء ذلك من إحياء قِيَم فكريّة، وترسيخ أنساقٍ اجتماعيّة، ليس أول مؤرّقاتها ما يمسّ الدِّين، ولا آخرها ما يهدّد الوحدة الحضارية، بنزع ورقة التوت الأخيرة عنها، وهي: اللغة.
وفي المساق المقبل تفصيل.
مرفأ:
حينما ينكسرُ الفجرُ كؤوسًا
يضحك الماءُ
وتنهارُ الليالي


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved