الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th September,2005 العدد : 121

الأثنين 1 ,شعبان 1426

من قضايا المصطلح الأجنبي الحديث في اللغة العربية (1-2)
د.ناصر الدين الأسد*

من المتعارف عليه بين علماء اللغة والاجتماع وعلوم الإنسان أن اللغة لا تستمر في الحياة والتطور، وفي القيام برسالتها الفكرية والثقافية، إذا انغلقت على نفسها ولم تتفاعل مع اللغات من حولها أخذاً وعطاءً، ولم تستعر منها ألفاظاً لمعان وأفكار ليس عندها ما يقابلها، لتزداد بذلك غنىً لغوياً وثقافياً وعلمياً باكتساب مفاهيم جديدة توسع من آفاقها الفكرية وتكسبها رحابة في التعبير. وهي إذا انكفأت على نفسها وانعزلت فإنها حينئذ تدور على ذاتها وتجتر ما في داخلها، وتنقطع عن التوصل اللغوي والعلمي من حولها، وتغترب عن مسيرة الثقافة الإنسانية في عصرها، فتصاب بالجدب وتتدنى منزلتها بين اللغات الحية، إلى أن تموت. وكم من لغة في تاريخ البشرية تقلص أثرها ودورها حتى أصبحت رهينة محابس الجمود، لا يعرفها إلا نفر ممن لا يزالون يتحدثون بها، أو يكتبونها، لأسباب أكثرها دينية تعبدية! وكم من لغة ماتت فلم يبق لها أثر إلا اسمها أو بقايا في بعض النقوش!
واللغة العربية منذ أقدم عصورها في الجاهلية الموغلة في القدم كانت لغة منفتحة على اللغات التي اتصلت بها، أخذت من غيرها ما كانت تحتاج إليه دون تردد ولا حرج، وأعطت غيرها بسخاء ما احتاجت إليه من ألفاظ ومفاهيم. وربما استدللنا على قدم موقف اللغة العربية من اللغات الأخرى بما ذهب إليه بعض المفسرين واللغويين من وجود ألفاظ فارسية وهندية ويونانية ولاتينية وحبشية وسواها في القرآن الكريم، وقالوا: إن تلك الألفاظ كانت قد استعارتها اللغة العربية من عصور قديمة قبل نزول الوحي، فتعربت، فجاء بها الوحي وقد أصبحت عربية. وهكذا تكون جميع ألفاظ القرآن الكريم عربية على رأي هؤلاء المفسرين، وذلك لتفسير ظاهر ما ورد من قوله تعالى:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} سورة يوسف، وما ورد في الآيات الأخرى المشابهة. وإن ذهب غيرهم من المفسرين إلى أن تلك الألفاظ عربية الأصل اتفق وجودها في العربية وفي غيرها من اللغات، فهي من الألفاظ المشتركة. وفي الشعر الجاهلي كثير من تلك الألفاظ التي تدل على التواصل اللغوي والثقافي بين اللغة العربية وغيرها من اللغات، فهي من الألفاظ المشتركة. وفي الشعر الجاهلي كثير من تلك الألفاظ التي تدل على التواصل اللغوي والثقافي بين اللغة العربية وغيرها منذ أقدم العصور التي نعرفها.
واللغة من حيث هي لفظة مفردة ومن حيث هي تراكيب لفظية إنما هي فكر وثقافة، بل إن الفكر والثقافة هما اللغة، ولا نستطيع أن نفصل لغة أمة عن فكرها وثقافتها، ولا أن نفصل فكرها وثقافتها عن لغتها، فهما كالجسد والروح. ومن هنا كانت اللفظة الجديدة المستعارة من لغة أخرى فكراً جديداً، وثقافة جديدة تستفيدهما اللغة المستعيرة، بالإضافة إلى أنها مكسب لفظي يزيد ثروة اللغة.
وهذا ما يرمي إليه نفر من أهل اللغة حين يرون أن كثيراً من المقابلات العربية التي وضعناها للمصطلحات العلمية والحضارية (غير الثقافية) في القرن العشرين ولا نزال نضعها، ليس لها من الوقع في أسماعنا ولا في نفوسنا ما يفتح أمامنا آفاقاً فكريةً كما للمصطلح الأجنبي نفسه المحمل بدلالات ثقافية ذات أبعاد وظلال ومفاهيم ليست في المقابل العربي الذي لا يحدث في الفكر من الأثر ما يحدثه المصطلح الأصلي، وخاصة حين يجيء المقابل العربي جملة، كثيراً ما تكون غير مفيدة، لأنها نتيجة جهد لفظي محض لترجمة حرفية لمعنى المصطلح الأجنبي، في حين لم يكن المعنى اللغوي اللفظي هو المقصود من ذلك المصطلح الأجنبي. ولقد كنت دائماً أحس أن كلمة تكنولوجيا تؤدي ما لا تؤديه كلمة تقنية أو تقانة. وأن كلمة ديموغرافيا فيها ما ليس في كلمة علم السكان، وكذلك الشأن مع كلمتي سوسيولوجيا وعلم الاجتماع، وخاصة حين نستعمل (الصفات) من هذه الأسماء، فنقول: تقني وسكاني واجتماعي، فهي صفات تندرج في ثنايا الكلام العادي، وليس فيها الامتلاء الثقافي والفكري لألفاظ مثل: تكنولوجي وديموغرافي وسوسيولوجي! وحين نقول:( هذه قضية اجتماعية أو قضية سكانية) فقولنا هذا يبتعد كثيراً عن المقصود من النسبة إلى علم الاجتماع أو علم السكان، ويبتعد كذلك عن الإيحاء الفكري لقولنا (هذه قضية سوسيولوجية أو قضية ديموغرافية). وقد استعملنا كلمة جغرافيا منذ القديم، وهي كلمة إغريقية أجنبية، ولها من الإيحاءات النفسية واللغوية ما ليس لجميع الألفاظ الأخرى التي وضعت قديماً وحديثاً لتحل محلها، وكذلك استعملنا كلمة موسيقى وفلسفة وكهرباء ومغنطيس وهيدروجين وأوكسجين وسواها من الألفاظ الفنية والعلمية. ويبدو أننا حزمنا أمرنا بعد طول جدال وقبلنا أسماء الدرجات الجامعية من ليسانس وبكالوريوس وماجستير ودكتوراه، وجرينا على ذلك منذ عقود. وأستكنا في ذلك إلى أن هذه الأسماء ملازمة للنظام الجامعي نفسه، وهو نظام استوردناه من غيرنا، حتى نظام كليات الدراسات الإسلامية وعلوم الشريعة، ومن الطبيعي أن نستورد أسماء درجاته معه.
وقد جرى مجمع اللغة العربية بالقاهرة على هذا في بعض المصطلحات العلمية الأجنبية، فاحتفظ بها كما هي دون تغيير، ولكنه كان في بعض المصطلحات يلجأ إلى ترجمتها ترجمة حرفية لفظية في كلمة واحدة أو في عبارة من كلمات، ففقدت تلك المقابلات العربية شحنتها الفكرية ومخزونها الثقافي، وبذلك ضاع على اللغة العربية ما كان يمكن أن تكسبه في ميادين الفكر واللغة.
ولقد أخذ المسلمون في العصر الأموي ثم في العصر العباسي الأول العلم مع مصطلحاته التي وضعها له اصحاب ذلك العلم، من الإغريق والهنود وغيرهم، بلغات تلك الشعوب مع تغيير بسيط في الألفاظ. ولم يغيروا تلك المصطلحات. ولكنهم حين أصبح العلم علمهم وقطعوا اشواطاً في طريق الابتكار واختراع الجديد، وتطوير ما اقتبسوه وتصحيحه أصبح من حقهم أن يضعوا لعلمهم هذا أسماء من لغتهم، فكانت لنا تلك المصطلحات العربية التي أخذتها عنهم أوروبا بلغتها العربية، إلى أن طور الأوروبيون علوم المسلمين وبدأوا لهم أنفسهم بالاختراع والابتكار والتجديد، فأعطوا هذا الجديد من علمهم اسمه من لغتهم. ثم جاء إلينا هذا العلم، فانشغلنا بمحاولة تغيير هذه الأسماء وتحريفها لتتمشى مع لغتا العربية وسمينا ذلك تعريباً، أو ترجمنا تلك الأسماء والمصطلحات إلى العربية ترجمة حرفية، لا تحتاج إلا إلى مترجمين، لا إلى علماء في اللغة ولا إلى مجامع. أجل، شغلنا بذلك ولكننا لم نول العلم نفسه من الابتكار والاختراع والتطوير والتجديد جزءاً من وقتنا الذي أوليناه للكلمات والألفاظ دون نتيجة، ذلك لأن قضية المصطلح هي قضية علمية ثقافية حضارية وليست قضية لفظية لغوية فقط.
ولا بد لنا هنا من أن نستدرك قبل أن نمضي في حديثنا حتى لا يساء فهم هذا الحديث. وذلك أننا نحصر الحكم السابق كله في مصطلحات العلوم الأساسية وفي مصطلحات تطبيقاتها التكنولوجية، مما لم تعرفه لغتنا ولا تراثنا وإنما هو مما جد في العصور الحديثة.
وكذلك لا بد لنا من أن نستدرك بأننا نفصل في هذه المرحلة من حياة أمتنا فصلاً واضحاً بين استعمال هذه المصطلحات كما وضعها أهلها لعلومهم وبين استعمال اللغة العربية لغةً للتدريس في كليات العلوم النظرية والتطبيقية. فهذه المقابلات العربية لا يكاد يستعملها أحد. وهي حبيسة الأدراج والخزائن ورهينة معاجم المجامع التي لا يكادي عرفها الا نفر محدود من أعضاء المجامع ومن المترجمين!! أما استعمال اللغة العربية لغة للتدريس (اي لشرح المادة العلمية وكتابة أسئلة الامتحانات وكتابة اجابات الطلبة وبعض البحوث العلمية) فهو أمر يقتضيه حسن سير العملية التعليمية، بالإضافة إلى أنه واجب قومي احتراماً لأنفسنا وللغتنا، وهو سبيلنا إلى توطين العلم في بلادنا.
ثم إن أهل اللغة هم اللذين يختارون هذا النوع من المصطلحات بمحض إرادتهم. وهذا الاختيار الحر يجعل اللغة حية متطورة من داخلها، ويضيف إلى ثروتها ثروة جديدة دون أن يفكك بنيانها أو يجور على خصائصها ومصطلحات تراثها. وقد بقيت اللغة العربية عربيةً مع وجود ألفاظ أجنبية الأصل فيها منذ القديم، وكذلك بقيت اللغة الإنجليزية إنجليزيةً واللغة الأسبانية إسبانيةً مع انبثاث كثير من مصطلحات العلوم وألفاظ الحضارة من اللغة العربية فيهما: بعضها معروف ظاهر للعيان ومنصوص على أصله العربي في المعاجم الأجنبية الكبرى، وبعضها ملتبس لتعرضه لمراحل من التشوه في النطق، فأغفلت تلك المعاجم النص على أصله. وفي جميع تلك الحالات لم تكن الكلمة الدخيلة تحل محل كلمة أصيلة فتلغيها، وإنما كانت تحل محل مفهوم جديد لم تكن في اللغة المستعيرة كلمة تدل عليه. ذانكما هما التغير الداخلي والتطور الذاتي اللذان تحتاج إليهما كل لغة.
وفي ختام هذه المقدمة التي طالت، لا بد من استدراك أخير، وهو أن حديثنا كان عن قبول الألفاظ والمفردات التي هي مصطلحات علمية حديثة. أما التراكيب والأساليب فأمور تختلف عن الألفاظ المفردة؛ لأن تلك من صميم طبيعة بناء اللغة. فلا يجوز مثلاً أن نقدم ما هو كالصفة على ما هو كالموصوف، فنقول:( ومثل هكذا قضايا (أو) لابد من الحديث عن هكذا موضوع (بدل) قضايا كهذه) و (موضوع كهذا) فإن مثل هذه التراكيب تنقل الأسلوب من العربية إلى العجمة وتفسد نصاعته. وكذلك لا يجوز أن نستعمل تراكيب وتعبيرات من ثقافة أمم أخرى ونقحمها في لغتنا كقولنا (إن محمدً صلى الله عليه وسلم لعب دوراً في حياة الأمة العربية) فاللعب في لغتنا ليس له إلا معنى واحد، في حين نجد لكلمة (Play) معاني أخرى غير اللعب متطورة من أداء الأدوار التمثيلية في المسرح الإغريقي، وهذا حديث طويل يمكن لنا ذكرته أن يكون بداية له.
***
وإذا كان ما تقدم كله دعوةً إلى عدم التحرج وعدم التردد في استعمال أنواع من المصطلحات الأجنبية، فهو لا يعني قبول كل الأنواع. ذلك بأن ما تقدم محصور في أمرين أطلنا الكلام عليهما، وهما: مصطلحات العلوم المستجدة التي لم يعرفها العرب، والمصطلحات التي يختارون هم قبولها لحاجتهم إليها، دون قسر أو فرض بأساليب مباشرة أو ملتوية.
ولكن من الألفاظ والمصطلحات والتراكيب ما لا يختارها الناس ولا يحتاجون إليها، وانما تدس لهم دساً أو تفرض عليهم قسراً. على حين نجد في لغتهم ما يغني عنها من الألفاظ ذات الجذور الضاربة في أعماق ثقافتهم وتراثهم.
ذلك أن بعض قوى الاستكبار والطغيان، تنبهت على أن من أهم وسائل استمرار حكمها للأمم الأضعف هو غزو لغتها، فتفكك بنيانها، وتنسيها أصولها وتراثها، وتحل لغتها محل لغاتها الوطنية وتترك هذه اللغات لتكون لهجات محليةً أو قبلية، كما فعلت في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين في الهند وباكستان والأقطار الإفريقية في جنوبي الصحراء، وكما حاولت أن تفعله في بلادنا العربية ولا تزال تحاول. وربما بدأت تلك الدول بإحلال مصطلحات وألفاظ: ثقافية وفنية وإدارية، من ثقافتها بدل مصطلحات من ثقافة الأمم المستضعفة، وهي مصطلحات كانت ثابتة راسخة متعددة الاستعمالات الدينية والعلمية والأدبية واليومية. وسنبدأ بضرب الأمثلة في هذا المجال من الجامعات، وخاصة من الأردن لتكون الصورة لنا أوضح، وليكون حديثنا أصرح. وفي البلاد الأخرى من أقطار وطننا العربي أمثلة متعددة قد تتفق مع ما سنورده وقد تختلف، ولكن غاياتها واحدة.


* من محاضرة سبق إلقاء جزءٍ منها في مركز حمد الجاسر.
*وزير التعليم العالي الأردني سابقاً

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved