الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th September,2005 العدد : 121

الأثنين 1 ,شعبان 1426

من الحقيبة التشكيلية
نموذج للإبداع الجريء
مهدي الجريبي فنان يسبق الزمن لمفهوم تشكيلي معاصر
إعداد: محمد المنيف
في فترة سابقة التقيت الفنان الشاب مهدي الجريبي وكان اللقاء الأول المباشر بعد معرفتي به عبر إبداعاته ومعارضه، وزادني اللقاء معرفة وقربا من إبداعه المستفيض، جعلني من خلاله على قدر أكبر لفهم هذا الجيل الجديد الذي يمثله هذا الفنان، وكيفية تعامله مع الإبداع التشكيلي، فوجدت أن هناك مسافة كبيرة تحتاج منا نحن السابقين في التواجد في الساحة وبمحاولاتنا وتجاربنا أن نقلص الفجوة؛ لنتمكن من الالتحام مع الأجيال الجديدة، وهذه خطوة سبقني بها زملاء آخرون، منهم: الفنان والكاتب التشكيلي عبد الرحمن السليمان، والفنان عبد العزيز عاشور، والفنان أحمد منشي، ونايل ملا، وسمير الدهام، ومحمد الصقعبي، والفنان عبد الله الشيخ، وغيرهم، خصوصاً من يتعاملون مع منجزهم التشكيلي بمرونة وتمازج مع الجديد، وقدرة على إمساك العصا من منتصفها، فكان اللقاء فرصة تعرفت فيها على هذا الفنان وعلى فلسفته الإبداعية عن قرب، فقد شعرت بأنني قطعت الكثير من تلك المسافة ومن القناعة، فذاب الفارق الزمني الذي يفصل بين تجربتي وتجربته، ما أشعرني أن الطرق والأساليب التي يمارسها قدامى التشكيل أصبحت في حاجة إلى أن تكون أكثر مرونة وتوثباً نحو الجديد؛ ليصبحوا من خلالها قادرين على التعامل والتواصل مع واقع الحركة التشكيلية المعاصرة، بكل ما فيها من قفزات، مع ما يمكن أن يشعروا به من إحساس تجاه الوثبات الجديدة بشكل كبير؛ تعاطفاً مع ما كانوا يتعاملون به دون تراجع أو تخوف من التجربة الجديدة، خصوصاً أن مَن مَرّ بتجارب مهمة في البحث في اللون وتكوين العمل واستخلاص الفكرة بمرونة دون توقف عند نقطة أو مرحلة معينة، بإمكانه أن يساير الجديد، بل إنه قادر على أن يضيف من خصوصيته ما يجعل الجديد أكثر انتماءً.
أعود لمحور الموضوع اليوم، الذي جاء اختياري فيه للفنان الجريبي نموذجاً لمرحلة التجديد في الساحة المحلية، وذلك لعدة أمور، منها: أن هذا الفنان يقف في منتصف المسافة بين جيل البدايات وجيل الشباب الجديد بدمائه الساخنة وعنفوان بحثه في أبعاد الفنون التشكيلية، بمنظور يتوازى ما يحدث في العالم من تبدل وتغير سريع، سنتوقف عند الكثير من إيجابياته وسلبياته، كما أن هناك أيضاً ما يدفعني لاختيار هذا النمط أو النوعية من المبدعين الشباب، ومنها أنني، وخلال لقائي بهذا الفنان، أصبحت أكثر قرباً لفهمه وإيمانه بما يقوم به، عكس ما كنت أرقبه وأتابعه من بعيد للأعمال الفنية التي يقدمها البعض من الفنانين، وتلبسهم لأساليب حديثة لمجرد التواجد، فخدمتهم الصدفة ووضعتهم داخل إطار صنعوه بأنفسهم، دون علم بكيفية الخروج منه أو إقناع الآخرين بما يمكن أن يتحقق له من تطور، أو بما يحمله من مضامين وإشارات ورموز، حتى إن أحد هؤلاء الفنانين قدم تجربة لم يتمكن من التأكد من صلابتها؛ فذابت في عيون المتلقي؛ نتيجة جهله بمعنى أو هدف فعله الإبداعي، فكانت إجابته تتحول إلى سؤال حيث يقول: (هل علي أن أكون على علم مسبق بما يمكن أن ينتج من تجربتي، وهل علي تفسيرها) لهذا كان للفنان مهدي الجريبي مساحة من الإقناع خرجت منها بدهشة ممزوجة بالإعجاب.. لقد شعرت وأنا أسمع حديثه المؤطر بثقافة الفنان الواعي بإبداعه والواثق من هدفه والعارف بكيفية التفكير في المنجز التشكيلي قبل الدخول فيه. والمنغمس من رأسه حتى أخمص قدميه في هاجسه لحظة بلحظة دون انفصال، يرى الحياة بمنظاره التشكيلي باحثاً عن مكامن الفكرة في زوايا مهمة ومؤثرة يجهلها الباقون، بقدرات جعلت لعينيه ووجدانه مساحة أكبر للإدراك، مع ما لديه من عقل وعقلية وبصيرة هي عند غيره مهمشة أو نائمة، فالشكل واللون والمساحة والكتلة والملمس عند مهدي الجريبي تتعدى المكان وتسبق الزمان تعود بنا إلى واقع مغيب في ذاكرتنا؛ ليبعث فيه النشاط، ويحرك فينا نشوة الحياة؛ فالعملية الإبداعية عنده لها خصوصيتها البصرية المختزلة.. في أعماله انعتاق من سجن الواقع الفني التقليدي بكل أطره وقوانينه وأنظمته إلى مخيلة مرهفة هلامية الإيحاء، حالمة تسمو بالذهن وتتألق بالروح.
يحط الجريبي رحال عالمه شكلاً ومضموناً نافياً ذاته مبقياً مُدَرَكه المعرفي والسلوكي، دون أن يفرضه على الآخر، محرضاً مخيلة المتلقي وهاجسه، محتكماً في تأسيس أدائه بفهمه لقوانين أكاديمية دون التوقف عندها، ملتزماً بأخلاقيات الفن المكملة للمعيار الجمالي، مستثيراً وموجداً علامات استفهام لا تبتعد كثيراً عن إدراك المشاهد.
في أعمال الفنان الجريبي امتلاك لحرية التعبير بكل السبل في إطار من احترام الخصوصية وذائقة المتلقي، دون تفريط أو إسفاف، مع قناعته بعدم قدرة المتلقي العادي على استيعابها؛ نظراً لتحطيمه لنظرية تسجيل الشكل الموجود سلفاً كالمعتاد، والاتجاه نحو تحريض الخيال والشعور بكل المؤثرات الوجدانية من متعة وحزن، مع اختزال لفعل تلك المخيلة مع ما يشوبها أو يتبعها من عصيان للمألوف من أنماط التعبير.
لقد أصدر الجريبي بيانه مع أول معارضه معلناً البدء في البحث عن مكامن الدهشة دون انصياع للصدفة، بقدر ما يؤكد تبني المتخيل والسعي لإلغاء الحاجز الوهمي بين الإبداع والنمطية، مدوناً كثافة مختزله البصري في تكويناته وتشكيلاته التي ينقب عنها في زوايا المجهول عند الآخرين بعين ثاقبة وإدراك للنتائج، ففي معرضه وتجربته (جدل) نجد انفتاحاً على التجربة بأضلاع أربعة (حقيقة، وهدف، وبعد فلسفي، وعفوية) ورغم تكامل الأضلاع إلا أنها وجدت ردود فعل متفاوتة من زملاء المهنة، كشفت عدم قدرة البعض على فهم واستيعاب الجديد.
* الجريبي ومصداقية علاقته بإبداعه:
كنت أتابع في الفترة الماضية جديد الساحة وأتعامل مع هذا الجديد بحذر عوداً إلى ما نتج عن مثل هذا التغيير والتبدل من ردود فعل كبيرة ممن سبقونا من راصدي مسيرة التشكيل العربي كل في موقعه، فالحداثة لم تكن وليدة اليوم بقدر ما تسير بخط متواز مع الأساليب الأخرى، خصوصاً مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، الذي برزت فيه هذه الاتجاهات وأخذت موقعها من بين بقية التجارب، واستطاع رواد الحداثة أن يثبتوا دورهم ودور إبداعهم بمنافسة قوية تزامنت مع ريح التغيير العالمية المعاصرة في مختلف نواحي الحياة في وقت أخذت التكنولوجيا تمتد فيه على مساحة ضوء الشمس، مكونة إمبراطورية لا يمكن الوقوف أمامها بقدر ما يجب الاستفادة منها. من هنا أصبح على الفنانين التشكيليين التعامل مع هذه الموجة كل في موقعه، بناء على ما يمتلكه من موروث، على أن لا يتوقف عند حدود التوصيات والتوجيه الآلي؛ إذ على الفنان أن يوظف هذا التجديد ويرتقي بمفهومه عبر سبل مزجت وتشكلت بما يخدم النتيجة الإبداعية.
هذا الانبعاث في أساليب الإبداع أتاحت الفرصة الكبيرة للفنانين للتعامل مع منجزهم بشكل أكثر حرية وأكثر تواصلاً مع أبعاد نظرتهم تجاه العمل الفني، وتخليصه من قواعد السرد؛ بحثاً عن الفن الجديد، من خلال قلب علاقة الشيء باللوحة وجعله تابعاً لها بصورة جلية، كما قال أندريه مالرو، أو كما يقول كاندنسكي بأن (الفن هو تركيب خالص يرتقي إلى عالم من الأشكال والأصوات والمعاني الحرة والسامية، التي لا تخضع لقواعد أو مؤثرات خارجية، أياً كان مصدرها)، وما جاء في التنظيرات التي كتبها بول كلي باعتبارها نتاجاً طبيعياً لتلك المرحلة التي شهدت لحظة الانفجار الحداثي في المفصلة التاريخية. والتي أحدثت نقلة كبيرة في كافة معارف الإنسان، برز فيها الرواد الطليعيون الذين أثبتوا أن الفن ليس نتاجاً حَدْسياً وحسب، بل فلسفي أيضاً.
هذا التصرف واجه ولا زال يواجه الكثير من الرفض من قبل عامة المتلقين، باستثناء النخبة المثقفة أو القادرة على فهم واستيعاب كل جديد؛ لسد وردم الفجوة التي يشكلها التقليد السائد في الفن، وهو المحاكاة أو تسجيل الواقع.
لهذا يمكن القول: إن هناك أسماء معينة ومحددة منها من حقق تواجداً مشرفاً ومقنعاً، ومنهم الفنان مهدي الجريبي، الذي أضعه نموذجاً في هذا الموضوع لنخبة من التشكيليين الشباب بتجاربهم الواعية الصحيحة البنية والمكتملة الولادة والنشأة، بما تحمله من دلالات في الشكل تنقل ما بداخل العقل، جامعة بين الشكل والشكل الضد، فالعقل لا يمكن أن يجمع شكلاً دون معرفة وفهم وإدراك نقيضه، انطلاقاً من المحيط بكل عناصره وإيحاءاته، موجداً سبل الوصول إلى أبعاد معاصرة تستجيب لتداعيات ذهن الفنان وخياله، دون أن يقطع الصلة بالواقع أو فصل الاتصال الخطابي الموجه إلى المتلقي في إطار مساحة الخبرة الإنسانية.. يقابل هذا التوجه السليم تجارب متعددة لفنانين لهم باع طويل في التشكيل، إلا أن تجاربهم الحديثة تفتقد المنهجية والهدف وتبنى على الصدفة والتلقائية، وهذا ما أفقدها حيويتها وانتماءها إلى صفوف الفن المعاصر.


monif@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مداخلات
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved