الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم
(قراءة في وعي الشخصية العربية) «4»
سهام القحطاني
لا يقتصر مفهوم العبادة في الإسلام على الصلاة والصوم والزكاة، بل هو مفهوم يعم كل الأنشطة التي يقوم بها الفرد في حياته؛ قال ابن تيمية - رحمه الله - عن العبادة: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة..) ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: (وإذا عرفنا الدين كله عبادة.. وأن الدين جاء يرسم للإنسان منهج حياته الظاهرة والباطنة، ويحدد سلوكه وعلاقاته، ووفقا لما يهدي إليه هذا المنهج الإلهي، عرفنا أن عبادة الله تتسع الحياة كلها، وتنظيم أمورها قاطبة من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات والعلاقات الدولية في السلم والحرب)، ولا يهدف الإسلام بهذه الغاية (إلى إيجاد عبّاد أو زهّاد يميتون الجسد لتحيا الروح كما يفعله غلاة الصوفية، ولكنه يهدف إلى إيجاد الشخصية المتوازنة التي تسعى إلى تحقيق الخلافة في الأرض وتستفيد مما سخره الله لها في هذا الكون ضمن مفهوم تعبدي خاضع لله - سبحانه وتعالى - وتطبيقا لقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص - 77).
إن مسئولية الإنجاز والإعمار كانت مسئولية جديدة يتقابل معها وعي الشخصية العربية، وهي مسئولية رسمت للشخصية العربية دور القارئ والعالم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور - 55). (إن الإسلام لا يلغي الشخصية الفردية ويُذوبها في المجتمع ويحوّل الأفراد إلى قطع من التشييئات وآلات تعمل دون إشباع رغبة أو تحقيق ذات، كما هي الماركسية، كما أن الإسلام لا يهمّش في الوقت ذاته أهداف المجتمع ومصالح الجماعة من أجل تحقيق الرغبات الفردية وتضخيم مفهوم الذات الفردية وأنانيتها، كما هي الوجودية والرأسمالية، بل يسعى الإسلام إلى تحقيق الحريات الفردية ضمن إطار مصالح الجماعة، وتحقيقها بحيث لا تلغي شخصية الأفراد، ومن أجل ذلك حرص الإسلام على تنظيف المجتمع العربي من التخلف الاجتماعي بكل أشكاله، وقوانينه، فنظم العلاقة بين أنا - العربي والآخر - سواء المرأة أو العدو القبلي - ووضع جملة من المبادئ والمرتكزات التي سيتم من خلالها تنظيف وعي الشخصية العربية، فبعد أن وحّد العبادة، وحدد الهدف، انتقل إلى العلاقات الإنسانية بكل أشكالها، بادئاً، بقيمة المساواة بين البشر، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات - 13)، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات - 10).
إن هذا الخطاب القرآني التمهيدي كان يسعى إلى تحرير العربي من عقيدة العصبية القبلية وإقصاء الآخر عبر تشييء الآخر؛ أي تحويله إلى موضوع ذي علاقة معرفية، لتقبل وعي الشخصية العربية، الآخرَ المسلم من ثقافات وأجناس مختلفة، لتفعيل المرحلة التالية؛ مرحلة التدميج العولمي بين أنا - العربي والآخر عبر مفهوم الأمة. ثم أسس مفاهيم وضوابط العلاقة بين أفراد المجتمع الجديد، ناهياً عن كل ما يؤذي مشاعر الآخر ويجرحها ويسيء إليها، فنهى عن السخرية بأشكالها المختلفة، وحرم الغيبة والنميمة، ونهى عن سوء الظن، ثم نقى النفس العربية من عاداتها الاجتماعية وآفاتها الاقتصادية فحرم الخمر والميسر والقمار، ودفن البنات وقتل الأولاد خشية الفقر والربا وكرّم المرأة ورسم لها دورها الاجتماعي ومسئوليتها الإنسانية مع الرجل بالتساوي، بعد أن كانت المرأة من سقط المتاع؛ لا تورث وتدفن وتسبى، فضمن لها حق المساواة ككائن قادر على تحمل دور ومسئولية الإنجاز من خلال الدور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}(آل عمران - 195).
لقد كان الانتقال جذرياً بالنسبة للمرأة، عالم آخر دخلته بمفاهيم مختلفة عما اعتادته هي، بل خلاف ما اعتاد عليه وعي الشخصية العربية. ولم تكن فائدة هذا الانتقال ستتحقق ما لم تعد صياغة تأسيس وعي المرأة ذاته، وكانت الخطوة الأولى كسب ثقة وعي المرأة ذاته في تأكيد مصلحتها للإيمان بذلك الانتقال، وقاعدة الثقة تلك انطلقت من مبدأ المساواة الإيمانية، فكانت الدعوة موجهة إلى الرجل والمرأة على السواء، وأحياناً كانت المرأة هي السبّاقة في الاستجابة لتلك الدعوة، لما فيها من مبدأ يحترم إنسانيتها ويخرجها من دائرة قطع الأثاث.
إن المتأمل في المواقف النسائية في بداية الدعوة؛ موقف السيدة خديجة - رضي الله عنها - وأسماء بنت أبي بكر، وسمية، وخولة بنت الأزور، وأم سلمى، يتأكد له أنها مواقف دفاعية وريادية سبقت دور الرجل في هذا المضمار، ويستنتج أن كل تلك المواقف هي فرص قدرية هيأها الله للمرأة، ليعيد تشكيل رؤية الرجل العربي حول المرأة، بما يتناسب مع قدرة المرأة ورجاحة عقلها وقدرتها على تقدير المواقف ومسئولية التنفيذ، كما منح الإسلام المرأة مسئولية العلم والتعليم، فقد كانت لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مجالس علمية في مكة أيام الحج، وكان الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - يقول دائماً لأصحابه: خذوا دينكم من هذه الحميراء، إشارةً إلى عائشة - رضي الله عنها -. وبايعت النساء الرسول الكريم يوم فتح مكة، وكان ذلك تصريحاً منه - صلى الله عليه وسلم - بدور المرأة في صناعة القرار السياسي، كما استشار - عليه أفضل الصلاة والسلام - إحدى زوجاته في معركة الخندق. لقد خلق الإسلام المرأة ككائن معرفي ومنجِز ومساهم في عمارة الأرض، احترم حقوقها ومسئولياتها وأدوارها وعقلها وعواطفها.
وعلى مستوى الأسرة، أمر ببر الوالدين وحقوق الأم في الرضاعة والنفقة وحقوق الطفل، كما نسج علاقة التراحم بين الأرحام والجيران والقربى واليتامى والمساكين، وأوجب التكافل الاجتماعي عبر الزكاة، وحبب إلى النفس الصدقة، لما فيها من دلالات الرحمة والعطف والمشاركة الوجدانية مع الآخر؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}(النساء - 26)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(التوبة -60)، كما أوجب الأمانة والعدل بين الناس؛ {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(النساء - 58).
وعلى مستوى الحياة السياسية فهناك الديمقراطية، فمن حق كل مسلم، سواء الرجل أو المرأة، ذي صفتي البلوغ والعقل الانتخاب والتصويت عبر آلية الشورى؛ قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى - 38)، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الممتحنة - 12).
إن إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في الخطاب القرآني التي تنمى في الإنسان الجوانب التي تفرقه وتميزه عن الحيوان، ويمضي في إنشائها وتثبيتها وصيانتها داخل الشخصية التي يؤسس وعيها، وهكذا يقرر المنهج التنويري النهضوي الذي جاء به الإسلام أصوله، ومقوماته الحضارية (العبودية لله وحده، وتوحيد العقيدة، واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته، وحرمة الأسرة، والخلافة في الأرض وفق الضابط الديني، وتحكيم منهج الله وشريعته في شؤون هذه الخلافة).


يتبع
seham_h_a@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved