الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

عبدالله العسكر للمجلة «الثقافية »:
طه حسين كتب التاريخ بروح الأديب وأنا متأثر به

* حوار - علي بن سعد القحطاني:
الدكتور عبدالله بن إبراهيم العسكر من الأكاديميين المختصين في علم التاريخ، يتمتع بعددٍ من العضويات العلمية والمهنية في أكثر من جمعية علمية، فهو عضو مؤسس للجمعية التاريخية السعودية، وعضو مدى الحياة في جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا المعروفة بالمختصر الأجنبي MESA وعضو اتحاد المؤرخين العرب، لديه عدد من الكتب المؤلفة والمترجمة المطبوعة ومنها تحت الطبع. ومن كتبه: (الحالة الاقتصادية عند عرب الجنوب) وكتاب (تحقيب التاريخ الإسلامي) وكتاب (المؤلفات النادرة عن المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية)، وكتاب (اليمامة في صدر الإسلام بالإنجليزية) وكتاب (أطلس التاريخ السعودي، بالاشتراك)، وكتاب (التاريخ الشفاهي). كما قام بترجمة كتاب (الإسلام الوهابي) لناتانا دي لونج باس. وله العديد من المقالات العلمية باللغة العربية والأجنبية، وكلها منشورة في دوريات متخصصة.
التاريخ الأخميني
* كان لك شغفٌ بدراسة التاريخ الأخميني؟
- كنا ندرس تاريخ الأخمينيين ضمن برنامج يشمل تاريخ إيران والشرق الأدنى القديم، وكان يدرسنا أستاذ عراقي متمكن من تخصصه، وهو درس مرحلة الدراسات العليا في ألمانيا وبريطانيا. الشاهد أن أستاذنا حبب لنا مادته العلمية، أما أنا فقد شغفت بتاريخ الأخمينيين الذي توسع فيه أستاذنا لدرجة مذهلة. وما أذهلني وأخذ مجامع فكري ربطه بين تاريخ الأخمينيين ومصادره. وقد صادف في تلك السنة أن شاه إيران السابق: محمد رضا بهلوي أقام حفلاً أسطورياً بمناسبة مرور 2500 سنة على تأسيس الامبراطورية الأخمينية. وهو كان يدعي أن السلالة البهلوية امتداد لسالة الأخمينيين. وهو ادعاء باطل لا من حيث النسب ولا من حيث الملك. لقد أقامت الحكومة الإيرانية مدينة صغيرة من الخيام الملكية بالقرب من شيراز. لقد رهن الشاه دخل إيران من النفط في تلك السنة من أجل الصرف على تلك الاحتفالات الباذخة، حتى ان أكل المدعوين من أباطرة وملوك ورؤساء ووفود أخرى، كان يجلب يومياً من مطعم مكسيم بباريس. هذا فضلاً عن إنتاج إيران نفسها خصوصاً من الكفيار النفيس. لعل ما فعله شاه محمد رضا بهلوي في تلك السنة هو الشرارة الكبرى التي تحولت إلى نار الثورة التي اسقطت ملكه.
لم نكن في الرياض على اطلاع إعلامي بفعاليات تحويل تاريخ الأخمينيين إلى مادة يمكن مشاهدتها، اللهم ما كان يكتبه الصحفي المصري أنيس منصور في مجلة آخر ساعة. لقد شدتني تلك المقالات، ووجدت فيها زاداً معرفياً بما يردده علينا أستاذنا في الفصل. من مجموع ذلك ترسخ عندي حب هذا التاريخ، وهو تاريخ جميل، ذو مسحة أسطورية مبهرة. وعندما حلت اجازة صيف ذلك العام، إلا وأجدني وأخي نشد الرحال إلى إيران، فوصلنا بالطائرة من الكويت إلى عبادان ثم تجولنا في مدن إيران العشر الكبرى بواسطة الحافلات الكبيرة من شركة ميهان تور. وكان نصيب بلدة برسيبولس وقتاً طويلاً، حيث أقمنا في شيراز وأخذنا نتردد على مكان الاحتفالات الذي أصبح معلماً سياحياً. وهذا قادني إلى تعلم اللغة الفارسية. وعندما ابتعثت إلى جامعة كاليفورنيا، أبديت رغبتي للمشرف في دراسة تاريخ إيران القديم، فوافق وطلب أن أجيد اللغة الفارسية. فراسلت جامعة أصفهان التي أرسلت لي قبولاً، لكن كل خططي تهاوت مع قيام الثورة الإسلامية وانقطاع حبال الوصل والاتصال بين إيران وأمريكا حيث مقر بعثتي. إنني أجد التاريخ الفارسي القديم ذا صلة قوية بتاريخ العرب أكثر من صلة التاريخ الفرعوني. ولعل سيرة الملك كورش الأخميني الذي يُقال أنه ذو القرنين قد أخذت عليّ لباب فكري، فكتبت بحثاً من ثلاث حلقات عن ذي القرنين ذهبت فيه إلى أنه كورش. أما الملك الثاني دارا فهو الآخر من الملوك العظام الذي حاول جهده نقل العقلية اليونانية إلى فارس. وكلا الرجلين شيدا إمبراطورية شملت معظم ما يسمى اليوم بالشرق الأوسط، ومع كل هذا فقد تركت التخصص في هذا التاريخ، واتجهت لتاريخ الجزيرة العربية في العصور الوسطى والوسيطة.
التاريخ والعلوم الأخرى
* الدكتور شوقي ضيف وغيره من مؤرخي العصور الأدبية.. يعرج على التاريخ، وذكر أحوال المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. بالمقابل هل تجد أن المؤرخين لهم اهتمام بالأدب؟
- كانت المدرسة التاريخية التقليدية لصيقة بالدراسات الأدبية في جميع مراحلها، وحتى عصر النهضة العربية. لقد كان المؤرخون ذوي اهتمامات كبيرة وواسعة بالجانبين الأدبي واللغوي. فلو أخذنا كتاب الجبرتي، وهو أول مؤرخ في العصر الحديث، نجد لديه اهتمامات أدبية، لكنها حتماً لا ترقى لما كان عليه المؤرخون في القديم كالطبري. وطه حسين كتب في التاريخ بروح الأديب. طبعاً أنا لا أنتقص منهم في هذا الجانب لسببين:
الأول: أن كثيراً من مصادر التاريخ العربي والإسلامي، هي مصادر في الأساس مصادر أدبية ولغوية. ولا يُوجد فكاك بين العلوم، ولابد للمؤرخ من الرجوع إلى مصادر في الشعر واللغة وغيرهما. وكان الشعر ديوان العرب، الذي حفظ سجلات العرب التاريخية. وبالتالي كان المؤرخ يتكئ على مخزون من المعرفة الأدبية واللغوية. وهذا قاد إلى تأثره بتلك الأدبيات.
الثاني: كانت النصوص النثرية التاريخية متأثرة في سبكها بقدرٍ عالٍ من الأدب، أسلوباً وصياغة وبياناً. وكان من المتعارف عليه أن يتسلح المؤرخ بقدر معلوم من الأدب، وإلا سقط وتعثر ويمكن أن يُقال هذا عن كل تخصص فعالم الفلك، والطبيب، والجغرافي وغيرهم، لابد أن يراعي كل منهم حسن الأسلوب، ولابد أن يراعي قواعد اللغة، ولابد أن تكون ديباجته قشيبة ولابد أن يحلي كتابه باقتباسات وشواهد من الشعر. شاهد ذلك تجده واضحاً عند المؤلفين القدامى، فالطبري والمسعودي والبلاذري وابن سينا والرازي وابن النفيس كل في مجاله كتب بلغة راقية.
النحل
* ما رؤيتكم الأكاديمية إزاء قضية النحل والتحريف الذي أصاب التاريخ، وما مدى استفادتكم من المنهج التجريبي.. أضف إلى ذلك أن هناك فئة لا تؤمن بالتاريخ، وتفضل الأساطير والخرافات؟
- قضية النحل والكذب والتدليس ليست مختصة بالتاريخ. كل علم له من هذه الأمور نصيب. ولعل كون بداية العلوم مشافهة، سهل معها انتقال كثير من غير المعقول والمقبول إلى العلم المدون. وكما تعرف فإن الأساطير تشكل اليوم ركناً ركيناً في المثيولوجيا. والعلماء اليوم يرون أن الأساطير مهمة، لأنها تشكل البداية الفعلية لكثيرٍ من العلوم. وهي علم لم يتسن له التدوين والتسجيل، ولذلك ضاع أكثره، وتشوه الباقي بالزيادة والنقص والتحوير والتدوير. وعلى كل حالٍ فهي مهمة لدراسة المجتمعات وتاريخها. وأزعم أن قضية الخلط بين العلم المدون والأساطير والروايات الشفاهية نشأت عند هذا المنعطف الخطير في تاريخ العلوم.
والحق أقول إن التاريخ لا يكون تاريخاً نشتغل به لولا قضية النحل والكذب والزيادة والنقصان. فالتاريخ كما يقول المثل: يكتبه المنتصرون. وتاريخنا العربي القديم تاريخ ملوك لا تاريخ شعوب. ومع هذا ومع تقدم مناهج البحث أضحى من السهل التعامل مع هذه المشكلات المعرفية. وهي مشكلات لا تقلق المؤرخين البتة. وربما هذه المشكلات تقلق علماء الحديث. وهم فعلاً يعانون من قضايا الكذب والتدليس والتزوير، ومن قضايا تداخل الروايات وتعارضها. وقد أبدعوا في اختراع علوم لم تكن موجودة، تتولى معالجة مثل هذه المشكلات. أعود فأقول: إن العلوم الإنسانية والاجتماعية سوى الدينية لا تنزعج كثيراً من مشكلات الكذب والتدليس، فهي مناهجها وطرائقها الحديثة تستطيع أن تستفيد من كل التراكم المعرفي بصرف النظر عن صدقيته. فالمؤرخ على سبيل المثال عندما ينظر إلى الرواية لا يهمه كثيراً إن كانت الرواية كاذبة أو صادقة إلا بمقدار. لأنه في الحقيقة يستطيع أن يسقطها أو يستطيع أن يستفيد من لمحات قد يجدها داخل نص الرواية وهو يهتم أولاً بالرواية قبل الراوي. وقد سبق أن كتبت بحثاً تاريخياً عانيت فيه من هذه المشكلات. وهي مقالة عنوانها: (قرآن مسيلمة) مسيلمة هذا اسمه (مسلمة بن حبيب الحنفي). أعلن نبوته في السنة الأخيرة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وسماه النبي (مسيلمة الكذاب) وهو يزعم أن جيريل يأتيه. ويزعم أنه تلقى وحياً، وهو يقول بقرآن أُنزل عليه، لقد ضاع (قرآن مسيلمة) لتحرج علماء المسلمين من حفظه أو نقله. وما وصلنا نتف وجدناه في مصدرين:
الأول: من الأساطير الشعبية العربية السائدة في منطقة وسط الجزيرة العربية، وخصوصاً في منطقة اليمامة.
الثاني: من كتب أعداء مسيلمة، وهم المؤرخون المسلمون. فأنا جمعت كل ما وجدته هنا وهناك، واستطعت أن أتوصل إلى ما يمكن أن نسميه (قرآن مسيلمة) وكنت أروم أن أبيّن عور دعوة مسيلمة وبطلانها وسقوطها من أدبياتها. وكما يُقال شهد شاهد من أهلها. ومثل هذا التوجه التاريخي - أي التعامل مع الأساطير، ليس توجهاً دينياً يترتب عليه حلال وحرام أو يترتب عليه أحكام فقهية، نقرؤه من باب المتعة العلمية، وحتى من باب الاستفادة من إشارات قليلات قد تفسر بعض القضايا التاريخية العالقة. وهذا ما حدث بالفعل. ففي آية عند مسيلمة تعرض فيها إلى الضفدع. وبعد الفحص والبحث وجدت أنها أسطورة شائعة تتردد في مجتمع اليمامة. وهي أسطورة أساسها صحيح، وصلت إلى الجزيرة العربية من مصر الفرعونية. أما إمكانية إدخال المنهج التجريبي في ميدان التاريخ، فهذا أمر شبه بعيد، لأننا مع علم التاريخ نتعامل مع قضايا فكرية وأحداث وقعت، فلا يمكن والحال كما ذكرت أن استدعي الحادثة وأرى كيف وقعت. وأذكر أن بعض علماء بريطانيا إبان الاحتفالات بحلول الألفية الثانية قاموا بمشروع سموه (آلة الزمن) وقد حضرت له عرضاً في القبة السماوية خارج لندن. وملخص الفكرة أن مجموعة من الناس تكثر أو تقل تدخل آلة، على شكل عربة تطير بهم الى الخلف أي إلى الماضي، ثم تضعهم يرون ما يحدث لهم من تغير في ملبسهم وأشكالهم ومأكلهم وقضاياهم اليومية. هذا ليس منهجاً تجريبياً. هذا العمل فانتازيا تاريخية، وهو ضربٌ من التمثيل والتسلية.
الأساطير
* الأساطير مخزون جميل يستفيد من كتاب القصة.. ما مكانة الأساطير في العلوم الحديثة؟
- ألمحت فيما سبق بشيءٍ عن الأساطير. وهنا أقول إن الأساطير في مفهومها الواسع Legends تحتل مكانة كبيرة في سلم العلوم الحديثة. ولم يعد ينظر إليها النظرة الدونية. وهي دخلت في دراسة (الفولكلور) ودراسة (الأنثروبولوجيا) ودراسة (التاريخ القديم) ودراسة (التاريخ الشفاهي) ودراسة (التراث الشعبي) ودراسة (المجتمع) ودراسة (الأزياء والملبس والمأكل) هذه الدراسات من الصعب أن تتجاوز الأساطير. ونرجع أهمية الأساطير إلى أنها تراكمات معرفية مجهولة الزمن والمؤلف، نشأت على مدى سنوات عديدة، عندما كان الإنسان لا يدون علومه ومعارفه. فهي موروثه من جيلٍ عن جيل، وتعرضت للزيادة والتحوير، ثم وصلتنا في شكل قصص أو حكايات أو أمثال أو أغانٍ وأناشيد. ولفظة (أساطير) وردت في القرآن الكريم بهذا المعنى.
ألف ليلة وليلة
* تراثنا العربي حافل بالأساطير.. مثال ذلك سفر (ألف ليلة وليلة) الذي كان له صدى في الغرب أكثر من الشرق؟
- يجب علينا أن نتجاوز التعريف التقليدي للأساطير، الذي يقول بأنها قصص وحكايات لا تسمن ولا تغني من جوع. التعريف الحديث يقول إن الأساطير عبارة عن تراكم معرفي، وتجارب عملية مر بها الإنسان، وهي مرت بأطوار وأزمنة، وانتقلت من مكانٍ إلى آخر حتى وصلتنا بصورتها الحالية. ولو لم يتم تدوين معظم أساطير العالم، لربما نجدها بعد مائة سنة من الآن في صورة أخرى. وما كان يجب أن ننظر إلى الأساطير بمعيار الصدق والكذب، هذا معيار لا يصلح لفحص الأساطير فعندما أفحص أهم حكايات (ألف ليلة وليلة) التي طبقت شهرتها العالم. أنا كمؤرخ لا يهمني البنية القصصية ومدى واقعيتها، يهمني بالدرجة الأولى دلالة القصة الفنية والتاريخية، وأنا أتلمس بين سطور القصة خيوطاً تاريخية قد تفسر لي شيئاً من تاريخ الفترة أو الفترات العالقة. ومثل هذا يقال عن (كليلة ودمنة) لابن المقفع، وسرديات (كليلة ودمنة) تأتي على لسان الطير والحيوان. فأنا لا أنظر إليها على أنها قصص خرافية وأقف. أنظر إلى المدلول السياسي وراء القصة، ووراء الحبكة الدرامية. ثم أنظر هل هي تحكي عصر ابن المقفع عن الحياة السياسية والاجتماعية، أم أن ابن المقفع نقلها كما هي من (بيدبا) وبالتالي فهي تحكي عن مجتمع بعيد عن العصر العباسي. ومع هذا تظل (كليلة ودمنة) تعبر بشيء من الصدق عن درجة الاحتقان السياسي الذي عاصره ابن المقفع. وهناك من يجادل بأن حديث الطير والحيوان هو حديث من الواقع. ففي القرآن ما يشير صراحة إلى أن للطير لغة. والعلم الحديث أثبت أن النبات يتكلم.
ولعلي اهتبل هذه الفرصة وأدعو جيل الشباب للاهتمام بالأساطير المحلية وتسجيلها. لدينا مخزون أسطوري كبير أخشى أن يضيع في خضم آلة المدنية المادية. لقد سجل عبدالكريم الجهيمان شيئاً من أساطير وسباحي الجزيرة، ولكن بقي الكثير الذي يستحق التدوين والحفظ.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved