الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
قامة تتلعثم
عيد الحجيلي
96 صفحة من القطع المتوسط

*سعد البواردي:
أدبيات الشعر لها مساحة الرؤية الواسعة.. كمساحة الجسد.. عيون وأنف وشعر وقامة وجيد وخصر.. وساقان.. وأشياء أخرى.. يرسمها الشاعر بشعره مأخوذ بهذا ومفتون بذاك.. ناهيك عن الحب نفسه المدثر والمتعثر الدافئ والحار والبارد القابل والرافض.. شاعرنا اختار قامة متلعثمة.. كيف جاءت رؤيته لجسد متلعثم استعار من اللسان خطابه وتلعثمه؟
هل الهذيان الذي أوحى بعدم اكتماله أفضى الى اختلاط العبارات.. وبالتالي تلعثمها:
منذ عشرين عاما أضاجع جوعي
على مسمع القطة الرمزية
كل مساء.. أسير على هامة العطش.. الكهل كل صباح
ولم تنبت الأرض عشبها
وما التفتت لطين الحفى غيمة هاربة
ضبابية في الصورة لم تظهر ملامحها بعد:
الرياح التي أُجهضت، والعيون التي طُمست
والقلوب التي صُوحت. والحروف التي دُفنت نصف أصواتها
كلها تنم عن عاصفة أسلمت المنطق إلى عجز تداخلت حروفه فما يقوى على استنطاقها..
والذين اكتووا بأهازيج أسلافهم
فاحتموا بأناشيد أطفالهم
ورأوا شعرا طاعنا في النعاس
يرتل للبيد أوراده الذاهلة
كل شيء من هذا يرنق زنبقة القلب تحت عباءة هذا الخواء.. عينا شاعرنا زائغتان.. وسبعون أذنا..لا اثنتين. وعائلة من حروف النداء.. لا شيء أكثر من هذيان لن يكتمل لأنه أراد له أن يكون ناقصاً دون نقيصة..
ومن هذيان إلى بهو صمته يأخذنا معه:
زنبقي في مهمه الظن السرابا
وتهادي في مدى الجمر حبابا
رتلي الفتنة. شغلي لهفتي
حرري نعناع كفيكِ المذابا
لكِ شدوي. ان تفجرتِ لظى
ناغم الايقاع، يغتص الحجابا
طال دربي، والتواءات ثدي
تنحر الخطوات تستعدي الذئابا
ان رحلت والمدى اسئلة
فاقرئي للصمت من نبضي الجوابا
ليست في حاجة إلى صمت شاعرنا.. من صوته قرأت الرسالة التي لا تحتاج إلى تعليق.
مع قصيدته العنوان (قامة تتلعثم) خطاب يحاول به ان ينطقها.. يسائلها لأكثر من مرة (وفيم التردد؟)
إني اصفيتك ايقونة صنعتها من نبيذ الجنون
وجمر الرحيق المصفد
وها أنني في الهزيع الأخير من الصمت
الفح في صحو عينيك جمر المرائي
وغاشية من كمد
ويطالبها ان تكون لمداه المر عصفورة مرة . نهرا من ضوء يزيل الزبد الغاشي على صفحة الماء الراكد.. لم تجب!
ومن محيط القامة إلى ساحة المرفأ القرمزي..
صهيلاً.. توغلت في القافيات العذارى
سفير التجلي
تبدد خوف الحروف العليلة
تسربت بالطيف. والحدس. والامنيات الهزيلة..
وأيضاً احتمي طيف حبه وراء جسور تمد خيالها العتيق نحو الأفق كي لا يمكن لغريب اختراقها.. انه وحده يغني خارج السرب.. كل الأصوات له وحده. وكل الأصداء رجع أصواته.. انها منه.. بل انه منها.. كل ما اشهده هو ذلك المشهد الذي يطالب خيالها فيه بالتمهل:
مهلاً.. فمن أي فج تهب القلوع؟
وهذي دروبك تجتث غيله
رويدك يا حادي العشق فالفأل عزف
وفي البيد يوأد ضوء القمر
لكِ الله ذاك سنمار يرسم في مقلتيك سؤالاً كبيراً
أيا صاح؟ أين الطريق إلى المرفأ القرمداي؟ واين المفر؟
يبدو ان سنمار بنى لها قصرا عاجيا لا تطاله الأقدام الحافية حتى ولو كانت في أحسن عافية.. إشكالية شاعرنا أن خياله الضارب في متاهات حبه لا يخترق الفواصل.. ولا الأبعاد التي تقربه وجها لوجه مع ليلاه.. حب من طرف واحد.. وطائر الحب لا يحلق دون جناحين..
(خارطة) لعل عليها ملامح دربه الموصلة إلى صومعة حبه.. أخشى ألا تكون..
مهج الجبال تهشمت
لغة السهول تهدجت..
غرقت بأودية الذبول
طوفان تسونامي آخر مسح الخريطة.. خلط فيها ما بين الجبل والسهل.. ضاعت فيها المعالم والحدود.. احتار هو.. واحتارت هي دون مقدمات او تقديم يشعر بوجودها معه.. اللهم إذا كان التخاطب بواسطة الهاتف او الفاكس..
ومضت تسائلني عن الرعد المسجى في تجاديف المفتن
عن جذوة البرق الموشى بابتهالات الصهيل
هل جالد الريح الوجومُ فغاص في بحر الرماد؟
أم أنه استرخى. وطار على جناح غمامة ومتى؟
وقد زأر الزمن
يا عزيزي لو سألت رجلا يملك فك الحروف لاستعصى عليه الجواب.. وإذا كنتُ بالنهاية اغلقت عليها باب شعرك واشعرتها أنها ضيعت في الصيف اللبن فنحن يا عزيزتي لم نضيع لبن صيفنا.. ما أضعناه معك وأنتَ الجميل في عباراتك وسردك وطرحك لأفكارك هو أن باب الفهم لدينا مُغلق.. نحتاج معك وبك إلى نافذة مفتوحة نملي من خلالها مكنوناتك الشعرية الجميلة بطرح أوضح لا يستعصي على فهم المتذوق لكل شعر معبر..
لن.. (قحط). (خريف). محطات ثلاث اختصرنا معاً من خلالها الدرب.. وقفتنا مع (الفارس المنتظر)
رسمتْهُ بذوي الرؤى فارسا يمخر الصمت
يصطحب الخصب في ساعديه
يحب جذور الغيابة.. يعتم ضوءا. ورع
ماذا بعد أن شاخ في دمها الوقت؟! واعتمرت علقم النقع؟ وامتثلت لفحيح القروح؟ ونفّت سمتها؟ لقد دثرته بناشئة الويل.. آوت إلى جبل من دخان.. ونمت.. فإذا الأفق ساج.. وثم جواد ذبيح!! أصدقك يا عزيزي لم أفهم شيئاً عن حداثة الحداثة! وددت لو أن فهمي ساعدني على موقف أُحرجت فيه مع مضامين شعرك الغامضة.. ولكن ماذا بيدي وأنا أحد الذين يؤمنون بالواقعية لا الخيال المغلق الذي يستعصي على فهم القارئ العادي.. الشعر ملك شاعره قبل أن يُطرح.. وبعد أن يطرح يصبح ملك غيره ولهذا.. وددت وأنت المتمكن في لغتك الشعرية أن يأتي طبقك شهياً يهضمه جهاز المتلقي محتوى.. ودلالة..
(صحوة) قرأتها.. قرأت خطابك لصاحبك مشيراً إليه ان الدم المتخثر في ظاهر الوجه ص.ب.ح.ا ليس دمه.. دائما دم من رسم الدرب والخبز لك.
من هذا اللغز توقف قطار الرحلة أمام محطة عنوانها (هو)
حينما صفق لي من بين اثواب أبي
أعشب القلب. ورف النجم في عيني الندية
غردت في جبهتي أشجار جدي. وحكايات شجية
ألا تعتقد يا صديقي أن (الأطيار) أنسب من الأشجار لأنها هي التي تغرد؟
أشعلت ليلى قناديل الندى. مسحت رأسي
سقتني من حليب المكر أنغاماً طرية!
شاعرنا الحجيلي ضاقت به الثياب، غرق العشب بحلقه كا لو كان محيطا. جف قنديله. توارت جبهته.. تقاذفته الريح في بطن السهوب الحجرية.. قصيدة تفصح عن نفسها دون مترجم.. ودون طلاسم هكذا أريد شعراً مقروءا.. وأنت القادر على طرحه وقد طرحته..
(هكذا) قصيدة استعصت عليّ قراءتها وحروفها المنثورة اتجاوزها في حب.. وتعب.. ومع (هباء) نقرأ معا
لا ضوء في القمر المسجى في تضاعيف السماء ولا بهاء
لا صوت في الصوت الخجول المرتدي أسمال قافية
مقيدة يشيعها الغباء..
وأيضاً يا شاعرنا تلك القافلة التي يشيعها الغموض.. غموض اللا معقول.. (أرض) عنوان يغرينا التوقف عنده لعلّ. وعسى.
شرفت جمر الكآبة
ولعاب الشمس يعوي بين كفيها
وما ثم سحابة
لعاب الريح يا صديقي أقرب الى العواء وإلى السحاب من الشمس.. أليس كذلك؟!
فاستوت جرحا سويا
غيض في جوف الرتابة
وسؤالا عند ميّا
بات خفا للإجابة
القصيدة موحية بفكرتها.. مرضية بأسلوب طرحها.. من أخطر قصائده.. ومن أروعها هذا البيت الواحد دون ثان عن الشاعر
بعدما شربت عمره الكلمات
قيل (مات)
شطران لا يفتقران إلى إضافة لجودتهما.. الشاعر مشاعر ينتهي بنهاية مشاعره لأنها بمثابة عمره.. (اضحكوا) اشبه بنشيد يوجهه الى الصغار كدرس حياة:
اضحكوا.. وامرحوا قبل ان تتكور هذه الدروب الطليقة
في هوة ماكرة.. اضحكوا. اضحكوا. اضحكوا..
فقد ترتدون على ريش احلامكم جبة الذاكرة
درس بليغ يقرؤه الكبار قبل الصغار.. وكما كتب عن الشاعر انصف الشاعرة واعطى لها نفس الحق.. بنفس الصدق والوضوح:
بعد هدأة مرآتها. ولهاث الرؤى الصاخبة
ترقب العمر يسقط.. قافية.. قافية..
اختار الظل هذه المرة لعله يتقي به من وهج هجير القائلة:
ظلي يطوف بقرية فقدت بكارتها
يضاجع نخلها (الجدري)
والغربان تعبث بالخرائط والجهات
يتناسل النمل المجنح في مخابئها
يلوك نباتها. ويسد أفواه الرياح الممطرات
ظلي يهيم وراء جيش النمل
يزحف شامخا. ويعود مبتسما وفي فمه فتات..
هذه المرة لم يكن في فمنا فتات.. وإنما وجبة شعرية راقية ترسم صورة للقرية التي تطعم من ترابها وبقايا خرابها..
(مدى) اغنية وطن.. اسمه الحب:
وجهها وطن باذخ. غيمة ناعمة
وأنا اتأبط خيمة قلبي
وأُرتق فجوات منفاي بالصمت والأغنيات
لا شيء بعد هذا غير رياح السواقي. وهمهة السابلة
كيف لي أن أمدّ جسور دمي
والمدى هوة باردة؟!
أدفئ يا شاعرنا دمك داخل خيمة قلبه الى ان يمد المدى هوته الدافئة حينها يسهل مدّ الجسور من خيال شعرك.. أما الدم فيبتلعه التراب..
(مسافة) معقولة.. وصائبة..
بين باب القصيد ونافذة الحلم
تمتد مقبرة الشعراء..
أحيانا يُفتح لهم الباب والنافذة. واحيانا الباب دون نافذة. واحيانا النافذة دون باب.. واحيانا مغلقتان او مفتوحتان المقبرة بمساحة الحلم..
(موازنة) ليست موازنة ميزانية.. انها موازنة عينين قاتلتين لا تنصرفان: او لا يتصرفان بين عين وأخرى عين عابثة بسحرها وأخرى عابثة بثراها:
عيناها نافذتا سبق مغرور
عيناه تعيشان في الأرض حزنا
كقبرين في طلل مهجور..
(موقف) السؤال لا يحتمل الإجابة:
كيف لي أن اسمعك؟
بيننا يا صاح أخدود ضبابي
وأطياف شرك..
استخدم الأقمار الصناعية.. والهواتف المرئية.. ربما تبدد سائر الضباب.. وتقرب بين صوتي الأحباب..
(تأويل) والأحلام تحتاج إلى تأويل.. وإلى مفسر يقرب ملامح صورها.. ما لم تكن أضغاث أحلام!
كلما ضحكت خيمة مُرجاه
أطفأ البرق في فمها العذب سيجارة مغرمة!
غيمة تلك؟! أم مطفأة؟!
شاعرنا يعرفها أكثر.. فهي غيمة حلمه.. ومطفأة غيمته.. أما أنا فلست بتفسير الأحلام بعالم!
أخيراً.. وقد استغرقت مع شاعرنا المطبوع جُلّ قصائده وهو فارس رحلتنا دون شك.. أتناول مقطوعته الأخيرة في ديوانه (قامة تتلعثم) وعنوانها (فارس).
قالوا: قدمت مدججاً بالورق
تدار والقمح في رحم الفلاة
وطفقت تجتث الصوى
مترنما.. ورسمت خارطة الجباه
ونضوت صوتك في مهب الضوء
ثم عرست في اعقابه تصل الحياة!
فارس حرب. لا فارس حب.. في عالمنا المعاصر منه الكثيرون..
وبعد: أقول لصديقي الشاعر عيد الحجيلي.. أبدا لا تنقصك القدرة ولا الموهبة الشعرية.. الكثير من شعرك غني وثر بصوره الجمالية.. والقليل القليل طرحته مُغلقا لا مفاتيح له.. اطرحه جانباً انه لا يُضيف. ولا يستضيف.. هذا حقك عليّ.. وواجبي نحوك.. وشكراً.


الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved