الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th February,2006 العدد : 139

الأثنين 7 ,محرم 1427

روح ثائرة.. تبحث عن الحقيقة
*أمل زاهد
كان نيتشة عاشقاً للحقيقة، متيماً ومغرماً بها، يسافر وراءها إلى مسافات بلا حدود، وإلى سماوات بلا مدى، وينطلق لاهثاً يلاحقها، ليقبض عليها فتتملص من بين يديه، ليعود ثانيةً محاولاً إيقاد شمعة عله يجدها.. بين دياجير ظلمات اطبقت على روحه التي يسكنها القلق ويعربد فيها الظمأ والعطش إلى محبوبته: الحقيقة.
فقد قال: (لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده، بل عليه أن يترصد أخلاقه، ويقف موقف المشكك فيها، لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراةً لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولوكان ذلك مخالفاً لعقيدته، فإذا اعترضته فكرة ناقضت مبدأه، وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها) ولقد كان هذا الفيلسوف الفذ مخلصاً أيما إخلاص في بحثه عن الحقيقة، فلم يكن يركن إلى فكرة، حتى يعود ويضرم النار فيها، لينتقل إلى فكرة أخرى يلمح في أحداقها ضوءا يرى فيه الحقيقة، ويستشف منه الصدق.
قلب نيتشه رداء الفلسفة الجامد، وكساها ثوباً قشيباً من الروح الشعرية، وحولها من جسد باهت إلى روح تتألق، وتجلت عبقريته في شلالات ذهبية من حكم تغنى بها زرادشت، حكماً تأرجحت مابين قمة العبقرية وسفح الجنون، حكماً متدفقة جارية لا يوقفها سد ولا يقف في وجهها حاجز.
ويقال إن نيتشه كتب زرادشت في حالة من الإلهام والتجلي، ويؤكد لنا هذه النظرة، أن كل فصل من فصول زرادشت الأربعة استغرقت كتابته عشرة أيام فقط. ويرى الكثير أن قوة وتميز فلسفة نيتشة ليس في صحة مبادئها ومدى صدقها وإمكانية تنفيذها على أرض الواقع، بل في الروح الشعرية التي اكتست بها، وفي عبقريته الجياشة في المشاعر والأحاسيس والأخيلة، وعلى قدرته البيانية الخارقة. ومن الذين تبنوا هذا الرأي ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال. انطلق نيتشة يقوض بنيان كل ما يجده أمامه، يزلزل الثوابت ويهشم القناعات، ويشكك في الموروثات. انطلق كالبركان الثائر يفتح العيون وينزع الأقنعة ويكسر الجمود. فشن حرباً شعواء على الدين، ورأى أنه سبباً من أسباب التخلف والانحطاط، فالأديان بنظره ليست إلا امتداداً للتفسير البدائي، والذي كان يرجع كل شيء إلى السحر والخرافة. فلم ير نيتشة إلها إلا الإنسان، ولم ير عبادة إلا عبادة الأرض، وانطلق يحلم بالإنسان السوبرمان، ويغني أنشودته، الإنسان القادر على صنع قدره وتاريخه، وتسطير حروفه.
فطلب التفوق في كل شيء، في الصحة والجسد، ونادى بقتل المعتلين والمرضى، ومقت الضعف والضعفاء واعتبر أن كل ضعف أوما يؤدي إلى الضعف شر، وأن كل قوة أوما يساعد في تحصيل القوة خير.
وقسم الأخلاق إلى أخلاق سادة وعبيد، ورأى أن في العطف على الفقراء والمساكين حافزاً لهم إلى الركون إلى حالهم، واستكبر على الدهماء فمقت الديموقراطية. ولكن نيتشة غفل أوتغافل عن حقيقة أن الإنسان كائن يسكنه الضعف، وانه مهما وصل إليه من قوة فهو معرض للضعف والمرض والذبول والموت والفناء.
ونظريته في العود الأبدي والتي يرى أنها تشمل كافة المنطلقات التي افتقرت لها العقائد الشائعة، لم تقدم لنا بديلاً عن الدين أوحلولاً لرغبة الإنسان الدائمة والمستمرة في الخلود. وهل كان ضعف نيتشة الجسدي وابتلاؤه بالأمراض والعلل، هو الحافز والدافع له لتبني نظرية الإنسان القوي؟ هل كان رغبة منه في الخروج من ضعفه؟ وثورةً على نفسه؟ وأليس في فلسفته ما يدعوه للتخلص من نفسه والقضاء عليها؟ وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل جن نيتشة بإرادته؟ ثم مات بإرادته؟ بعد أن رفض نفسه وحاول أن يخرج من الثوب الذي أُلبسه ووجد نفسه مكبلاً داخله؟ كبر حلم نيتشة بالإنسان الخارق، كبر حتى أصبح مارداً جباراً يكتسح كل شيء يقف بوجهه، وانطلق مبرراً لكل ما يقف في وجه تحقيق حلمه، فكل شيء جائز في سبيل الوصول إلى السوبرمان حتى الحروب (أحبوا السلم، ولكن كوسيلة إلى حروب جديدة، وأحبوه قصيراً أكثر منه طويلاً) (تقولون إن الغاية الجيدة تبرر حتى الحرب، أما أنا فأقول لكم إن الحرب الجيدة تبرر كل غاية وتقدسها) وهذه الأقوال دفعت الكثيرين إلى اتهام تعاليم نيتشه، وفلسفة القوة التي تبناها، بأنها كانت السبب في إشعال وإضرام نيران الحربين العالمتين، وبغض النظر عن صحة هذه الآراء أوعدم صحتها، فبدون شك أن فلسفة نيتشة مجدت القوة ودعت إليها بكل الطرق والسبل.
ويرى كاتب مقدمة زرادشت أنه بالرغم من أن نيتشة تفاخر وتباهى بإلحاده، فقد كان إلحاده أقرب إلى الإيمان، وكان كفره ينطوي على اليقين بأبدية يتيم نيتشة بحبها ويغني بها ولها: (أواه كيف لا احن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصح الانتهاء ابتداء. إنني لم أجد حتى اليوم امرأةً أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها، لأنني أحبك أيتها الأبدية) في رأيي أن إلحاد نيتشة انبثق وتفتق من الإيمان.. الإيمان بالأبدية والخلود، وربما كان رغبة في الوصول إلى الحقيقة.
الحقيقة التي كانت ترواغه، فتختبئ منه كل ما حاول الوصول إليها، فعشقه وتبتله في محراب الحقيقة، دفعه إلى إنكار وجود الله، الذي يخفي هذه الحقيقة عن مخلوقاته. ومع اختلافنا مع فلسفة نيتشة وإيماننا بمجانبته للصواب في كثير مما تبناه من آراء، يبقى واحداً من أهم الفلاسفة اللذين ترتفع فوق رؤوسهم مئات العلامات من الاستفهام، ومئات الأسئلة المثيرة للجدل.. ولولا رجال كنيتشة زلزلوا الثوابت، وهدموا صوامع الأكاذيب، لما تغير وجه الدنيا.. ولما تحول مسار التاريخ.


Amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved