الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th February,2006 العدد : 139

الأثنين 7 ,محرم 1427

العولمة.. بين الموضوعية والإيديولوجيا

*د. أحمد برقاوي
صار مفهوم العولمة اليوم أحد أكثر المفاهيم تداولاً في علم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم السياسة والفلسفة وعلم الحضارة.. إلخ بحيث لم يعد أحد من المنشغلين بالمعرفة الإنسانية يتجاهل هذا المفهوم. وليس في الأمر ما يدهش، فدلالة المفهوم اتسعت لتشمل كل جوانب الحياة الإنسانية المادية منها والروحية. وبارتباط بهذا المفهوم نشأت مفاهيم أخرى: القرية الكونية، الوعي الكوني، النظام العالمي الجديد إلخ.
وكأي واقعة تاريخية فإن هذه الواقعة التي هي العولمة قد قسمت البشر بين مؤيد ورافض وصارت ذات حمولات علمية وأيديولوجية على حد سواء.
ولست الآن في وراء عرض الآراء المتنوعة حول العولمة حسبي أن أركز اهتمامي حول فض هذا المفهوم. نعتقد أن العولمة ثمرة تاريخ طويل من سيرورة الرأسمالية التي هي في أهم ملامحها توحيد العالم، وقد أشار ماركس منذ القرن التاسع عشر إلى هذه الطبيعة التوحيدية للرأسمالية.
والحق أن توحيد العالم رأسمالياً قد تم بأشكال متعددة، تعينت بتطور الرأسمالية عالمياً. فإذا كانت الرأسمالية الوليدة قد أنجزت الوحدة القومية (الأمة). فإن الإمبريالية توسع الرأسمالية خارج حدودها وقد حاولت توحيد العالم عبر السلطة والقوة العسكرية والاستعمار، مع بقاء الدولة القومية فاعلاً بوصفها دولة استعمارية. وسيشهد العالم صراعاً بين الدول الإمبريالية نفسها والحروب العالمية الأولى والثانية وبين الدولة الإمبريالية والشعوب المستعمرة.
تأتي العولمة اليوم كتعين خاص للرأسمالية كمتحكمة بمصير العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. إنها إمبريالية جديدة وليست تشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة، وبالتالي لا نجد هذا القطع التاريخي الذي تم عبر الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، بل استمرار في الرأسمالية عبر تحولات داخل الرأسمالية العالمية.
فالعلم ما زال منذ نشوء الرأسمالية يقوم بدور القوة المنتجة، والرأسمال المصرفي ما زال مندمجاً بالرأسمال الصناعي الاحتكاري، وما زال العالم موضوع سيطرة، وما زال التأثير الثقافي حاسماً من قبل المركز على الأطراف بل وما زالت القوة العسكرية وسيلة للسيطرة على العالم. كالحرب العدوانية الأمريكية على العراق.
غير أن العولمة بما هي إمبريالية جديدة تتميز بالاستقلال النسبي للشركات المتعددة الجنسيات عن الدولة القومية، بل وتحولت الدولة إلى قوة مساندة لهذه الشركات عالمية إنتاج السلعة خارج حدود الدولة القومية، ثم ثورة المعلومات والاتصالات ومظهرها والمحطات الفضائية، مما زاد من التأثير الثقافي العولمي يضاف إلى ذلك وجود مؤسسات عالمية غير متعلقة بدولة واحدة.
وكما أنتجت الرأسمالية الإمبريالية حركة مناهضة على مستوى العالم - الطبقة العالمة - وشعوب العالم الثالث، تنجح الآن العولمة حركة عولمية مناهضة على مستوى العالم أيضاً.
هذه هي العولمة كواقع موضوعي، لكن العولمة كواقع موضوعي أنتجت بدورها قيلاً أيديولوجياً، تماماً كما أنتجت الإمبريالية بدورها القيل الأيديولوجي.
نقصد بالقيل الأيديولوجي التبرير الأيديولوجي لهذه الظاهرة والدفاع عنها لنفي الطبيعة التوحشية للرأسمالية المتعولمة.
العولمة أيديولوجياً هي جملة أفكار حول الدولة والأمة والإنسان والهوية والثقافة.
أول فكرة أيديولوجية عولمية هي انحسار دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. تستند هذه الدعوة الأيديولوجية إلى عالمية الشركات ورأس المال التي لم تعتد بالدولة، بل إن الدولة صارت عقبة أمام توسع فاعلية الشركات ورأس المال. يجري الحديث هنا عن الدولة بعامة بما فيها الدولة في العالم الثالث التي لم تعد قادرة على الوقوف في وجه السيل الجارف والعارم للاقتصاد العولمي.
لا شك أن الثورة الاقتصادية والسلعية والرأسمالية هي قوة مهيمنة على مستوى العالم. ولكن هل كفت الدولة المتعولمة عن أن تكون فاعلة في هذه؟.
لنأخذ أكبر دولة في عصر العولمة وهي أمريكا.
فالحرب على العراق هو قرار دولة أمريكية ودولة بريطانية، والجيوش التي زحفت على بغداد هي جيوش دول وتمويل هذه الحرب هو تمويل دولة والأهداف وراء هذه الحرب هي أهداف دولة، وبالتالي باستطاعتنا القول أن الدولة الأمريكية هي دولة استعمارية تقليدية بامتياز.
وهذا يعني أن العولمة لم تأت على الذهنية الاستعمارية للدولة الرأسمالية المتعولمة.
وإذا ما تعلق الأمر بالدولة في العالم الثالث فإن الادعاء بزوال الدولة أو بضعفها إنما يعني ضرورة غياب الدولة الوطنية الحامية للاقتصاد الوطني وإزالة العقبة أمام توسع السوق الرأسمالية، بل وتسعى العولمة بما هي رأسمالية دول مهيمنة إلى تحول السلطة في العالم الثالث إلى خادمة أمنية السوق الرأسمالية.
وبارتباط بمفهوم ضعف الدولة أو زوالها في ظل العولمة تطرح فكرة زوال الحدود القومية في مقابل تكوين القرية الكونية حيث يطرح قيل مفاده أن ازدياد وسائل الاتصال وبتبادل المعلومات وحرية الانتقال المزعومة كل هذا يأذن بولادة إنسان جديد يأخذ ملامحه من عصر جديد وينتمي إلى لغة عالمية هي لغة العالم وبالتالي يغدو الانتماء إلى القرية الكونية أقوى من الانتماء إلى الأمة أو القومية.
يتناسى أصحاب هذا القيل أن العولمة كواقع موضوعي لحركة رأسمالية، والتي هي حركة توحيد العالم انطلاقاً من هيمنة العلاقات الرأسمالية عالمياً لا تفضي بالضرورة إلى زوال الانتماء القومي ولا نفضي أصلاً إلى ذلك.
فالظاهرة الاستعمارية ظاهرة عولمية لم تستطع إلغاء الهوية بل على الضد من ذلك ففي مواجه الهيمنة الاستعمارية للمنطقة العربية وللعالم الثالث عموماً قد نما الشعور بالهوية والانتماء.
والعولمة برأينا هي وليدة الأمم القومية الإمبريالية وما زالت أثراً من آثارها، فلماذا علينا أن نكف عن الدعوة إلى دولة قومية تحقق عملية الدخول في العولمة ؟ أليس من المنطقي أن نوجد السوق القومية أولاً ليصير بمقدورنا أن نستفيد من إنجازات التقدم الرأسمالي العولمي؟.
فالعولمة تشهد ظهور تجمعات إقليمية وتشهد تسارعاً في تحقيق الوحدة الأوربية، فلماذا يعاب على العرب على هذا النزوع باسم العولمة وزوال الدولة القومية، فإذا كانت العولمة تزيد من عملية التواصل بين الأمم، والتبادل الحر للمعلومات وإزالة الحدود بين القوميات والأمم، فأولى بها أن تخلق الميل لدى العرب لزيادة التواصل وإلغاء الحدود التي رسمها الاستعمار التقليدي في المنطقة. بل إن العولمة بما هي عملية توسع اقتصادي للمراكز الإمبريالية المتعولمة وبما هي علاقات تنافس ما زالت تسم اقتصاديات السوق الرأسمالية فأولى بها أن تخلف لدى العرب وعياً بإنشاء تكتل اقتصادي قادر على مواجهة التكتلات الاقتصادية العالمية.
لقد أنتشر القيل الأيديولوجي حول العولمة في أواسط هي بالأساس البون الأيديولوجي للتجزئة، بدعوى أن العولمة بما هي نفي للأمة - الدولة - قد جعلت من النزعة القومية العربية زياً قديماً قي الوقت الذي يجب أن تفرز العولمة زوال التجزئة. إذاً أولى بمن يدعو إلى توحيد العالم أن يدعو أولاً إلى توحيد من يحوز على المشترك للغوي والتاريخي والاقتصادي. وأبرز توظيف أيديولوجي لمفهوم العولمة هو ذلك القول بأن العولمة واقع موضوعي، سيرورة موضوعية لا يمكن الإفلات من سيرورتها.
أن تكون العولمة ظاهرة موضوعية بما هي مرحلة عليا من انتصار الرأسمالية فهذا مما لا شك فيه. ولكن من قال إن البشر يجب أن يقفوا من الظواهر الموضوعية موقف المذعن لها، والقابل بها والراضخ إليها، فالإمبريالية هي الأخرى موضوعية، والاستعمار الذي تولد من الظاهرة الإمبريالية هو الآخر ظاهرة موضوعية ولكن الإمبريالية بصفتها الاستعمارية قد أنتجت حركات التحرر من هذا الواقع الموضوعي، أنتجت كفاحاً عالمياً ضد شرور الإمبريالية فلماذا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي أمام شرور الرأسمالية المتعولمة ؟
ففي الغرب نفسه نشهد حركة مناهضة للعولمة فلماذا، الإشادة بهذه الحركة الأوربية المناهضة للعولمة والنيل من شعوب مكوية بنار العولمة إذا ما رفعت صوتها ضد شرورها؟
بقي علينا أن نقف عند فكرة النظام العالمي الجديد كصورة من صور العولمة، إنه عالم جديد حقاً بالقياس إلى التقسيم العالمي القديم سنوات الحرب الباردة، لكن عودة إلى نظام عالمي قديم ما قبل أكتوبر 1917 . القديم فيه أن المراكز الإمبريالية المتعولمة قد أصبحت في حلبة الصراع على الهيمنة وحدها، وعلى رأسها المركز الإمبريالي الأمريكي. فالعالم الثالث كله صار موضوع صراع جديد على الهيمنة والاستغلال تبرز فيه القوة الأمريكية كفاعل شبه وحيد لكنه يواجه عملياً قوى إمبريالية هي في طور الفاعلية، وحرب العراق شاهد على ذلك. فإذا كان الصراع قد ظهر قديماً بين المركزين الإمبرياليين الكبيرين الفرنسي والبريطاني على اقتسام العالم هازماً المركز الألماني، فإن الصراع اليوم على الهيمنة بين أوروبا الساعية لاستعادة حضورها العالمي نحو السيطرة وأمريكا المسيطرة، هذا هو العالم الجديد.
والقول بأن العالم الجديد هو عالم ما بعد الحداثة بالقياس إلى عالم الحداثة لا يمتلك قوة البرهان.
فالاستعمار التقليدي الذي استخدم القوة العسكرية هو ابن الحداثة الأوروبية والاستعمار الأمريكي هو الآخر يستخدم القوة العسكرية وإذا كانت الحداثة بروز قوة التقنية كوسيلة سيطرة فالتقنية ما زالت قوة سيطرة.
وبالتالي: إن القوى المناهضة للعالم الجديد هي مناهضة لعودة العالم القديم وليست مناهضة لعالم جديد، بل إنها في وقوفها ضد العالم القديم تسعى لتأسيس عالم جديد.
إننا أمام تاريخ موصول لم يشهد حتى اليوم قطيعة مع عالم الهيمنة والسيطرة الأوروبية - الأمريكية على العالم.
ما الفرق بين الرعاية الأوروبية لقيام الكيان العنصري الصهيوني الاستعماري الإجلائي في فلسطين ودعمه، والرعاية الأمريكية لهذا الكيان ودعمه؟
ولأن لا فرق بينهما فليس هناك فرق بين القسّام وإسماعيل أبو شنب.


رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved