الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

إطلالة على أحدث مجموعات الشاعر الكبير محمود درويش
د.عبد العزيز المقالح *

-1-
محمود درويش شاعر لا يتردد الناقد من أن يضع اسمه مقروناً بصفة الكبير، فهو واحد من الشعراء الكبار حقاً، هؤلاء الذين أكسبوا القصيدة الجديدة (قصيدة التفعيلة) شرعية تجعل من المستحيل على الزمن مهما طال أن يتجاهلها أو يتنكر لما حققته في حقل الإبداع الحديث من جمالية التشكل واستنهاض الغافي والمسكوت عنه من خلال مفارقات المعاني وظلال الإيقاع.
اشتهر محمود درويش على مدى عقدين من الزمن أو أكثر قليلاً بالقصائد الطويلة التي تتألف من كم لا محدود من الموجات الشعورية والوجدانية تحمل القارئ إلى عوالم وفضاءات لم يكن يحلم بالوصول إليها -شعرياً- أو حتى الاقتراب من تخومها المشبعة بفيوض من المعاني الشفافة المترعة بأنواع من الأحاسيس والدلالات المتناغمة، ساعده في بناء هذه المطولات خيال باذخ ولغة مطاوعة وسردية درامية وقدرة على توليد الصور الرائعة التي تؤكد قدرة الشعر على الصياغة الملحمية دون أن يفقد التعبير توازنه الشعري وحيويته أما في مجموعته الأخيرة (كزهر اللوز أو أبعد) فقد عاد إلى كتابة القصائد القصيرة (تضم المجموعة الجديدة أربعاً وثلاثين قصيدة، وليس أربعاً أو ستاً، كما ذهب إلى ذلك زميل من نقادنا الشبان في حوار ساخن جرى منذ أيام حول هذه المجموعة).
مع محمود درويش نستعيد الثقة بالشعر المعاصر الذي ظن البعض أنه وصل في مسيرته التاريخية مرحلة الاصطدام بالجدار المسدود، كما نستعيد معه متعة القراءة الشعرية، لا لأن قصائده زاخرة بالصور الجميلة والأحاسيس الصادقة وحسب؛ وإنما لأنه يفتح عين القلب كذلك على شعر في أنقى وأصفى مستوياته الإبداعية ويجعل القارئ - وهو في قمة تفاعله ونشوته - يصرخ: هذا هو الشعر: حين تطيل التأملَ في وردةٍ جرحت حائطاً، وتقول لنفسك: لي أملٌ في الشفاء من الرمل
- يخضرُّ قلبك...
حين ترافق أُنثى إلى السيرك ذات نهارٍ جميلٍ كأيقونةٍ... وتحل كضيف على رقصة الخيل
- يحمرُّ قلبك...
حين تعد النجوم وتخطئ بعد الثلاثة عشرَ، وتنعس كالطفل في زرقة الليل
- يبيضُّ قلبك.... حين تسير ولا تجد الحلم يمشي أمامك كالظل
- يصفرُّ قلبك... (ص21)
هذا شعر كالحلم توقظك كلماته المغسولة بالضوء، وكل فقرة من فقراته تشعرك بالارتواء والرغبة في معاودة القراءة والرحيل في عوالمه الواقعية والمتخيلة.
-2-
يتحدثون كثيراً -أعني النقاد- عن القضية الكبرى التي كان محمود درويش وما يزال المعبر الأول عنها، ثم ينسون أنه شاعر، وان الشعر قضيته الأولى التي تعطي للقضية الكبرى كل شيء ولا تأخذ منها سوى القليل شأن دم الفدائي الشهيد الذي يعطي للوطن ولا يأخذ سوى تحية الوداع، وحديث النقاد الطويل حول العلاقة بين شعر محمود درويش وقضيته جعله منذ وقت ليس بالقصير يشعر بما يشبه الغصة أو المرارة من النقاد طبعاً، وربما أدرك في وقت من الأوقات أن قضيته التي هي في حقيقة الأمر قضية كل العرب والمبدعين منهم بخاصة، قد تكون مصدر تحديد لإبداعه وإدراجه ضمن فريق متسع من الشعراء وتكون تهديداً لطموحه الشعري الذي لا تحده حدود ولا تحاصر رؤيته الواسعة مساحة ولا إطار.
وإذا كانت القضية قد امتلكت عقل محمود - وليس في ذلك أدنى شك - فإن الشعر بالمقابل امتلك روحه وسكن وجدانه، وبسببه افتقد متعة الاستقرار الاجتماعي واستسلم لحالة من الحنين الموجع إلى زمن تختفي معه مكامن الأسى، وتجمد معه جذوة الإحساس الطاغي بالفقد، وهذا ما لم يحدث لشاعر آخر في فلسطين أو في بقية الأقطار العربية والعالم.
وربما كانت مجموعته الأخيرة هذه بغنائيتها الشجية وقصائدها القصيرة المستقلة عن بعضها أقدر على جعل القارئ يلمس هذه الحقيقة بوضوح وبساطة وأن يقترب من الهواجس والخلجات التي تشكل أهم المعاني الإنسانية المستحضرة في هذا الحنين الغامض المتوهج: هو، لا غيره من ترجَّل عن نجمةٍ لم تصبه بأي أذى.
قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً ولا صورتي في مخيلة الناس - فلتمتحني الحقيقةُ، قلت له: إن ظهرتَ انكسرتَ، فلا تنكسر، قال لي حزنه.....: إلى أين أذهب؟ قلت إلى نجمةٍ غير مرئيةٍ أو إلى الكهف -قال : يحاصرني واقع لا أجيد قراءته، قلت: دوِّن إذنْ، ذكرياتك عن نجمةٍ بَعُدتْ وغدٍ يتلكأُ، وأسأل خيالك: هل كان يعلم أن طريقك هذا طويلْ؟ (ص31)
-3-
من تحصيل الحاصل القول بأن الشاعر كلما أطال قصائده اتسعت مساحة حرية التعبير لديه، وأن كل شاعر حقيقي يتمتع بمخيلة مفتوحة لا نهائية الرؤى والصور، إلاَّ أن ذلك لا يعني أن حرية الشاعر تصبح محدودة أو مغلقة حينما يكتب القصائد القصيرة التي تمنحه -دون شك- القدرة على التركيز والتكثيف مما يجعل القارئ أكثر قدرة على معايشة التجربة واحتوائها، ونحن في هذه المجموعة الشعرية لمحمود درويش أمام حصيلة رائعة من القصائد القصيرة المحملة بالمعنى الفني والموضوعي، وليس شرطاً أنه كلما كانت القصيدة قصيرة استحوذت على إعجاب القارئ ومنحته المزيد من المتعة العميقة، هناك قصائد طويلة لها التأثير نفسه لكن القصائد القصيرة تتميز بأنها تستحضر التأثير الأسرع.
يضاف إلى ما سبق استقلال قصائد (المجموعة) عن بعضها خلافاً لما أبتنت عليه الأعمال السابقة للشاعر الكبير ذات الموضوع الموحد والبناء المتسلسل: ها هي الكلمات ترفرف في البال - في البال أرضٌ سماوية الاسم تحملها الكلماتُ. ولا يحلم الميتون كثيراً، وإن حلموا لا يصدق أحلامهم أحدٌ... ها هي الكلمات ترفرف في جسدي نحلةً نحلةً... لو كتبت على الأزرق الأزرق اخضرّتِ الأغنيات وعادت إليَّ الحياة وبالكلمات وجدت الطريق إلى الاسم أقصر... لا يفرح الشعراء كثيراً، وإن فرحوا لن يصدقهم أحدٌ... قلت: ما زلت أحيا لأني أرى الكلمات ترفرف في البال - في البال أغنية تتأرجح بين الحضور وبين الغياب، ولا يفتح الباب إلاَّ لكي توصد الباب... أغنية عن حياة الضباب، ولكنها لا تستطيع سوى ما نسيت من الكلمات.
أخيراً، وحده محمود درويش من يحرص على إقامة جسور التواصل الحميم بين القصيدة والمتلقي بالغاً ما بلغ معه تكثيف العبارة وتجريد المعنى.


اليمن

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved