الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

شاعر على حافّة الواقع أو أبعد
د. إيريك غوتيه

تمهيداً، أودّ أن أقول إنني لا أدّعي معرفة شعر محمود درويش معرفة شاملة فلا أقترح في هذه الأسطر القليلة سوى قراءتي لقصيدتين من قصائده لفتتا انتباهي لأسباب مختلفة.
القصيدة الأولى، تحت عنوان (إلى أمي)، تنتمي إلى مجموعة (عاشق من فلسطين) التي صدرت سنة 1966م. حازت القصيدة على شهرة كبيرة والحقيقة أنني اكتشفتُ محمود درويش وأنا أستمع إلى مغنّيها، الفنان اللبناني مارسيل خليفة.
في هذه القصيدة يتذكّر الشاعر أمّه ويحنّ إليها، بل يتوسّل إليها حتى تحتضنه وتمكّنه من أن يتذوّق من جديد أيام طفولته التي مضت وانتهت.
طوال هذه الأبيات يحتفل الشاعر بماضٍ يتلوّن بألوان بلاده ويحمل سماته: خبز أمه وقهوتها وصلاتها والثوب الذي كانت تلبسه ووقود التنّور وحبل الغسيل.. إنها أشياء بسيطة تابعة للحياة اليومية ولكنها أصبحت مهمة بالنسبة له لأنها لم تعد موجودة.
(لأني فقدتُ الوقوف بدون صلاة نهارك) هذان البيتان يبرزان كيف تحوّلت الصلاة التي كانت تؤديها الأم كل صباح إلى شيء أساسي في حياته. فلأنه يشعر وكأنه حُرم من هذه الأشياء، يشتاق إليها وإلى كل ما يذكّره بها. فالطابع اليومي هو الغالب في القصيدة والحياة اليومية هي المعبّر عنها من الأشياء البسيطة المذكورة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الأشياء التي لم تكن شاعرية في طبيعتها أو بالأحرى لم تكن مستخدمة من قبل الشعراء عادة، مثل حبل الغسيل والوقود للتنور، والخيط الذي يلوح في ذيل الثوب إلخ أصبحت شاعرية بعد وقوعها في آلية الذاكرة.
إن هذه القصيدة تمثّل نوعاً من الجواب أو رد فعل لحالة عاطفية طارئة ناتجة عن وضع الشاعر الذي اضطرّ الابتعاد عن عائلته وعن أرضه فليس غريباً أنها أثّرت تأثيراً كبيراً في الجماهير الفلسطينية والعربية التي وجدت فيها صدى لحنينها إلى وطنها. فنظراً لموضوع القصيدة وظروف كتابتها والكلمات والصور المستخدمة مثلاً تنتهي القصيدة بهذه الجملة الإيحائية: (هرمتُ، فردي نجوم الطفولة حتى أشارك صغار العصافيرِ درب الرجوع... لعشّ انتظار)!
من الصعب أن نغُضَّ نظرنا عن خلفيتها السياسية وعن التزاوج الكامن بين الأم الحقيقية، أي الوالدة، والأم المجازية وهي الأرض المفقودة أي فلسطين.
من جهة أخرى أعتقد أن القارئ يجب عليه إلا يقلّل من مغزى هذه القصيدة، ذلك أن الشاعر يعبّر عن شعور خاص وتجربة خاصة، ولكنه يعبّر أيضاً عن تجربة أوسع، تجربة الإنسان الذي انقطع عن ماضيه وابتعد عن مسقط رأسه وأهله ومجتمعه لسبب من الأسباب.. فهذا الإنسان، عندما ينظر إلى ماضيه، يميل إلى أمثلته وتجسيده في بعض المشاهد المقتطفة من الحياة اليومية. فالحلم بالعودة إلى الوطن الذي غاب عنه يتحول تلقائياً إلى البحث عن الفردوس المفقود.
بالرغم من ذلك بقيت هذه القصيدة، بالنسبة لي، مرتبطة بظروف أو بواقع معيّن ولم أستطع أن أتماثل مع الشاعر أو مع شعره وأن أقوم بدوري الفاعل كقارئ يواكب خلاّق النص.
أما القصيدة الثانية التي أردتُ التوقّف عندها فعنوانها (في البيت أجلسُ) وهي مقتبسة من مجموعة محمود درويش الأخيرة (كزهر اللوز أو أبعد) التي صدرت عن دار رياض الريس في أيلول 2005م.
الإطار الزمكاني للقصيدة يوم الأحد في بيت من البيوت، في بلد ما. ثمة شخص يصف مجرى هذا اليوم، يمكن أن يكون أي شخص نظراً لتسلسل المواقف: أنا، نحن، هو، أنتَ، لا أحد، أنا الثاني. على خلاف قصيدة (إلى أمي)، هناك رغبة واضحة من الشاعر في إرساء القصة التي يرويها في الحاضر (نلاحظ الفعل المضارع (أجلسُ) في افتتاح القصيدة وتكرار كلمة (اليوم)) دون أن يربطها بأشخاص محدّدين، بمنطقة من العالم أو بثقافة معينة أو بالأحري يمكننا القول إن كل قارئ يمكنه أن يتماثل مع هذا الشخص الذي يقول في بداية القصيدة (في البيت أجلس، لا حزيناً لا سعيداً...) إن هذا الشخص يظهر لنا على حقيقته في حياته الخاصة. يبدو أنه رجل يعمل أثناء الأسبوع، رجل مشغول بأموره، يستغلّ يوم عطلته الأسبوعية ليرتاح ولكنه لا يقدر أن يعمل شيئاَ إلا الجلوس في البيت وتنحصر نشاطاته في الترتيب السريع للمطبخ وغرفة النوم، والاستماع إلى نشرة الأخبار، والقيلولة، وطهي القهوة في جو أثيري من كسل (خفيف الوزن) فلا يريد حتى أن يقرأ (الصحف المبعثرة)، وأن يتذكّر الأشخاص الذين يعرفهم أو الأحداث التي مضت: (فاليوم عطلتنا عن الذكرى وعطلة كل شيء... إنه يوم الأحد).
وما حديثه عن شعوره بالراحة وباسترداد نفسه، يوم الأحد، بعيداً عن الهموم والمتاعب على أنواعها، إلا لتأكيد شعوره بالتعب والانسحاق خلال الأيام الأخرى حيث إيقاع الحياة الحديثة لا تتيح له أن يهتم بنفسه.
(في البيت أجلس): يوم الأحد يوم الانقطاع عن الخارج وعن مجرى الزمن ويوم الانفراد أيضاً (كلٌّ على حدة).
ثم يقوم الشاعر بإسقاط مشاعره على الناس كلهم وعلى العالم (نشرة الأخبار هادئة، فلا حرب تشن على بلد)، و(إذ يرتاح رب الحرب في يوم الأحد) حتى الحاكم (الأمبراطور) ابتعد عن شؤون الدولة ليصبح (الأمبراطور السعيد الذي يداعب اليوم الكلاب و....) و(الأمبراطور الوحيد اليوم في قيلولة، مثلي ومثلك (....)) ولم يغب عن ذهن القارئ أن مداعبة الكلب، والعاج، والقيلولة ليست إلا صوراً نمطية للسعادة والبحبوحة في آن واحد. فقد تكون الرغبة في الانقطاع عن العالم تشير أيضاً إلى أنانية الإنسان الذي ينسى الدنيا والآخرين ويتقوقع حالماً يعود إلى بيته.
من الانقطاع عن الخارج وعن مجرى الزمن إلى الاحتجاب في اللاوعي واللامحسوس (القيلولة) وفقدان الهوية (لا أنا، أو لا أحد)، (أنا هو أو أنا الثاني)، (ولا أبالي أن علمت أنني حقاً أنا... أو لا أحد) فيأخذنا الشاعر إلى أعماق النفس الإنساني ويجعلنا نطرح لأنفسنا أسئلة فلسفية ووجودية حتى نبحث عن حقيقتنا وحقيقة الأشخاص والأشياء. من أنا؟ هذا السؤال المطروح ضمنياً في هذه الأبيات.
عندما أجد نفسي وحيداً في بيتي، هل أكون الشخص الذي يراه الآخر ويعرفه أو أنا شخص آخر مختلف، أأنا الحقيقي أم الآخر؟ أعتقد أن محمود درويش في هذه القصيدة نجح في وصف واقع الإنسان العصري بكثير من الدقة والصدق حتى ليحار القارئ ويتساءل كيف استطاع التغلغل في حياته الخاصة لاقطاً بعض المشاهد أو التفاصيل التي تجسّد تجسيداً هذا الواقع. كذلك استطاع أن يتجاوز حدود التجربة الخاصة لينتقل إلى نطاق الوضع العام للإنسان ومصيره في عالمنا المعاصر الصاخب والعنيف.
فاختيار يوم الأحد بالنسبة لشاعر فلسطيني ينتمي إلى الثقافة الإسلامية ولو كان علمانياً ليس اعتباطياً وقد يكون إحدى الإشارات التي تدل على أن الشاعر أراد أن يبتعد عن السياق الثقافي الضيّق إلى سياق أوسع وهو الإنسان الخاضع لقالب العولمة.
وفي هذا القالب، أصبح يتمنّى أن يقف ويستريح وليس لديه إلا القليل من الوقت الذي يوفّره له يوم العطلة الأسبوعية. وبعبارة أخرى، افترضنا أن الشاعر اختار يوم الأحد كرمز من الرموز للعطلة أو لوقت الفراغ في زمن العولمة، ولو لم يكن الحال على هذا الشكل في الماضي: (يوم الأحد هو أول الأيام في التوراة، لكن الزمان يغيِّر العادات: إذ يرتاح ربُّ الحرب في يوم الأحد).
في الوقت نفسه، يكشف الشاعر عن الأحاسيس التي تنتاب الإنسان في عالمنا المعاصر نتيجة الخلو من العلاقات الحميمة واللاانتماء إلى عائلة أو مجموعة معيّنة، (كأنني وحدي) يقول الشاعر. عند قراءتنا لهذه الأبيات يظهر لنا كرجل وحيد، عازب، ليس لديه عائلة ولا أقارب ولا أصدقاء ولكن قد لا تكون هذه الوحدة حقيقية بمعنى أنه قد يكون لديه عائلة أو أصدقاء ولكنه، مع ذلك، يشعر بالوحدة وبفراغ عاطفي مكبوت يجعله يبتعد عن الآخرين. علاوة على ذلك، نحس أيضاً كأنه يُفرض عليه نمط عيش فرضاً كما تفرض عليه الحياة ذاتها. عندما قرأتُ هذه القصيدة، شعرتُ بأن هذا الشعر يؤثّر فيّ، وشعرتُ بنوع من الانسجام والألفة مع المواضيع المطروحة وطريقة طرحها. ذلك أن هذه الأبيات لا تخاطب القارئ العربي فحسب بل تخاطب الإنسان على أنواعه كما أنها تمتلك أبعاد فلسفية وروحانية واسعة.
كخاتمة لنحاول مقارنة هاتين القصيدتين، الأولى التي نُشرت في أواخر الستينات والثانية التي صدرت هذه السنة: صحيح أن القصيدتين تستندان على بعض المشاهد المقتبسة من الحياة اليومية ولكنهما مختلفتان تماماً وأعتقد أن هذا الاختلاف يساهم في إدراك التغيّر الذي حدث في إنتاج محمود درويش الشعري.
طبيعي، لا نستطيع أن نحلّل تطوّر هذا الإنتاج الكبير والمتنوّع من خلال قصيدتين قصيرتين ولكنني لاحظتُ وأنا أقرأ القصيدة الثانية (في البيت أجلس) وبعض القصائد الأخرى في نفس الكتاب، وكأن الشاعر لم يعد يركّز فكره على ثنائية الماضي - الحاضر وعلى الواقع الطارئ كما فعل في قصيدته (إلى أمي) وغيرها من القصائد القديمة (الملتزمة)، بل أصبح يبتعد عن هذا الواقع ويبدي اهتماماً أكبر بقضايا فلسفية أعمق متعلقة بحاضر الإنسان وبوضعه في المجتمع الحديث وبمصير الإنسانية.


فرنسا

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved