الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

أكثر بريقاً.. أكثر برقاً
عادل محمود

لم ينتقل محمود درويش من الشخص الأكثر مقاومة إلى الشاعر الأكثر دواماً، من الأكثر وطنية إلى الأكثر شعرية... بل سار الطريق كله، في هدوء إلى الشاعر المستمر. كانت هناك الأسئلة، ربما الأسئلة المستديمة، مطروحة على اثنين: درويش وقراء محمود درويش.
من بينها مثلاً: هل على شاعر المقاومة أن يبقى أسير فكرة الناس عنه؟ وهل على الناس أن يظلوا ثوريين في مواسم ثورية وحسب؟ والشعر كيف يبقى..
كيف يتطور ويستمر إذا كان أشبه بطاحون عدس لغوي يدور حول موضوع واحد؟ لم يعد سؤال (الأفعل) أو الأجمل سؤالاً. فالعدالة قد يخلدها نشيد خالد.
وقد نكرهها في لافتة معلقة على جدار ما في صدر الوطن. الشعر أعمق من فكرة. وأوسع من بلد، وأكبر من واقع، وأهم من رسالة. ولذلك يتطور، ولذلك كان محمود الفلسطيني الهوية في عروبة المنفى، أوسع من فضاء المكان، أي مكان، عاش فيه. وأبعد من مراسل الضمير الجمعي لقضية ساطعة. تستطيع، ما دام الاحتلال, أن تبقى فلسطين موضوعاً لمقاومة الاحتلال، وحنيناً للمنفيين، وفكرة عن الفردوس المفقود.
ولكنها لاتستطيع، إلى أبد الآبدين، أن تزود الشاعر بلغة جديدة، وأن تمنحه القدرة على إبداع نص غير متكرر... وجديد. محمود درويش هو أن الشاعر الذي استطاع أن يقنع قارئه بالقبول الفني حين دمج الأنوثة بفكرة الأرض.
والخصوبة البشرية بالزهر والشجر والحجر: فقد رمزت الأرض إلى أنثى. وغالباً أم. ولكن إلى أي مدى يمكن أن يذهب الشاعر، شعرياً، إلى سرير الأرض بدل (سرير الغريبة)؟ وأن يستغني عن أنوثة متحققة في الجمال البشري البسيط بشجاعة... نعم بشجاعة غادر الشاعر رمزية الأرض الأنثى, الأرض الأم منتقلاً - فنياً وبنجاح - إلى تأثيث المكان... لأنثى. وكما تفيض الصدمة بالمنفى (ذلك الفطام العاطفي الأمومي) كذلك تسيل الدهشة بالحب في ذات واحدة مالئة حقل دلالة آخر.
لحماية شعره من الإقامة المملة في موضوع التفافي (كالطرق الالتفافية) التفافي بطبيعته... تخلص محمود درويش من المفهوم الاغريقي للبطولة.
وربما ترك البطل في داخله نائماً من فرط الإجهاد ليكون هناك، ليس البديل اللابطل، بل البديل... الحياة. وهكذا نجد محمود درويش، بدلاً من (التعب) واليأس يحاول العثور على المكونات العظيمة للحياة، وبدلاً من (الشغب) والصرخة يحاول تهدئة الفائض الحربي دون أن يذهب إلى غزل الحرير، بوصفه الفائض الجمالي.
كان محمود دائم الانتباه إلى أن الإفراط في هذا وذاك مهما كان رصيده... سيؤدي إلى خلق أسطورة وتجميدها كأيقونة في الذاكرة الجمعية أو سيؤدي إلى حقل... ألعاب لشاعر أدى واجبه وآن له أن يتنزه مع كلبه على شاطئ البحر في مشهد تقاعدي حلو بصرياً. اللوم القديم لمحمود على نزوله عن صليبه في الجليل، وخروجه من المنفى... فقد معناه مباشرة بعد أن أصبحت فلسطين المتخيلة أفضل في الشعر، وعندما لم يفقد الشاعر هذا القدر الجمالي المتوهج في نص العودة.. عندما عاد إلى ضواحي الجليل مرة أخرى. ولو كان موضوع الشعر جليلاً ( مهما كان كقضية) في ثنائية منفى - وطن. هجرة - عودة. حنين - إقامة... فإنه يفترض - في هذه الحال - نهاية النص.
بنقطة على سطر الكتابة وإلى دواعيها. درويش هذا الشخص الذي أوصل الشعر في التأمل والإنجاز، إلى المنطقة التي لا عودة منها... أي إلى البقاء في كل ما هو شعري في المكان والزمان. في الذات والعالم. في الفكرة والحياة. فالشاعر الحقيقي كما أنه الكائن اليائس من الخلود ينبغي أن تدربه ذائقته العظمى وتكوينه الثقافي، على أن يكون الفنان اليائس من الوصول.
إن مسيرة الحياة هي، في شكل ما، مسيرة في الحلم. ولذلك ثمة طرق وحسب دروب إلى... وحسب. وعلينا أن نعتبر (الطريق إلى قرطبة أجمل من قرطبة). إن إنجاز محمود درويش يتجلى في بقائه في الشعر، لا في هويته الفلسطينية أو الثورية، أو الكفاحية، أو الشعبوية الشعرية. البقاء الذي يدل عليه استمراره في إنتاج النص الذي لا يشبه أحداً، بمن في ذلك محمود درويش. واستمرار مواكبة قرائه وجمهوره في التواصل معه. والنمو معه, تأسيساً على ذائقة قديمة لم تربك في تعودها، مقترحاته الفنية ولا موضوعه أياً كان هذا الموضوع، وربما كان السبب هو اكتشاف شعرية أي شيء... بشرط أن تكون بصيرة وبصر الشاعر غير قابلتين للتلوث في ما هو مبتذل في الواقع. إن محمود درويش لا ينتهي قلقه كإنسان وشاعر... ولذلك، وهو في ما بعد الستين، أكثر استمراراً في برقه وبريقه، الأمر الذي لا يتوفر - عادة للشعراء - وهم يتقدمون في الصواب أو الخطيئة أو... السن!!


سورية

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved