الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش لـ «المجلة الثافية »:
حلَلْتُ المعادلة الصعبة:
جمعت النخبة والجمهور في منظومة واحدة

حاوره في عمان: عبد الكريم العفنان
حقيقة لابد من قولها: تتسع مساحة القلق، وربما الشعور بالورطة، عندما يكون الحوار مع شاعر كبير بقامة محمود درويش، وقد نغمط محمود حقه إذا اختزلناه ب(الشاعر)، فهو المثقف والمفكر والصحافي و(سعادة رئيس تحرير مجلة الكرمل الفلسطينية) والسياسي رغم تنفسه الصعداء حين ترك السياسة، هو ابن المخيم وابن عوليس.. ناداه البحار ذات يوم لكنه لم يسافر.. لأن أمه تنتظر أمام الباب وقد سرق المحتل من بيته خوابي القمح وأكياس الطحين.. المتشبهون به كثر لكن أشباهه قلائل.. حين سئل نزار قباني عن صديقه محمود درويش فيما إذا كانت المناسبة الفلسطينية وراء سطوع نجمه أجاب: (محمود درويش ليس شاعر المناسبة الفلسطينية، لكنه فلسطين كلها، بزيتونها، وكرم عنبها، وبحرها وبيارات برتقالها، محمود أعطى القضية الفلسطينية أكثر مما أعطته ونشرها على كل كوكب.. ولأنه شاعر كبير وموهوب، فقد كبرت القضية الفلسطينية على يديه في حين أنها صغرت على يدي غيره.. إذن فالقضية الفلسطينية على أهميتها وقداستها لا تكفي لإطلاق شاعر تنقصه الموهبة..
محمود درويش صنعته موهبته ولم يصنعه أحد).
إذن من أين أبدأ الحوار مع ضيفنا أو بالأحرى أنا ضيفه.. هو ليس نمطياً أو تقليدياً.. قصيدته مثل أفكاره متجددة.. قديمه لا يشبه جديده.. وجديده لا يلغي قديمه.
كل هذا زاد من اقتناعي بأن الحوار مع درويش ليس نزهة وهو ما كان مبرراً لاستنفار صديق ناقد متمرس في الشعر والأدب لأصل معه إلى ما هو متميز وكثيف في شخص درويش وثقافته العالية لا سيما وأنه نصحني خلال اتصالي الأول به تجنب التكرار لأنه يتعبه ولأن الحوارات معه باتت تتشابه.
إلى عمان حيث لا يهدأ الشاعر من التنقل بينها وبين رام الله (الوطن المعتقل) حملت أسئلتي إليه برفقة الزميل خالد حسن فوجدته وحيداً في منزل مليء بالهدوء، تزينه خارطة فلسطين لا خارطة الطريق، تفوح منه رائحة القهوة التي كانت دليلاً للشاعر في غربته (رائحة البن جغرافيا!).
سألنا محمود منذ اللحظة الأولى لوصولنا عن طبيعة القهوة التي نفضلها فقلت مثل (قهوة محمود)، ابتسم وقال بعاميته الفلسطينية (طيب يا سيدي.. على الله تعجبكم)، ويضيفك (عادةً أحب صنع القهوة بنفسي).
مع بداية الحوار فضل محمود لو أن الأسئلة تدور في فلك الأدب بعيداً عن تفاصيل السياسة وهو ما التزمت به كمحاور، لكن إجابات درويش كانت مفضوحة ببعدها السياسي الذي تجلى في صور التشرد والسجن والمخيم.. (لا أشترط بقاء المخيم على بؤسه لتبقى القضية الفلسطينية حية).
كما تطرق إلى الخطاب الثقافي العربي الذي ربطه بمكانة العرب السياسية في المحافل الدولية، مؤكداً أن هذا الخطاب متناقض حين يعلن حباً للقضية الفلسطينية وكراهية لأصحابها على مستوى الممارسة، لكن اللافت هو حديثه عن تعرضه لعملية اغتيال معنوي من الشعراء الفلسطينيين الذين قال فيهم (إنهم انتقلوا من الخطاب الوطني المباشر إلى التأمل في ذواتهم)، ولم يعطِ محمود سبباً مباشراً لمحاولة اغتياله ولكنه أشار إلى أن البعض فسرها بمحاولة (اغتيال أب) وهو ما يرفضه محمود (لست أباً لأحد، ولم أنجب أطفالاً، ولو أنجبت أطفالاً لكانوا أبناء حلال!).
محمود في هذا الحوار قال الكثير الكثير لكن لا بد من الإشارة إلى أن محمود كان في كل مراحل الحوار متيقظاً لكل سؤال.. وقد يتدخل في الصياغة أحياناً! لكنه لا يتردد في الإجابة عن أي تساؤل.
لحسن حظي فإن طقس محمود في إجابته عن الأسئلة لا يختلف كثيراً عن قراءته الشعر وهو ما منح الحوار شاعرية مختلفة.. ومنحني متعة مضاعفة تكللت بتجاوب هذه النخبة الموزعة في (15) بلداً عربياً وأجنبياً لإنجاز هذا الملف الذي تقدمه المجلة الثقافية في مستهل السنة الرابعة لانطلاقتها تحية إلى ربيع الشعر العربي محمود درويش...وإلى نص الحوار:
* يحاصرك جمهورك حيث ذهبت ليسمع عنك ومنك المزيد.... برأيك هل ما زالت قصيدتك تحتفظ بعلاقة طازجة مع الجمهور؟
- نعم ما زالت علاقتي بالجمهور علاقة صحية وعلاقة تطور وتطوير متبادل بيني وبيت قراء الشعر، وأنا لا أحب استخدام مصطلح جمهور بقدر ما أفضل مصطلح المتلقي أو القارئ، ولكن مفهوم الجمهور قابل للتعديل الدائم، الجمهور يتغير ويسعدني أن أكثر قرائي الآن هم من جيل الشباب في العشرينات من أعمارهم، وهذا يعني أنني وقارئي ما زلنا قادرين على أن نقيم علاقة متجددة مع النص الشعري، فهناك قارئ قديم مخلص لذاكرته القديمة ولا يستسيغ اقتراحاتي الشعرية الجديدة، ولكن هناك قارئ جديد باستمرار وهو ما يعطيني القدرة على تطوير أدواتي وأساليبي الشعرية من دون خوف من قطيعة ما قد تحدث بين النص الشعري وبين القارئ، فاذاً إصغائي الدائم لإيقاع الزمن يرافقه إصغاء لذائقة جيل جديد تتكون حساسيته الشعرية بشكل مختلف عن الجيل القديم، إذاً القارئ متجدد ونصي الشعري متجدد وهذا التجدد المتبادل هو ما يمنح قصيدتي حق الحياة إذا جاز التعبير.
* الجيل الذي كان يتلقف قصائدك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي هو غير جيل اليوم الجديد من حيث الأولويات والاهتمامات، برأيك هل هذا الجيل مؤهل لاحتلال مكان المحاربين القدماء؟
- لماذا يجب أن يحتل الجيل الجديد موقع ما تسميه المحاربين القدماء، لكل جيل ذائقة شعرية وحتى نصي الشعري تجد فيه تعدد الحساسيات الشعرية من شعر شبه مباشر إلى شعر بعمود إلى شعر إصغاء إلى الحواس إلى شعر ينتبه إلى أسئلة الوجود، وحتى في شعري نفسه تطورات مستمرة وبالتالي أنا لا اتفق مع طرح احتلال جيل لاحق لموقع جيل سابق، الجيل الذي يتجمد عند ذائقة شعرية معينة قد يكتفي بقرائة شعري القديم والجيل الجديد الذي يريد حساسية جديدة يقرأ شعري الجديد، فأنا لا أرى تناقضاً أو تنافراً بين تعدد الحساسيات وبين تغير الذوق بشكل مستمر، فمن يحب النص المعبر بشكل مباشر عن وضع سياسي أو وضع محدد يستطيع أن يجده في قصائد قديمة، ومن يريد أن يقرأ أشعاراً أكثر تركيباً وأكثر انتباهاً لتغيرات ضرورية في اللغة قد يجدها في نصي الشعري الجديد، فإذاً أنا متعدد وقارئي متعدد، وأنا متجدد وقارئي متجدد، ومن هنا نلتقي لتأتي هذه العلاقة التي من النادر أن تتم بين شاعر وبين قرائه، لأنني كما يلاحظ كثير من النقاد بأنني حللت معادلة صعبة جداً بأنني جمعت النخبة والجمهور في منظومة واحدة.
* هناك قصائد أساسية بل مفصلية عبرت عن تحولات أساسية في تجربتك الشعرية... هل دائماً كان هناك توازٍ بين هذه القصائد التي تتعلق بتحولات سياسية والقصائد التي شكلت منعطفاً في تجربتك الشعرية؟
- لا أرى تناقضاً بين التعبير عن حدث في زمن محدد وبين الانتباه إلى أن تطور القصيدة نفسها بحيث تحمل إمكانية حياة في مرحلة مختلفة، وأنا لا أفرق ولا أجيز لنفسي أن أبعد شعري عن الواقع، المصدر الحقيقي والأصلي للشعر هو الواقع، كنت أحاول في مرحلة سابقة أن أؤسطر الواقع، أي أن أجعله أسطورياً، وفي الفترة الأخيرة بالعكس أحاول أن أفكك الأسطورة وأن أجعلها أكثر واقعية، فالمضمون والشكل يحملان علاقة الجلد بالعظم وليس علاقة الزي بالخارجي، فالحدث الملحمي يحمل ملامح نبرة إنشادية مختلفة عن القصيدة الغنائية التي تتأمل ذاتها وتتأمل في معطيات الوجود وتعبر عن ذلك بلغة أكثر حميمية وأكثر بساطة وأكثر تواضعاً من حيث البلاغة، أي أنني أجري تقشفاً واضحاً مع البلاغة محاولاً إقامة علاقة منصهرة ما بين السردية والغنائية، ولكن هذا لا يعني أنني تخليت عن التعامل مع النفس الملحمي، ولكن طريقة تعبيري عن واقعي هي التي تأخذ أشكالاً متعددة، أما أنا فمنغمس في الواقع ومنغمس في القضية الفلسطينية، وكل الكلام الذي يقال أنني ابتعد عن التعبير عن القضية الفلسطينية لمصلحة التعبير عن القضية الجمالية لا أفهم هذا الفصل بين أن تكون القصيدة وطنية وإنسانية وتحمل جمالياتها الخاصة، وكل تفسير يقيم مسافة بيت البعدين فيه كثير من التجني وكأن القضية الوطنية أو الإنسانية يجب أن تحمل لغة فجة وخشنة وقتالية النزعة، أنا مهتم بتصوير الجانب الإنساني في الحياة الفلسطينية بالإضافة إلى الجانب النضالي.
الفلسطيني له حواس ينخرط في أسئلة الوجود، في أسئلة الحب في أسئلة الموت، في أسئلة الفصول، يحب الخريف أو الربيع يحب الحياة وينتبه إلى إيقاع الجماليات في الحياة، وبالتالي عندما نتحدث عن هذه الأشياء لا نجرده من هويته الوطنية بقدر ما يغني هويته الوطنية ببعدها الإنساني.
* في أمسيات عديدة كنت ترفض الانصياع لمطالب الجمهور الذي يطالبك بقصائد كثيرة مثل قصيدة - سجل أنا عربي- بدعوة أنك كنت تتجاوز نفسك وربما في هذا الإطار جاءت مقالتك الشهيرة (ارحمونا من الحب القاسي)، ألا تعتقد أنه في الأمسيات الأخيرة صار لديك رغبة في الانصياع لمطالب الجمهور، والدليل أنك في أكثر من أمسية قرأت حاصر حصارك؟
- كنت في بداية التحول الكبير الذي طرأ على شعري بداية من قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا)، كنت أعرف أنني أجري تحولاً قد يصطدم قارئي الذي اعتاد على إنشاد النفس المعروف ولذلك حرصي كان على أن أؤصل اقتراحاتي الشعرية الجديدة، كان يمنعني هذا الحرص من أن أتجمد في ذاكرة القارئ وفي ذاكرتي الخاصة أي في قصيدة سجل (أنا عربي) لأنني لا أريد أن تتحول هذه القصيدة التي أسمها بطاقة هوية إلى بطاقة هويتي الشعرية الوحيدة فإنما متعدد الجنسيات شعرياً ولا أحمل جنسية واحدة لذلك كنت أحاول أن أكسر هذا القالب الذي يريد أن يضعني فيه بعض القراء ولا يعرفونني إلا من خلال هذا النص. وأشكر الله أنني قد نجحت كثيراً في تعويد القارئ على أنني دائماً أقدم جديداً. وبهذه المناسبة أريد أن أقول إنه أسوء ما يصيب الشاعر هو أن يكون كتابه الأول هو أحسن كتبه، هذا يعني أنه لن يتطور، أنا افتخر بأن أسوأ كتبي هو كتابي الأول ولكن بعد أن حل سوء الفهم السابق لم أعد أتردد في أن ألبي طلب القارئ في أن أسمعه ما يريد من بعض نماذجي القديمة، أي أنني أحاول أن أقرأ لنفسي وأقرأ ما يريد القارئ أن يسمع وبالتالي العقدة حلت باعتبار أن شعري القديم هو جزء من سيرتي الشعرية ولكن دون أن أتخلى عن حرصي الدائم على أن أتطور باستمرار وارجو أن أبقى قادراً على أن أتطور باستمرار فأريد أن أرضي، وعندما نقول أمسية شعرية فهي عبارة عن حفلة وفي الحفلة يجب أن (تطرب الذاكرة الشعرية القديمة بإسماعهم نغماً قديماً... لما لا هذا لا يزعجني في شيء؟
*الإبداع الفلسطيني بمختلف تجلياته في الماضي أعطى نوعاً من الحضور العالي للسياسة والخطابة والمباشرة لكن ما نلاحظه اليوم إنه يتجه باتجاه السخرية بدءاً من أفلام إيليا سليمان ومسرح القصبة وصولاً إلى افتتاحية مجلة الكرمل التي كتبت فيها عن الجندي الإسرائيلي الذي يأمر الناس (يا شعب الجبارين يمنع التجوال ومن يخالف الأمر يصبح شهيداً شهيداً شهيداً) وسؤالي: هل السخرية اليوم هي بديل للخطابة في مقاومة الاحتلال؟
- السخرية في الأدب من أرقى أشكال المقاومة والسخرية تحمل قدرة النفس البشرية على أن تتحمل العذاب وتفكك التراجيديا وتجعل حياة الناس قابلة للتحمل، وبالتالي الأدب الساخر أصعب أنواع الأدب وخاصة عندما يتمكن الكاتب السخرية من نفسه ومن موضوعه. والسخرية أحد أشكال مقاومة الوضع الراهن الصعب وخلق القدرة التفاؤلية على تحمل الهم العام والهم الشخصي.
*كتبت عن السجن الكثير من القصائد.... بصراحة كيف تصف لنا شعورك حين تسمع أن الكثير من السجناء السياسين داخل وخارج الأرض المحتلة يرددون أشعارك؟
- لا شاعراً في الدنيا يكتب من أجل أن يقرأ نفسه ويكتب لكي يفهم نفسه، وأثناء الكتابة لا يفكر الشاعر بأي قارئ أي تفكير حتى بالقارئ يصبح نوعاً من القيد عن الكتابة، عملية الكتابة عملية حرة متحررة من أي ضغط خارجي ولكن الذات الكاتبة ليست ذات الحرية لأنها تحمل في داخلها أدوات متعددة وعندما تتم كتابة النص الأدبي يستقل هذا النص عن كاتبه تماماً ويدخل في علاقات مع ذائقة جمالية في مجتمع معين، ولا حياة للنص إذا لم يكن له قارئ أو لم يخترق نسيجاً مجتمعياً معيناً، لذلك لا يحيا الشعر ولا يحيا النص إلا إذا تمت كتابته التأويلية أو المجازية من طرف الشاعر الثاني وهو القارئ الأدبي الذي يعطيه حياته، فالنص الشعري يتحرك باتجاه القارئ والقارئ يتحرك باتجاه النص الشعري، ومن هذا التحرك المتبادل في اتجاهين محددين يملك النص الشعري حياته العامة ولا يكون صوت صاحبه فقط ولذلك يسعد الشاعر بأن يقرأه الناس ويسعد بأن يدخل الفرح إلى قلوب الناس وأن يشعرهم بقدرة داخلية على ملامسة الحرية حتى ولو كانوا في الزنازين، لذلك أنا سعيد جداً لأن يمنح شعري بعض التعويض الجمالي أو النفسي لمن حرموا من الحرية ولمن حرموا من الاستقلال ولمن حرموا من ممارسة الحياة في كثير من البلدان، والشعر دائماً يحمل شيئاً من العزاء أو شيئاً من التعويض، فعندما يصل شعري إلى هذا المستوى من الآخر أشعر أني لا أكتب عبثاً وأشعر أن هناك جدوى وضرورة للشعر.
* ماذا عن تجربتك في السجن؟
- لا أستطيع أن أتكلم عن سجني بأحزان من عرفوا سجوناً أكبر وأكثر، يجب أن أتواضع عندما أتكلم عن السجن فأكبر فترة في السجن قضيتها هي عبارة عن شهرين وسجنت حوالي ست مرات كل مرة مدة شهر يزيد أو يقل قليلاً ولكن إحساسي بأن السجن الحقيقي هو السجن الكبير هو الاحتلال وهو الحصار المضروب علينا، أما أن أتكلم عن شكوى كبيرة من السجن قد يكون مبالغاً به، فالسجن علمني الإصغاء لنفسي، فلا أستطيع ذلك مقارنة مع المساجين الذين عاشوا سنين في السجن والذين يعتبرون أبطالاً في صمودهم، فعلى سجني أن يتواضع أمام كبرياء وبطولة هؤلاء المعتقلين والأسرى في السجون، من هنا لا أتكلم كثيراً عن السجن لأنه يبدوا سجني عبارة عن زيارة مقارنة بسجون المناضلين الذين يقضون سنوات طويلة في السجن وبعضهم يموت في السجن، أما السجن الحقيقي هو إحساسي بأني وشعبي نعيش داخل الحصار الكبير، هذا هو ما يؤلم وهذا ما يسمح للغة أن تتكلم من دون حياء ودون تقشف.
* (مخيماً ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين) - هل ما زال المخيم ينجب زعتراً ومقاتلين؟ - ما هي علاقتك بالمخيم؟ وما حجم المساحة التي أخذها المخيم من شعرك؟
- كما تقتبس الآن المخيم كان وما زال مصنع المناضلين أو معهد تخريج المناضلين ربما استخدمت تعبيراً فجاً لكن لولا المعاناة التي عاشها الفلسطينيون في المخيمات ولولا شبق حاجتهم إلى التعبير عن ذاتهم ونزوعهم نحو الحرية والاستقلال لما كانت هناك حركة ثورية فلسطينية، فالحركة الثورية الفلسطينية مدينة للمخيم بأنه أنجب هذا العدد الهائل من المقاتلين وبالتالي علاقتي بالمخيم علاقة انحناء احتراماً لصموده ولأهله، وإن كنت لا أشترط بقاء المخيم على بؤسه لكي تبقى القضية الفلسطينية حية، من هنا أنا أعترض على الإخوة اللبنانيين الذين يحاصرون الوجود الفلسطيني داخل المخيم ويمنعونهم من العمل ويحرمونهم من حقوقهم الإنسانية والمدنية حرصاً على حق العودة وكأن حق العودة مشروط بالبؤس.
*لبنان والفلسطينيون.. ألا تعتقد أن إجراء الحكومة اللبنانية سياسي صرف مراعاة لتوازنات داخلية لبنانية؟ - أنا أفهم التوازنات السياسية الداخلية ولكن هذا الوضع لا يحتمل ولا يبرر ولا يمكن أن يكون مقبولاً لأن حرمان الفلسطينين من ممارسة أبسط الحقوق والحد الأدنى للحقوق المدنية بحجة الخوف من التوطين وبحجة الحرص على احتفاظ الفلسطينين بذاكرتهم، هذه الحجة غير مقبولة لأن الذاكرة الفلسطينية حية ولا أشترط بقاءها حية بأن تبقى محاصرة في مثل هذا الوضع البائس، ولكني أقدر بأن الحكومة اللبنانية واللبنانيين - أعانهم الله - فهم في وضع يتطلب التعاطف والتضامن في محنتهم التي يعيشونها.
* مسؤولية إنسانية.. هل حاولتم التواصل مع اللبنانيين بهذا الخصوص؟
- أنا قلت هذا الكلام في خطاب علني في بيروت وصرحت به للصحافة وكل ما زرت بيروت أصرح وأتكلم في هذا الموضوع وأطالب السلطات اللبنانية بأن تحترم إنسانية الفلسطيني لأن الخطاب العربي بشكل عام بعيداً عن لبنان هناك إعلان عن حب للقضية وكراهية لأصحاب القضية على مستوى الممارسة إنهم يحبون القضية ويكرهون الشعب.
* أغنية مارسيل استفادت من قصيدة درويش.... ماذا أضافت أغنية مارسيل لقصيدة درويش؟
- هذا الكلام يقوله مارسيل خليفة بكل تواضع بأن القصيدة ملحنة، وتحمل موسيقاها بذاتها لكن بسبب انتشار الأغنية وبسبب جمالية موسيقى مارسيل خليفة وأناقة أدائه انفتح أمام القصيدة شوارع أوسع وساحات أكبر ونقلها من الكتاب إلى ملايين الآذان أي أن مارسيل خليفة منح القصيدة انتشاراً أوسع وساعد الذائقة العامة العادية على تقبل ما نسميه نحن الشعر الحديث فإذا مارسيل خليفة قدم خدمتين خدمة للشعر وخدمة للذائقة الشعبية الموسيقية ولكن أهمية مارسيل تكمن في موهبته الموسيقية وليس فقط بغنائه قصائدي وهوالآن عاكف يشتغل أكثر على العمل الموسيقي أكثر منه على الغناء.
* ماذا عن علاقتك مع الأدب الفلسطيني وأدبائه؟
- أحرص على أن تكون علاقتي ودية وأخوية مع جميع الشعراء والكتاب الفلسطينين ولكن العلاقة الأعمق هي علاقة مع النص وأنا حريص جداً على أن أواكب وأتابع تطور الذائقة الشعرية والانتباه إلى صوت الذات الفلسطينية الجديدة والفلسطينيون الجدد أقصد الشعراء الفلسطينيين الجدد انتقلوا من الخطاب الوطني المباشر إلى التأمل في ذواتهم وفي داخلهم الإنساني، وهذا حسن وأنا سعيد بأن أراقب هذا التطور في الحساسية الشعرية لدى الشعراء الفلسطينيين، أما على المستوى الشخصي فهي علاقة سليمة مع الذين أعرفهم ولو كنت أتعرض للكثير من السهام والاتهامات البذيئة من قبل بعض الشعراء الفلسطينيين.
* بماذا تفسر هذه الاتهامات هل هي غيرة شعرية إذا جاز لي التعبير؟
- لست فرويد لكي أحل النوازع الداخلية ولكن أقبل أن يكون هناك أختلاف فكري أو شعري معي أقبله ولكن لا أقبل نزعة الاغتيال المعنوي التي أتعرض لها من قبل بعض الشعراء الفلسطينين، هناك فرق بين أن نختلف وهو أساس التطور وهو جوهر ثقافي شديد الاحترام وبين الطعن والتشهير والاغتيال المعنوي الذي لا يفسر إلا بإحالة هؤلاء الشباب إلى عيادة الطب النفسي، وأنا لست مؤهلاً للعلاج النفسي، وهناك بعض التفسيرات تقال بأنها محاولة لقتل أبٍ ولكن أنا لست أباً لأحد ولم أنجب أطفالاً ولو أنجبت أطفالاً لكانوا أبناء حلال.
* وهناك تفسير آخر يقول بأنك كنت عقبة في وصولهم إلى الشارع الفلسطيني والعربي؟
- إذا كان نصي عقبة من حيث أنه وضع سقفاً شعرياً ما فعليهم أن يذللوا هذه العقبة بنص مضاد أو بنص مختلف أو أن يتجاوزوا هذا السقف، أما إذا كانت العقبة هي من صنع يدي شخصياً أو من علاقاتي فهذه تهمة مرفوضة تماماً لأن النص هو الذي يصل وليست علاقاتي الشخصية، النص يجب أن يعارض بنص وليس بسهام الاغتيال والتشهير والتخوين أحياناً أخرى.
*دعوت ذات يوم المثقفين العرب إلى عقد مؤتمر للبحث في العلاقات مع إسرائيل.. ما جدوى هذا المؤتمر لو عقد وهل يمكن لمثل هذه اللقاءات أن تخفف من عذابات الفلسطيني؟
- أرجو أن أدقق، لم أدعو لعقد مؤتمر لبحث العلاقة مع إسرائيل لكن كان في الساحة الثقافية العربية مصطلح رائج ولكن غير معرّف وهو مصطلح التطبيع الثقافي، والكل يتحدث عن التطبيع بشكل مختلف، البعض يعتقد أن قراءة رواية إسرائيلية يعدّ تطبيعاً، وبعض الناس يعدّ أن ترجمة أدب له إلى اللغة العبرية تطبيعاً، وبعض الناس يعدّ أنه إذا التقى شاعر إسرائيلي مع شاعر فلسطيني في مؤتمر وتحدثا أوتصافحا أوجلسا على طاولة واحدة هذا تطبيعاً، أنا أعتقد أن التطبيع مفهوم أكثر تركيباً وتعقيداً من هذا التبسيط، لذلك قلت أن على المثقفين العرب أن يجتمعوا ويبحثوا كيفية تعريف مفهوم التطبيع وكيفية مقاومة التطبيع بوسائل مجدية أكثر من إلقاء تهمة التطبيع على كل شخص رأى اسرائيلياً في الشارع بهذا المعنى، أنا أريد أن يعرفوا وأن يضعوا تعريفاً أكثر وضوحاً لمفهوم التطبيع.
* هل يمكن أن يكون الأدب العربي أدباً عالمياً؟
- أعتقد أن العالمية تبدأ من المحلية ولا يوجد منطقة اسمها العالمية، العالمية تبدأ من الكتابة كل واحد يكتب سيرته، يكتب محيطه، يكتب بيئته، يكتب لحظته وطيفه، ومن هنا إذا حمل الأدب كفاءات جمالية وأبعاداً إنسانية تعني الآخر حينها قد يدخل الأدب العربي في مدار الاهتمام العالمي. ولكن الأدب العربي هو جزء من أزمة الثقافة العربية، والثقافة العربية جزء من أزمة الحضور السياسي العربي في العالم، فمكانة الثقافة العربية والأدب العربي مرتبطة إلى حد بعيد بمكانة العرب السياسية في العالم، ومكان العرب السياسية في العالم لا تشجع على فتح أبواب العالم لقراءات الأدب العربي، أما أن يترجم الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية وقد ترجمت بعض الأعمال إلى عدد من اللغات لكن منزلتهم لا تظاهي منزلة كتاب أمريكا اللاتينية أو بعض الكتاب الأفارقة، لأن العالم ما زال ينظر إلى العرب نظرة ريبة وتحفظ إلى حد ما، ويمكن لبعض النصوص الروائية أمثال نجيب محفوظ وجمال غيطاني وإلياس خوري يترجمون إلى لغات أجنبية ولهم مكانة ما، لكن ليس هناك إقبال جماهيري كما يقال على هذا الأدب إنه مقروء من قبل طلاب معاهد الدراسات الشرقية ومن قبل المستشرقين والمهتمين بالشرق الأوسط أكثر من انتباه القارئ العادي المسافر في قطار أو طائرة الذي يبحث عن قصة تعنيه، فالأدب العربي رغم ترجمته العديدة ما زال محصوراً في غرف معرفة سلفاً وهي البحث عن فهم أفضل للعالم العربي والشرق الأوسط وليس البحث عن متعة أدبية بريئة.
* انطلاقاً من تبني العالم للقضايا العادلة ... هل فشل العرب في طرح قضاياهم إنسانياً على المستوى العالمي كما كان يدعو المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد؟
- بلا شك العرب فشلوا في هذا المجال ولكنهم فشلوا في مجال أبسط في طرح قضيتهم السياسية كقضية سياسية، العرب لا يتقدمون للعالم بصفتهم عالم عربي متجانس أو مشترك، العالم العربي ليس موحداً إلا في ذهن من يكره العالم العربي ولكنه ليس موحداً في ذاته وفي خطابه السياسي، ونحن نعاني من أزمة إعلامية ولا نعرف كيف نطرح قضايانا وكيف ندرج قضايانا في سياق القضايا الإنسانية الكبرى، وإذا شكونا فنحن نشكو ضعفنا ونشكو إجحاف العالم بحقنا ونشكو ونشكو حرماننا من العدالة ولكن لا نتقدم بقوة في خطاب نسعى فيه لنكون شركاء في صنع تاريخ العالم الحديث لأننا عاجزون عن ذلك.
صوت الضعيف ليس محبباً دائماً يجب أن يرافق الضعف قوة أخلاقية عالية وقوة ثقافية مختلفة لأن الشكوى تثير الملل والإشفاق وإذا طال يثير النفور ونحن نتقدم فقط في الشكوى وقد أثرنا النفور وربما أثرنا الضجر لأننا لا نتقدم بمشاركة وإبداع.
* كل حركات التحرر في العالم نالت استقلالها.... هل تخشى على القضية الفلسطينية؟
- لا أخشى على القضية الفلسطينية لسبب بسيط هو ان القضية الفلسطينية يحملها ويعبر عنها شعب استعصى على الإبادة السياسية، هذا الشعب الفلسطيني شعب حي مليء بالإرادة الحرة، مصصم على أن ينجز مشروعه في الحرية والاستقلال الوطني، وما دام الشعب يحمل هذه الطاقة الروحية الكبيرة مهما دخلت حركته الوطنية في أزمات وتذبذبات وفي صراعات داخلية وهي ملازمة لكل حركة تحرر وطني وبخاصة أن الحركة الوطنية الفلسطينية الآن انتقلت إلى مشروع بناء دولة غير موجودة الآن تعمل الحركات الوطنية على نقل الدولة الفلسطينية من نص إلى بناء واقعي على الأرض ولكن العقبة الكبرى أمام هذا المشروع هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي واستمرار تمسك الإسرائيلين بشروط تجعل السلام مستحيلاً، هذه الشروط في عدم اعتراف الإسرائيلين بحق الفلسطينين بإقامة دولة مستقلة ضمن حدود 1967 وعاصمتها القدس وعدم القبول الإسرائيلي في البحث في موضوع حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وغيرها من الممانعات الإسرائيلية التي تجعل السلام بعيداً وتجعل التسوية أكثر تعثراً.
* ما الذي يميز المرأة في شعرك؟
- لكل شاعر طريقة تعبير خاصة به خاصة بلغته تجاه المرأة، المرأة قد تكون امرأة حقيقية من لحم ودم وقد تكون صبية او أماً او حبيبة، ولكن قد تحمل ايضاً دلالات وإحالات على ما هو خارجها وقد تكون تعبيراً عن وجود وقد تكون تعبيراً عن وطن وقد تكون تعبيراً عن اختلاط الذكر بالأنثى وغربة الذات في الآخر، أو تعرف الذات على نفسها في الآخر، كل هذه المعاني قد تحملها المرأة وقد تحملها أمرأة واحدة ولكن هذه المرأة تتعدد وتتغير وتتطور حسب العلاقة العاطفية والحسية بين الشاعر والكلمات.
* هل لازلت على علاقة حميمية مع قصيدة بدر شاكر السياب؟
- أنا من الذين يعتبرون بدر شاكر السياب من أهم الشعراء الرواد الذين ما زال الكثير من شعره قابلاً للقراءة والحياة ولاختراق الأزمنة وهو من الشعراء المؤسسين الذين منحوا القصيدة العربية انفتاحاً على العالم والوجود بانبثاق هذه القصيدة من سياق إيقاعات الشعر العربي الكلاسيكية وانفتاحها على الشعر والثقافة العالميين، بدر شاكر السياب هو الأبقى من شعراء الحداثة الشعرية وأحمل له كثيراً من الحب، وكما قلت كثير من شعره ما زال صالحاً لقراءات متجددة.
* وماذا عن بغداد؟
- لا شك أن سقوط بغداد هز الجميع وكتبت قصيدة بدر شاكر السياب من وحي هذه المحنة لكن لم أعد أعبر عن الأحداث بطريقتي القديمة رأيت أن أقرب السبل للتعبير عن السؤال العراقي هو من خلال مخاطبة كبير شعراء العراق الحديث.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved