الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

شعراء المقاومة يضحكون أيضاً
راشد عيسى

إذاً، بإمكان الشاعر أن يضحك أيضاً.
حتى لو كان شاعر المقاومة والأرض وفلسطين، وحتى لو كان واحداً من شهداء الخريطة الأحياء. هذا ما قلته لنفسي حين فرغت لأول مرة من قراءة (ذاكرة للنسيان)، وهو أشبه بيوميات كتبها محمود درويش عن تجربة حصار بيروت. والآن لا أتذكر إسرائيلياً واحداً عَبَرَ الكتاب، أو وقف على تخوم مدينة ال(ذاكرة..).
كل ما أتذكره هو صورة تلك المرأة التي يريد درويش أن يأخذها على الشرفة، باعتبار الشرفة نوعاً من اعتداء الحياة على الموت (حياة الداخل الآمنة مقابل عشواء الموت خارجاً)، فيما هي تحتج: (وكيف أصرخ على الشرفة؟)، ليجيبها بالقول: (وهل من الضروري أن تصرخي؟!) الأمر الذي يعني له في النهاية أن المرأة لا تفهم الرجل، وبالطبع ولا الرجل يفهم المرأة، ولا أحد يفهم أحدا.
كان لشاعر المقاومة إذاً أن يمدّ لسانه للموت.
يكتفي مثلاً بأن يسدل ستارة الشباك إزاء قصف الخارج، فالموت هو أن ترى الموت، كما يقول، وبإسدال الستارة لن تتمكن من رؤية الصاروخ القادم لقتلك.
يفرغ بعدها إلى معضلة العطش في صيف بيروت اللاهب، فيروح يعدّ أسماء الماء الكثيرة في اللغة العربية، علّ ذلك يرويه، ولعلّه جاء ببضع قطرات ماء من القواميس، ليوزعها، بإسهاب، على كافة أعضاء الجس، بعدها صرنا نطارد لسان السخرية في قصائد الشاعر ويومياته المنثورة، لنلاحظ أن فيها ألقى درويش نوعاً من الأنسنة على يوميات العيش التراجيدي للفلسطيني.
التراجيديا التي تجعل الفلسطيني بطلاً أسطورياً وحسب، تحولت على يديه إلى نوع من مسرح العبث، ولا ننسى ما قاله ذات مرة إثر جدل حول مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة (في انتظار غودو) التي أثارت جدلاً واسعاً بين المثقفين، قال غالبيتهم بعدم الفهم للمسرحية الغامضة، التي لا تقول شيئاً سوى الانتظار، قال درويش إن من قضى كل هذه السنوات بانتظار الوطن لن يصعب عليه تفهّم الانتظار العبثي لشخصيات (غودو).
كان يصعب أن نلاحظ ذلك الجانب العبثي في شخصية شاعر يمشي بإيقاع مضبوط، وفي الأساس يبدو غريباً أن يقدر شاعر مولود بين الانفجارات على متابعة حياته اليومية بهذا الانضباط وتلك الصرامة: يصحو صباحاً ويرتدي كامل قيافته، كما لو أنه جنرال، يجلس وراء مكتبه، ويستنهض كتيبة من الأقلام و.. فنروح نتخيل لو أن انقلاباً بسيطاً يصيب إصرار الشاعر، أكانت انقلبت حياته إلى ما يشبه حياة المهمشين والمهرجين وصعاليك الثقافة؟. ونروح نتذكر بعضاً من أيام التسكع في شبابه الأول قبيل خروجه من فلسطين، حين تصير حبة البطاطا، حبة واحدة لا غير، وجبة عشاء شهية، يجري تناولها وتقاسمها بطريقة احتفالية بين درويش وما لا يقل عن زملاء ثلاثة له.
أو تلك الأهزوجة التي ألّفها مع رفاقه، لتكون طُعماً لاستدانة بعض من المال: (يا أميراً، وابنَ منْ كانت وتبقى (أبدَ الدهر أميرة) أعطِنا عشرين ليرة)، ثم تتصاعد النبرة لتصبح: (يا فقيراً، وابن من كانت وتبقى أبد الدهر فقيرة..)، وحين انصاع أحد الزملاء قبل أن تكتمل الأهزوجة سألوه كيف؟ قال: أعرف، إنها القافية اللعينة؛ أمير وأميرة، ثم فقير وفقيرة، ومن بعدها تأتي حقير وحقيرة!.
رائحة القهوة
ومن بين مواقفه الطريفة ذهوله أمام جونيا، العارفة (لا العرّافة) بالطب البديل، التي استطاعت، وحسب روايته، أن تعرف ما به من دون أن يخلع شيئاً من ملابسه؛ عرفت أن خللاً يكتنف قلبه الشاعر، وآخر يكتنف الضرس الثالث على اليسار، بالإضافة إلى التهاب أصاب المثانة.
وفي المشفى، وبعد أسبوع من التحاليل، جاءت النتائج مطابقة لما قالت المرأة، فقال درويش إن (جونيا عرفت بدقيقتين ما عرفتموه بأسبوع). وحين سرد الطبيب وصاياه ولاءاته على الشاعر: لا تدخن، لا تغضب، لا تكتب، لا تنفعل، لا تقلق، لا تعشق..
قال: (كفى، كفى، إنك قادر على تحويل أي شاعر إلى حمار!)، ثم يضيف، في واحدة من رسائله إلى مواطنه سميح القاسم: (أليس الحمار الحي، خيراً من الشاعر الميت؟).
ذلك يستدعي أيضاًَ علاقة درويش بالأشياء البسيطة، بعناصر الحياة وتفاصيلها، كذلك الولع برائحة القهوة الصباحية التي يعدها بنفسه، والتي راح يناديها ذات مرة بالقول: (أريد القهوة كي لا أتحول إلى خروف)، ويواجه طبيبه الذي يحاول حرمانه من أقل مفردات الحياة: (الحمار لا يشرب القهوة، ولا يدخن، ولا يسكر!).
لا ندري كيف يجد محمود درويش الوقت ليضحك أو يسخر، فهو شاعر كثير الانشغالات، عليه، كما يريده الفلسطينيون، وربما لا كما يريد هو، أن يكون رمزاً لشعبه، وزعيماً للثقافة الفلسطينية، وأن يكون لكل الفلسطينيين، غير المجتمعين على شيء، أن يكتب لهم قصائد حب، وينشئ وطناً في القصائد، وأن يكتب مليون قصيدة رثاء.
فمن أين وجد الوقت، والقوة، لتحويل (النكد) الفلسطيني، إلى قوة للضحك، والحياة.


فلسطين

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved