الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش في طليعة هؤلاء
عبدالرزاق عبدالواحد

أعلم أنني حين أتكلم عن محمود درويش لن أكون محايداً، فقد أحببته بكل جوارحي، حدَّ أن سمَّيت أبطال معظم قصائدي الدرامية باسمه.. وحدَّ أني استعملته قناعاً لي في قصيدتي (محمود العماري) التي اشتهرت في جنوب العراق بوجه خاص، ولا سيما عند أهل (العمارة).. مدينتي. وأعلم أيضاً أنك طلبت من محبيكم أن ينقذوكم من هذا الحب الظالم.. ولكنها محبة لا خيار لنا فيها يا محمود.
ترى.. أعلى كل من يكتب عن آخر أن يكون محايداً؟.. وأنى له أن يكون؟؟ أنا أشهد أنك يا محمود (لم تكن حيادياً، ولا رمادياً) في يوم من الأيام، فلماذا - وأنا أكتب عنك - أتزيّا بزيّ أنت لا ترضاه؟!
في أوائل السبعينيات التقيت بمحمود للمرة الأولى. كان موسم انعقاد مهرجان المربد الشعري حين بلغنا أن الشاعر محمود درويش وصل إلى بغداد، وسيحضر مهرجان المربد، فأحدث الخبر هزة في أجواء المهرجان، فمحمود لم يكن اسماً مجرداً..
إن حضوره يعني حضور المقاومة الفلسطينية متمثلة في أكبر شعرائها. لذا كان الترقب بادياً على قاعة المهرجان يوم الافتتاح. كنت يومها متهيئاً لقراءة قصيدتي (مقاضاة رجل أضاع ذاكرته).. وهي قصيدة درامية طويلة. وكنت مصاباً بالتهاب الحبال الصوتية بحيث كان يعسر عليّ الإلقاء. ودخل محمود القاعة وسط عاصفة.. واتخذ مقعداً أمامياً مقابل منصة الإلقاء. كان هادئاً، صامتاً.. عميق الصمت. وجاء دوري في القراءة.
1
هنا عليّ أن أؤشر أن موضوع قصيدتي كان نابعاً من خلاف حادّ حصل بيني وبين الحزب الشيوعي الذي كنت محسوباً عليه. وأنا أقرأ قصيدتي، كنت أرنو بين برهة وأخرى إلى محمود الذي بدا مسترخياً في مقعده، ثم أخذ بالتوتر شيئاً فشيئاً، منحنياً باهتمام واضح إلى الأمام، ويداه على مسندَي المقعد. حين وصلت إلى نهايات القصيدة، كان الناظر إلى محمود يتخيله موشكاً أن يثب من مقعده، وهذا ما حصل فعلا. فمع آخر كلمة من القصيدة وثب إليّ محمود حال نزولي من المنصة.. أمسكني من جانبَي سترتي وراح يشدني بعنف وهو يقول: هذه القصيدة قصيدتي..
أنت كتبتها..
أنت كتبت قصيدتي! من القاعة خرجنا معاً..
ومن القاعة كنا صديقين حميمين..
وصار محمود كلما زار بغداد، أسمع صوته على الهاتف يقول: أنا الآن دخلت إلى غرفتي في الفندق..
وكنت أطير إليه! علمت، فيما بعد، أن محمود مرّ بتجربة شديدة الشبه بتجربتي مع الشيوعيين، وكانت (مقاضاة رجل أضاع ذاكرته) القاسم المشترك بيننا.
* * *
أكاد أجزم أنني لو مرّ بي إنسان لم أره قبلاً، ولم أسمع به.. وتصرف بحضوري مثل تصرف محمود درويش، وسلك مثل سلوكه، لأقسمت إنه شاعر، حتى ولو لم ينبس ببنت شفة! شديد الحساسية حدَّ اللعنة.. مشاكس حدَّ الاستفزاز.. عنيف في كل ردود أفعاله. تخاله مرحاً، وما هو كذلك.. عدائياً وما هو بعدائي. إن الذي يستطيع أن يصل إلى قلب محمود يدخل منه في نبع من أصفى ينابيع المحبة، مشروطاً بأن لا يكدر هذا الصفاء، لأنه يتحول عندئذٍ زبداً بركانياً لا يطاق! إن لمحمود كبرياء يختصم عليه حتى مع نفسه! لا أدري يا محمود، بعد هذه السنوات الطويلة من الفرقة، كيف أنت الآن في هذا الزمن الذي لم يعد فيه من (يبحث عن ريشة كبرياء!) أنا أعلم أن (مدننا كلها ضائعة)، وأنها كلها (نوقٌ تمتطيها البداوة، إلى السلطة الجائعة). وهي، وإن لم تكن (سوى منبرٍ للخطابة، ومستودع ٍ للكآبة)، فهي أوطاننا يا محمود. ألم تقل أنت عن هذه البلاد: (تشبهنا حين نأتي إليها، وتشبهنا حين نذهب عنها). أتراني أحدثك هكذا لأنني حديث.
2
عهد بضياع الوطن، والتشرد عنه غريباً في فجاج الأرض. ماذا أصنع أنا الآن؟؟ لقد كانت لنا نخلة تجعل الله أقرب. وكانت لنا نخلة تجعل الجرح كوكباً. و(كانت لنا نخلة تنجب الأنبياء)، وها أنذا تدور بي الدنيا..
(كلما آخيتُ عاصمة رمتني بالحقيبة!). (يهربُ الشعر من القلب إذا ما ابتعدتْ يافا..).. وإذا ما ابتعدت بغداد أيضاً يا محمود. نعم.. إنك (لم تكن يوماً أعمى لترى!).
* * *
من أجرأ من يثقل الشعر بالفكر حدَّ أن يلتبسا ببعضهما، ويبقى الشعر شعراً.. فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ وكأنما قدحٌ ولا خمر! في مجازاته المثيرة، كثيراً ما يجعل اللامعقول معقولاً.. وكثيراً ما يقنعك بلا معقولية المعقول!. ما الشعر؟.. (هو الحدث الغامض، الشعر يا صاحبي هو ذاك الحنين الذي لا يفسَّر، إذ يجعل الشيء طيفاً، وإذ يجعل الطيف شيئاً). إنني أتلفت بين هذا العدد المذهل من واحاتك الملأى بشقائق النعمان.. أحاول قطع المسافات بين أعمارها متتبعاً بقع الدماء بين واحة وأخرى.. حتى إذا وصلت إلى آخرها، تلفتُّ فرأيت أولاها تلوِّح لي صبيّة لا تزال، وأنا أتنقل بينهن شيخاً جاوز الخامسة والسبعين..! أغالبهنّ منتقياً، فيشاكسنني بكل عذوبتهنّ حدَّ أن أضيع ضياع جحا بين طبقيه! أعجب حيناً من هذه البساطة التي تنساب بها جملك الشعرية في جريان دافق لا يتوقف، حدَّ أن يذكرني بالشيخ أبي العتاهية الذي لو شاء أن يجعل كل كلامه شعراً لفعل.. ويظل موجهاً ينزلق بي ناعماً حتى أكتشف أنني على حافة شلال ٍطامٍ.. وأن كل ذلك الانسياب الهادئ سيسلمني بعد لحظات إلى انهيار تنخلع فيه الروح! أكاد أسألك أحياناً: لِمَ لا تقول ما يُفهم؟.. فأنتبه إلى أن أبا تمام كان على حق.. فأتجنب المداخل السهلة إلى قصائدك! أتعبتني محمود، فكل سطر أكتبه فيك يستنزف مني عدل كتاب! الحمد لله أنني أكتب عنك لا إليك!
3
أنا الآن أول من يصرخ معك (لو كان لي دربان لاخترت البديل الثالث، انكشف الطريق الأول، انكشف الطريق الآخر، انكشفت دروب الهاوية)..
ولكنني، رغم إيغالي في السن، لا (أريد موتاً في الحديقة ليس أكثر أو أقل). إنك تفزعني حين تصل إلى.. (وأنزل، ها هنا، والآن، عن كتفيك قبرك) بعد أن حملته، جديراً به طوال عمرك!
* * *
خاتمة
مرة، في مقابلة صحفية، سئلت: هل بقيت للشعر مساحة في وطننا اليوم؟ قلت: نعم. بقيت كل المساحة للملاحم.. يحملها شعراء.. يطوفون في الشوارع، ينشدونها ويستشهدون. وأشهد أن محمود درويش في طليعة هؤلاء.


العراق

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved