الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش: توأم القمة الماردة!!
عبدالله الجفري

* في قفلة رحلته من بريطانيا قدم لي (الصديق العزيز جداً إلى نفسي) د. فؤاد عزب باقة من: (زهرة اللوز أو أبعد) خميلة الشاعر الكبير محمود درويش الجديدة مفتتحاً ديوانه الجميل بكلمة (أبو حيان التوحيدي) من الإمتاع والمؤانسة: (أحسن الكلام.. ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم)!!
أو هكذا تشكَّل مضمون هذا الديوان الشعري كأنه نثر، وهذا النثر الشاعري كأنه نظم!!
ولعل صورة شعرية جاءت قفلة لهذا الديوان، أو (اصنصا) لقصائده وزهر لوزه، فانعكست خطوط لوحة تشكيلية بالكلمات، قال فيها:
(نسر يودع قمته عاليا، عاليا
فالإقامة فوق الأولمب
وفوق القمم.. قد تثير السأم
وداعاً... وداعاً لشعر الألم)!!
* هذا هو (محمود درويش) الذي كتبت عنه في منتصف الثمانينات أصفه بأنه: (توأم القمة الماردة)... وها هو في خاصرة (الألفية) يعلن عن النسر هو الذي يودع قمته: عالياً، فوداع القمة لا ينزله عنها بل يبقيه: عالياً عالياً، برغم أن بقاءه في القمة - كما صور - قد يثير السأم في كثافة شعر الألم!!
كان (محمود درويش) من أولئك الذين زرعوا فوق أرضهم: نبتة إصرارية يتحدُّون رياح الحنظل والشوك، وأعاصير القهر وفيضانات الحقد!
إنني أعرفهم... أعرفهم جيداً.
أعرفهم - أنا - يا تاريخنا الجديد الذي كتبت سطورك وما زلت بدمائهم، وتملأ صفحاتك بكلماتك المنطلقة من فوهات البنادق.. المنسابة - أيضاً - من صدور لم تنس نعمة الحب في طوفان الكراهية والأحقاد!
أعرفهم - أنا - يا يقظة الإنسان العربي.. معرفتي لهم جاءت يوم ولدتِ أنت - أيتها اليقظة - فامتلأت الساحات بأعلام الأمل.. غطتها خطوات النضال الراكضة!
انطلق صوتهم مع اللحظة التي تمزقت بأول طفلة من المقاومة العربية فوق ثرى الأرض السليبة.. فلسطين!
لقد خاضوا النكبة وراء أسوار الدخيل المستعمر - خاضوها ولم يعيشوها - وبقي وجههم عربياً، ولسانهم (مواطناً) ووجدانهم عاشقاً للنضال حتى يزدهر البرتقال في بيارات يافا وحيفا بأيديهم.. بعرقهم - إنهم يروون تلك البيارات منذ اندلاع المقاومة بدمائهم!
إنه صوتهم الواحد متحداً، هذا الذي نسمعه.. يحمل عبر تموجاته لحن الحب الكبير للثرى، للنجم، للقمر، لنظرات الأطفال المشرعة ترقب قدوم الأمل:
* (يا إخوتي
أحبكم جميعكم
أحب كل قبضة مهزوزة في أوجه الأنذال
وكل جبهة شامخة في ساحة النضال
وكل كلمة جريئة.. تقال!).
هذا هو الحب الجديد الذي علمنا إياه شعراء النضال.. الذين كانوا يقفون بإصرار على أرض فلسطين رغم الأسوار، والمدافع، والقتل الجماعي!
إن مبدأهم يقوم على الحب، فالكراهية ساقطة من صدورهم.. الحب لأرضهم، ولحريتهم، ولمعتقداتهم.
وأقسى قهر إنساني أن يحاول الظالمون طعن الحب في جوانحنا.
وبهذا المبدأ الكبير والحافز: عبَّر شاعر الأرض المحتلة (محمود درويش) فأصدر ديوانه الشهير: عاشق فلسطين!!
إنه لم يقل: (حاقد من فلسطين) أو (كاره من فلسطين).. بل قال (عاشق) وهذه دلالة رائعة على سمو أسباب النضال، وعظمة المقاومة للمستعمر المستعسف ذلك الحب!
لقد صرخت - ذات يوم - فدوى طوقان، وقالت:
* لقد علموني الكراهية!
إنها - بهذه العبارة - تعبر عن حب كبير لقضية بلدها، لأنها قالت هذه العبارة إثر مواجهة (دايان) لها (!!)، لكن أشعارها الموفدة من وراء الأسوار، غنية بصور الحب.. حافلة ب (آهه) الألم، ولن يكون انتصار الإنسانية إلا بالألم.. فالحب لم يكن نكتة تنفرج لها الشفاه، لكنه عصف ألم تتفتح به الجوارح لتحيا الحقيقة، ولتلم أشلاء الكذب والخديعة!!
وأنا أعتبر الفترة التي ولد فيها هؤلاء الذين أعرفهم.. أعرفهم: شعراء الأرض المحتلة، هي فترة يقظة للكلمة العربية.. فترة صحو للحرف العربي.. فترة ازدهر فيها التعبير بهذه الأماني التي أصبحت - ولا غيرها - في نوال الحياة الملامسة الصادقة للحقيقة، للألم، للحب.. بهذه المعيشة لمخاض المشرقة بالحب وبالكرامة!
هذه الفترة ازدهر فيها (الشعر العربي) مجدداً بل هو تعبير إرادة ينبغي نوال معطياتها.. ننالها بالدم، بالأظافر بالزحف على الشوك، والأسلاك الشائكة.. فالصدور التي تجرحها نتوءات القهر: يضمدها تراب الأرض!!
ولقد ولد هذا الرعيل الشاب من الشعراء على قوائم، وأسس ذات منهج مدروس، ومثقف، وواع، ووضعوا لأشعارهم وصايا ذكرها الكاتب الفلسطيني (إبراهيم أبو ناب) وسردها خمس عشرة وصية نقلها بحذافيرها.. ومنها:
* (حرروا صناعتكم من (قفا نبك، وسائق الأظعان).. إن عندكم اليوم الطائرات لتسمقوا إلى النجوم).
* (لا تعصروا قلوبكم كأن تتعلموا رقة الشعور، ولاتعقدوا أفكاركم كأن تتعدوا الغموض والإبهام).
* (لا تنسوا وطنكم في حبكم الإنساني، ولا تنسوا الإنسانية في نزعاتكم الوطنية!).
* (ارفعوا للناس مشاعل الإباء والشرف والقوة والعدل والشجاعة والثبات والأمل والإيمان).
وهكذا تدفَّق شعر هؤلاء قوياً ندياً، ثائراً، عاشقاً... وتخلص الشعر العربي في هذه الفترة - كما قال كاتب عربي - (من الاختناق في متاهات الرموز وانغلاقات النفوس القلقة، وشطحات الصور الغريبة)!
***
* وجاء - محمود درويش - ليقرر حقيقة الحب في مقطوعة شهيرة من حفظنا لها عنوانها (تحد):
* (شدُّوا وثاقي
وامنعوا عني الدفاتر والسجائر
وضعوا التراب على فمي
فالشعر دمّ القلب
ملح الخبز
ماء العين
يكتب بالأظافر
والمحاجر، والخناجر!!
سأقولها في غرفة التوقيف
في الحمام.. في الإسطبل
تحت السوط.. تحت القيد
في عنف السلاسل:
مليون عصفور
على أغصان قلبي
يخلق اللحن المقاتل)!!
***
* والقارئ المتأمل لشعر - محمود درويش - يلمس الحزن العميق من خلال صرخات القيد، وتنهدات عشقه لأرضه، ونداءاته لحبيبته المجلودة، المعذبة!
هنا رؤيا جديدة تنفتح لمشاهدة المعاناة الممارسة.. هي رؤيا قال عنها دارس لشعر هؤلاء: (رؤيا نابعة من معاناة وتطواف واحتراق، وعناق يشفُّ حتى يحيل اللحظة إلى شعر خالص، حيث يزدهر السرُّ الخفي، ويبيح نفسه لمن أراد اجتناءه، واللحظة في الشعر الجديد صوت، والموضوع كشف، والإيقاع نبض، والقافية تيار يتدفق ناراً، وألواناً لم تبصرها العين)!
إن هذه المسافة الممتدة الشخصية، الموغلة في درب مآثر يرفض الجليد، ويتحدى الصقيع.. هي مسافة خطوات الحب الكبير الذي صنعه الألم في وجدان الشعراء.. كما في وجدان هذا العاشق من فلسطين.. الذي قال:
* (رأيت جبينك الصيفي
مرفوعاً على الشفق
و (شعرك) ماعزاً يرعى
حشيش الغيم في الأفق
تودُّ العين لو طارت إليك
كما يطير النوم في سجني
يودُّ القلب لو يحبو إليك
على حصى الحزن!
يودُّ.. يود، لكني
وراء حديد شباكي
أودِّع وجهك الباكي
غريقاً فوق دم الشمس
مهدوراً على الأفق
فأحمل فوق جرح القلب جرحين)!!
هذه المسافة الطويلة: ترفض الانكماش، والاختزال.. إنها تمتد.. تمتد على شعاع نبيل من الحزن!
إن هذا الحزن الذي صوره الشاعر لا يعكس - معنوياً مفهوم الانخذال، والضياع، بل يعطي ملامح (المقاومة) الحقة والاستبسال بالصمود الذي يمنح مقدرة أن يحمل (فوق جرح القلب جرحين)!
والشعر سلاح حاد، ونافذة ويؤثر بإصابات مباشرة.
وعن دور الشعر، وعطائه وتأثيره تأتي هذه السطور التي أوردها كاتب عربي:
* (في الهند تقام ليالي - المشاعَرة - بانتظام في المدن الكبرى أو القرى النائية على السواء، وينشد الشعراء، ويتطارحون قصائدهم وملامحهم، وتتخللها الموسيقى والغناء، وتستمر طوال الليل، وفي تلك اللحظات يفيض الحنين والآسى، وتنهمر الدموع، وتتحول الليلة إلى مظاهرة إنسانية وقومية تتخطى كل حدود، وفوارق)!
وفي أيام العرب: يذكر التاريخ دور (سوق عكاظ) في تحفيز الشعراء وإيجاد المنافسة بينهم، والإشادة بالمحلِّقين، والمبدعين، وقد أدى الشعر دوراً كبيراً بلا شك في تاريخنا الطويل!
والشاعر الفرنسي (بودلير): أثار ضجة ذات معترك بالقصائد التي كان ينشرها، التي قيل إنها كانت من تأثير الشاعر الأمريكي (بو) عليه، وعلى آرائه.. حتى تعرض للنقد الساخن وللشتائم، وبصرف النظر عن محتوى أفكار شعره واتجاهه، فقد عرفنا أن (بودلير) أثار الناس، وأقام حواراً عنيفاً بما صاغه من شعر!!
وليس هنا وجه للمقارنة بين صميمية شعر (بودلير) وبين عطاء ودور شعر هؤلاء المناضلين وعلى قمتهم: محمود درويش.. إلا أن يكون مجرد استطراد في حديث عن تأثير الشعر على القضايا، وعلى المجتمع، وعلى الأفكار!
***
* والتقط - بعد هذا - انعطافة ارتوائي بما قرأت من شعر محمود درويش.. من خلال ما تنشره الصحف والمجلات، ثم نهلاً من دواوينه التي جسدت (حقيقة الشاعر) الأصلية.... تلك التي تترجم الحزن الجم، والألم السامي المرتفع فوق كل المحن والأرزاء!
انعطافة إلى عطاء هذا الشعر الذي ذكرني بعبارة قرأتها في مقدمة لأحد دواوين (نزار قباني) الشعرية.. تقول: (ما كتب هذا الشعر ليُقرأ، وإنما ليُشم ويضم).
أتذكر هذه العبارة، وأستل تحويراً مغايراً.. يبرق، ويضوي، ويلمع، وأنا أقرأ لمحمود درويش وهو يقول:
* (لأجمل ضفة أمشي
لا تحزن على قدمي من الأشواك
إن خطاي مثل الشمس
لا تقوى بدون دمي!
تعالوا يا رفاق القيد والأحزان
كي نمشي
لأجمل ضفة نمشي.. فلن نُقهر
ولن نخسر
سوى النعش!!)
هنا تأتي العبارة المحوَّرة التي أحب أن أقولها:
* ما كتب هذا الشعر ليُقرأ، وإنما ليغمس بالدم!!
فهو الذي قال في آخر سطور في الديوان:
* (لو أني
أفارق شوك مسالكنا الصاعدة
لقلت: ادفنوني حالاً
أنا توأم القمة الماردة!!).


السعودية

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved