الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th June,2005 العدد : 109

الأثنين 29 ,ربيع الثاني 1426

قصة قصيرة
جنازتي
إبراهيم شحبي

أحسست منذ الأمس بسقوط ورقة العمر.. شاهدتها بأم عيني وهي تهوي من فرع شجرتي مصفرة تتخللها بعض الثقوب.. حملتها الرياح بعيداً بعد أن طوحت بها يمنة ويسرة وأنا أتراكض وراءها كي أمسك بها دون أن أتمكن من ذلك.. كنت أريد أن أحملها معي إلى مثواي الأخير فربما أتذكر من خلالها أيامي في الدنيا.
بعد أن ذهبت بعيداً أدركتُ أن قدري قد حل، وأن علي أن أتجهز لمغادرة الأهل والأصحاب في هدوء بعد أن أمهد لزوجتي وأطفالي الأمر، وأضع لهم بعض التصورات التي تعينهم على تقبل الفاجعة، والتعامل مع قادم الأيام بحكمة رأيتها ممكنة.
بدأتُ في كتابة وصيتي ملماً بقضاء الله وقدره ومعترفاً بخطاياي الكثيرة التي سألته أن يغفرها لي برحمته.
همستُ في سطورها لأخي أحمد الذي يليني في سلسلة العائلة أن يتولى رعاية شؤون الأسرة من خلال ما تبقيه مصلحة التقاعد لورثتي، ثم ذيلت الوصية بطلب العفو من أمي وأبي، والدعاء لي بالمغفرة من اخوتي وزوجتي وأولادي.
قبل أن أدفع بها إلى كف أختي استدركتُ حقوق الناس المعنوية بعد أن تمكنت من سداد كل ما عليّ من دين مادي قبل أشهر.. طلبت منه أن يعلن على قبري استعداده بإرضاء كل من له مظلمة معنوية حتى يدعو لي جميع من يحضر جنازتي بالمغفرة.
ذيلت وصيتي بطلب صغير يتضمن أن يأمر أهلي بتخفيف البكاء على فراقي، وأن يمنع إقامة العزاء المعتاد حيث يتجمع الناس ويقيمون الولائم لمدة ثلاثة أيام أو أكثر. عندما طوحت الرياح بورقة عمري بعيداً أحسست أن الأوضاع حولي تتغير حيث بدت الكثير من الوجوه تعبر أمامي دون أن أتعرف عليها ثم أخذتُ تلقائياً أتحدث مع بعض من أعرفهم ممن رحل من سنوات.. توجهتُ إلى مكتبي لأطهره من بعض الأوراق السرية والصور التي طالما أخفيتها عن أسرتي، ما إن وضعت جسدي على كرسي المكتب حتى تناهت إلى أذني جلبة أصوات بعضها جاهر برفضه لمقدمي.. رجلاي تأخذها برودة ورعشة ما لبثت أن سرت في جسدي فيما ظل اسمي يتردد من خلال تلك الأصوات التي تتنازعه بين قبول ورفض.. حاولت أن استجمع قواي لأنهض.. لم استطع.. ناديت أبنائي الذين تصلني أصواتهم ساخنة من الفناء الخلفي إثر خلاف على صحة ولوج الكرة في المرمى.. دفعت بصوتي إلى أقصى مدى: فراس.. قيس.. نداء.. كنت أطلق الأسماء على هذا الترتيب عدة مرات فلم يستجيبوا لندائي بسبب انشغالهم بلعب الكرة.
خارت قواي، أخذ حلقي يتعطش لجرعة ماء.. سقطت الوصية من يدي ودخلت في مرحلة تعرّق شديد أخذتني خارج الوعي.
أحسست بيد تمتد نحوي لتحمل جسدي المنهك وهي ترسل صرخات الاستغاثة.. كنت أريدها أن تقرأ علي سورة (يس) لتخفف من ألم السكرات لكنها استمرت في الصراخ حتى أقبل الأولاد من كل ناحية وقد عقدت ألسنتهم المفاجأة..
صرخ ابني الصغير (ألمع) بابا (ندى) أخذت طيارتي.. لم يكن بوسعي أن أطلب من صغيرتي ندى إعادة لعبته.. ولا أن أضمه إلى صدري.
وصل أخي في الوقت الذي لم يعد بإمكاني أن أشير له إلى أخذ الوصية لكنه حملها من الأرض ونظر إليها ثم دسها في جيبه مما أحزنني.. كنت أتمنى أن يقرأها فقد لا يلتفت إلى ما تتضمنه إلا بعد مرور وقت على العزاء..
حاول الجميع حملي إلى السيارة لنلقي إلى المستشفى.. عندما وصلنا لم نجد الطبيب حيث هي عادة الأطباء في مستشفى محافظتنا يتوارون عن الأنظار للتدخين والأكل عندما يغيب الرقيب، لفظت أنفاسي بين أيدي أهلي في ممر الطوارئ، ومع ذلك لم يسلموا بالأمر بل أصروا على البحث عن الطبيب ومحاولة إنقاذي.
أغمضت زوجتي عيناي.. بعد حين وصل الطبيب ليجس أطرافي ويتحسس صدري بيده وسماعته ثم ما لبث أن أعلن وفاتي الطبيعية جداً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved