الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 6th September,2004 العدد : 75

الأثنين 21 ,رجب 1425

العرب وغياب الوعي العلمي

نواجه أحياناً سؤالاً وجيهاً: لمن تكتبون؟ تجهدون أنفسكم بتحليل هذه الظاهرة أو تلك وترفعونها إلى مستوى الوعي النظري بها في الوقت الذي مازال العديد بل والعدد الأكبر من الناس يعتقدون بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان. مازالت الأكثرية الساحقة ما دون الوعي العلمي بالعالم. وغالباً ما يأتي جوابنا بسيطاً: نحن نكتب كي نحرر الناس من الأفكار المشبعة ذات الطبيعة الخرافية.
ولكن بماذا تجيب إذا وجدت جزءاً كبيراً ممن يسمون بالنخب مازالت تعتقد بأوهام يدحضها العلم، ومازالت دون مستوى الوعي العلمي بالعالم؟
كيف نفسر المفارقة التالية: إنك لتجد أكثر الناس معرفة بالعلم الطبيعي أشد الناس تمسكاً بالوعي الما قبل علمي؟
وحسبك أيها القارئ العزيز إن كنت من أصحاب الوعي العلمي أن تتأمل شهرة المنجمين وما يسمى بالفلكيين والمشعوذين في عالمنا العربي حتى ينتابك اليأس أحياناً من أحوالنا، أو تفقد الثقة بقدرة أفكارك على زعزعة الأوهام المستحكمة والمتحكمة بأوساط متعددة من البشر لدينا.
ما كنت لأتطرق لهذا الموضوع لو لم أشاهد بأم عيني حالات الفقر المدقع للوعي العربي، حالات الوعي الما قبل علمي لدى بعض من النخب الأكاديمية.
لا بأس أن أورد بعضاً من هذه الحالات لتقف أيها القارئ على مظهر من مظاهر أحوالنا.
لقد دخلت مكتب أحد الأصدقاء فوجدت مجموعة من الزملاء متحلقين حول مدع بمعرفة الغيب وما تضمره النفس.
أجل لقد سحر هذا الأفاق الحاضرين بألاعيبه وخلق لديهم نوعاً من الحيرة والتصديق. ولعمري إنهم لو فكروا قليلاً تفكيراً منطقياً وعلمياً، وتأملوا حركات المشعوذ وخفته لاكتشفوا كذبه ودجله. وقد قيل لي إن هذا الدجال حظوة في كل أنحاء الوطن العربي وخاصة لدى الطبقة الثرية مالياً.
مثال آخر.
لقد ذهلت حين سمعت بعض الزملاء يتحدثون عن الطاقة الروحية العجيبة والعصية على التفسير العلمي أقصد طاقة أصحاب ضرب الشيش، وضرب الشيش لمن لا يعلم عادة قروية يقوم بها بعض المشعوذين بإدخال (سيخ) حديد شيش، في جانبي بطونهم أو في القسم الأمامي منه بشكل أفقي، ويخرجون الشيش دون أن تنزل قطرة دم من جسده، وأنا شخصياً شاهدت طقساً كذات. ولو أعمل الزملاء تفكيرهم العلمي لعرفوا أن الطقس هذا لا يعدو كونه إدخال السيخ في مناطق شحمية من الجسد.
ولهذا فالمشعوذ على هذه الطريقة لا يدخل السيخ في عينه أو قلبه أو كبده أو رئته... إلخ.
مثال ثالث: حدثتني سيدة أستاذ فلسفة بكل يقين أن روح أحد الأموات من الأطفال قد انتقلت إلى مولود آخر، بعد فترة طويلة من وفاة الطفل جاء رجل إلى أهل الميت يسألهم عن إخوته وأقاربه ويذكر أسماءهم وأن هو ذاته الطفل الذي مات قبل فترة طويلة من الزمان.
مثال رابع: حين كنت معاراً إلى جامعة عدن مررت مع مجموعة من الأصدقاء على بيت في مزروعة واجهته بالأوراق الطويلة، وحين سألت زملائي ما خطب هذا البيت قالوا: إنه بيت مسكون بالأرواح الشريرة، وأن أحداً لا يستطيع السكن فيه، ولهذا فهو مهجور. لقد حدثني البعض عن قصة البيت وهو معتقد بذلك.
ضربت هذه الأمثلة القليلة وأنا أعرف غيرها الكثير، لإبراز نمط من بنية التفكير السائدة لدى بعض المتعلمين إن لم يكن لدى أكثرهم، وإذا لم يكن لدي معرفة إحصائية بنسبة الذين يؤمنون بهذه الأوهام، فإن عدد الذين أعرفهم من الوسط المثقف يسمح لي بالقول إنها عينة تشير إلى نسبة عالية من هؤلاء الذين أشرت إليهم.
بالطبع ليس هناك أسهل من دحض هذه الأوهام علمياً، لكن المشكلة التي تواجه داحضها هي أن الإقرار بالعلم من قبل المتوهمين، لا يقود إلى الإقرار بالوعي العلمي كوعي شامل. إذ سرعان ما يأتيك جوابهم: إنها قضايا لا يستطيع العلم أن يفسرها. أو إن العلم عاجز عن أن يفهم ظواهرها ما فوق طبيعته... إلخ... إلخ.
ولذلك من العبث الذي لا طائل منه إقناع المؤمنين بالخرافة من العامة أو الفئة المثقفة بأن ما يؤمنون به هو مضاد للعلم.
بل، تراهم يؤكدون لك أن كل الشواهد التي أتيت على ذكرها بوصفها أوهاماً من وجهة نظري، دليل على عجز العلم، وأن وراء هذا الواقع أموراً لا يستطيع العقل أن يصل إليها.
إذاً، المشكلة كما أعتقد لا تكمن فقط في إبراز تناقض الأوهام مع العلم، بل لا بد من أن يتحول العلم إلى نظرة إلى العالم.
ولكن هذا الأمر لا يأتي إلا في شرط تاريخي يسمح بنشر الوعي العلمي، وشرط اجتماعي. يحرر البشر من الشروط الاجتماعية الاقتصادية التي تؤدي بهم في عالم الوهم وإلى شرط قائم في إشاعة الحرية التي تسمح بنشر المعرفة وتعميقها دون رقيب ودون الأخذ بعين الاعتبار سلطة العامة وممثليهم من الخاصة.
والحق أننا في الوطن العربي نعرف مظاهر العلم ولا نفهم منطق العلم.
ففي البيت نربي الأطفال على الخوف من الأشباح وينمون فيهم رعباً من كائنات لا مرئية قد تظهر لهم في الظلام أو في الخرائب أو من بين القيود.
ناهيك عن أن البنية الذهنية
السائدة اجتماعياً تخلق قابلية لدى المتعلمين بتصديق بعض الكتب التي ومع الأسف تنشر هنا وهناك حول هذه الأمور الوهمية.
إننا ولا شك لا نستطيع أن نقتلع الأوهام من أذهان الناس، بمجرد رغبتنا في ذلك، لكن نظام التعليم مسؤول مسؤولية مباشرة حول تربية الإنسان العربي.
فقبل أن ندرس للطالب النظريات العلمية الفيزيائية والبيولوجية والكيمائية.. إلخ.. يجب أن نحضر وعيه لقبول حقائق العلم.
وهذا غير ممكن إلا بتعليمه أولاً أسس الوعي العلمي.
يجب أن نعلمه أهمية مبدأ السببية كمبدأ في الطبيعة والإنسان والمجتمع، لا خارج هذا العالم، أن نعلمه أن العقل قادر على معرفة العالم، وأن غير المعروف قابل للمعرفة، فإذا أدرك الطالب أن الطبيعة تسري وفق نواميس طبيعية حلنا بينه وبين التفسيرات الخرافية لأحداث الطبيعة.
وإذا عرف أن المرض هو ثمرة لعلة طبيعية، أدرك أن الشفاء لا يكون بأية خزعبلات لهذا المشعوذ أو ذاك.
لا شك أن التجربة الإنسانية المعاصرة تميل إلى تعزيز الوعي العلمي المنطقي بالعالم، ولكن إذا انتظرنا التجربة وحدها كي تكون دليلاً على دحض الأوهام فسننتظر طويلاً كي نحرر الوعي من الأوهام.
فلقد مضى ردح طويل من الزمان على أهل إحدى القرى في حوران مثلاً، وهم يعتقدون أن قريتهم محمية من ضريح الإمام النووي، وأن العدو الصهيوني لا يستطيع أن يقصف القرية بالطائرات لأن طيار العدو سيرى القرية بركة ماء ومرت الأيام وجاءت حرب 1967، فإذا القرية تقصف بالطائرات الصهيونية عندها أدرك أهل القرية أنهم كانوا واهمين وتحرروا من وهمهم بعد هذه الحادثة.
لكن أوهاماً كثيرة لا تستطيع التجربة أن تقلعها من أذهان الناس
ولقد شاهد عدد كبير من الناس برنامجاً تلفزيونياً حول كيفية إخراج الشيطان من جسم إنسان مريض نفسياً، عن طريق التمتمة والضرب المبرح، هذا في وقت انتشر الأطباء في كل أنحاء البلاد شرقاً وغرباً.
ومرة أخرى أقول إن تحرير الإنسان العربي من الأوهام عملية تاريخية، اجتماعية، سياسية، تربوية طويلة، وذات علاقة بالتقدم التاريخي الذي حتى الآن تحول السياسية دون البدء بإنجازه.


*رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved