الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 6th September,2004 العدد : 75

الأثنين 21 ,رجب 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
بقلم/علوي طه الصافي
الوشم.. الجميل!!

طويل القامة، ناشط الحركة، سريع البديهة، مضياف ليس بما يملك وإنما بوقته وتفانيه في خدمة الضيف منذ وصوله حتى وداعه في المطار، هو نوع من الجود بالنفس، (والجود بالنفس أقصى غاية الجود)!!
لم يكن اسمه حين التقيت به وجهاً لوجه غريباً عليَّ؛ فقد كنا نلتقي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات الهجرية على صفحات (الرائد) لصاحبها ورئيس تحريرها أستاذنا (عبدالفتاح أبو مدين) بجدة.
وقرأتُ له مداخلةً مع العلامة السيد (أحمد بن إبراهيم الأهدل) نُشرت في مجلة (المنهل) لصاحبها ورئيس تحريرها أستاذنا (عبدالقدوس الأنصاري).
لم أتوقع أن المقادير ستجمعنا لنكون أصدقاء تربطنا أواصر الأدب التي لا تبلى بالتقادم؛ لأنها أكبر وأسمى من روابط العلاقات المالية والتجارية التي تعصف بها الريح الهوج، ونزعات النفوس، وشهوات الامتلاك والتملك، وروح الأنانية المريضة!!
كان يرسل لي بعض موضوعاته لنشرها بمجلة (الفيصل) التي كنتُ يومذاك رئيساً لتحريرها، وكتب للمجلة استطلاعاً مصوراً عن إحدى مدن القصيم، فعرفتُ أنه يقيم في مدينة (بريدة).
ودعانا نادي القصيم الأدبي في ندوة عن دور الصحافة الثقافية في المملكة مع الصديقين (عبدالرحمن الشثري) رئيس تحرير مجلة (الحرس الوطني) و(حمد عبدالله القاضي) رئيس تحرير (المجلة العربية). كان الصديق الحميم محور موضوعنا هو (صالح سليمان الوشمي) ينتصب كنخلة (قصيمية) أو (وشمية) في استقبالنا بصفته رئيس اللجنة الثقافية في النادي. وكالعادة العربية عانقنا وقادنا بالسيارة إلى الفندق؛ حيث كان في انتظارنا رئيس النادي الصديق (حسن فهد الهويمل)، والصديق الذي ألتقي به شخصياً لأول مرة الشاعر الأديب (عبدالعزيز النقيدان)، وكان هو الآخر مثلنا من (قُدامى المحاربين) الذين كانوا يكتبون في (الرائد) الرائدة، وتعرَّفنا إلى شخصية صامتة كنتُ أظنه محباً للثقافة، هاوياً للأدباء، محباً لعلاقة الأدباء؛ الأخ (عبدالله البلهي) الذي أخذنا إلى مكتبة منزله العامرة بشتى صنوف المعرفة. وحسبتُ من يومها ولم يكن من الكتَّاب البارزين حسبت من يومها أنه مثقف (كاتم للصوت)، وأن يوماً سيأتي ينفجر فيه الصوت الكاتم ليأتي بالجديد المقتحم. وهذا ما حدث فعلاً؛ فقد ارتفع صوته المقتحم من جريدة (الرياض) طارحاً أفكاراً جديدة تستشرف (المستقبل) المشرق تكويناً ورؤية من خلال أنقاض (الحاضر) المهترئ، مسترشداً بصوت (الماضي) والموروث المتخطي والمتجاوز (زمكانياً).
وقد عرض عليَّ يومذاك مخطوطة، أو مسودةً لكتاب، أو مشروعَ كتاب عن (سيد قطب)، ولأن (دار الصافي للثقافة والنشر) كانت في بدايتها فقد عرضتُ عليه استعدادي لطباعة الكتاب ونشره، فاستمهلني بعض الوقت لإعادة النظر فيه.
وإلى الآن لا أعرف فيما إذا كان صديقنا (صالح الوشمي) ينتمي إلى منطقة الوشم، أم إلى (القصيم)، مع أنه لا تفاوتَ بينهما، وأنا أتضايق من هذا النوع من الأسئلة، بل أمقتها؛ لأنني ممن ينفر من الإقليمية الضيقة، والمناطقية التي قصمت ظهر تاريخنا الواحد في الماضي، وفكَّكت أوصاله المترابطة، ومزَّقت مفاصله العضوية المترابطة التي إذا مرض أحدها تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى أو بما يعنيه الحديث الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم.
فإذا قلنا: إنه (وشمي)، فإننا نجده (دون وشم)، وإذا كان المقصود بالوشم من الناحية (المادية) هو العلامة التي يضعها البعض على بعض أعضاء الجسم، فإن صديقنا من حيث (المجاز) يمثل (وشماً) جميلاً يدل على شخصيته المتفردة المتميزة خَلْقاً وخُلُقاً، وعطاءً نفسياً يقطر عذوبة بأحسن الكلام، ومنطق الكرام. لهذا فقد كان الوحيد الذي دعانا إلى منزله لتناول طعام الفطور بوجباته (القصيمية)، ربما لأنه لا يمتلك مزرعة خاصة كغيره من الأثرياء والميسورين!!
ليس هذا فحسب، بل إنني حين جئتُ لإلقاء محاضرة، وكان يرافقني أبنائي (صافي وطه وأنس)، كان يرعاهم ويدللهم أكثر مني، وأخذنا بسيارته عصراً ليرينا أرباض المدينة الناعسة، وبساتينها الفيحاء، وبعض معالم المدينة القديمة، وعلى رأس هذه الرحلة أخذنا إلى الصخرة التي كان يلتقي عندها ليلاً العاشقان التاريخيان (عنتر وعبلة) إذا صحَّت الروايةُ بعيداً عن الوشاة والعذَّال تحت قمر عاشق للعاشقين، ونجوم ترصد همساتهم وتنهداتهم ووثبات قلوبهم الملتاعة!!
وإذا قلنا أيضاً: إنه حسب اسمه من (إقليم الوشم)، فإن (شقراء) وهي تابعة للإقليم تعدُّ أجمل بلدان الوشم، وهي مشهورة بمائها، ذاك الماء الذي أدهش البدوي عندما شرب منه لأول مرة، فصاح قائلاً: اقمح يا مطر.. وعندهم داخل السور ثمانون قليباً. وتتميز الوشم بقصورها، فالقصر فيها سور مربع، في كل زاوية منه مفتول أو برج، وداخله بيوت للسكن وللأنعام، وقليب ومقهاية ومسجد.
(وإني على يقين من أن الآبار الارتوازية في الوشم، وبناء السدود والقني، واستخدام الآلات البخارية للرفع والدفع تمكِّن أهله من زرع كل باع فيه، فتزداد غلاله عشرة أضعاف. وما يصح في الوشم يصح في القصيم). هذا ما قاله الرحالة (أمين الريحاني) في كتابه المعروف (ملوك العرب) ص (600، 601، 602) الذي زار الوشم والقصيم قبل أن يكتب رحلته عام 1343هـ 1924م؛ أي قبل أكثر من 80 عاماً.
وقد وجدنا على تلك الصخرة أو الصخور لا أتذكر نقوشاً وخطوطاً، وبعضها وضعها بعض العابثين مثل بعض العبارات والأسماء التي يسجلها أصحابها تأكيداً لزيارتهم.
ثم انتحينا جانباً مقتعدين ربوة رملية تم وضع فرش عليها أحضره الصديق (صالح الوشمي) معه مع التمر والقهوة والماء.. وفي هذه الرحلة (الوشمية) الماتعة شاهدنا بقايا مدرسة قديمة، وبعض كراريس الطلبة والمدرِّسين التي اهترأت بمرور الزمن عليها والشمس بحرارتها!!
كان صديقنا (صالح سليمان الوشمي) طموحاً وعصامياً، استغل وقته استغلالاً مثمراً.. له عينان شاخصتان إلى الغد، فهو رغم عمله الرسمي نهاراً، والتزامه الفاعل بالنادي الأدبي، وارتباطاته العائلية والاجتماعية، رغم كل هذه الالتزامات فرض على نفسه وجهده ووقته مواصلة دراسته العليا، فلم يكتفِ بحصوله على الماجستير؛ لأنها لم تكن محطته الأخيرة، وخاصة أنه لا يزال في عنفوان شبابه وحيويته وتألقه ونشاطه، وهذه مجموعة إذا صاحبها الطموح الفاعل حقَّقت للإنسان الجادِّ كل ما يصبو إليه.
وكانت (الدكتوراه) تلوِّح له بيديها من وراء أفق حياته كعبلة معشوقة الفارس عنتر، وعيناه لا تزالان مفتوحتين كمدقق لا ينتظر حبيبته وهو غارق في أحلام اليقظة، بل يغذُّ السير مهما كانت المشاق والمتاعب والأشواك والأهوال إلى حيث تنتظره على كثيب من الرمل حيث البحر والشاطئ والقمر والنجوم الساهرة!!
وفي المطار كان وداعنا، لم أعرف أنه الوداع الأخير القاسي على القلب، المر على النفس!!
بعد عودتي إلى (الرياض) بأشهر جاءني مَن يخبرني أنه حصل على (الدكتوراه)، فأصبح (الدكتور صالح سليمان الوشمي) عن جدارة، ولا أتذكر فيما إذا هاتفتُه، أو أرسلتُ له برقية مهنئاً؟ لأن هذا الخبر كان مصحوباً بخبر أفجعني، وشلَّ كياني، وأربك نفسيتي، وهو أن (الدكتور صالح سليمان الوشمي) مصاب بالمرض الخبيث، يارب رحمتك!!
ولم يهنأ بحلاوة (الدكتوراه) طويلاً مع مصارعته لمرارة المرض!!
وبعد أشهر قليلة جاءني الخبر المهول، لقد انتقل (الدكتور صالح سليمان الوشمي) إلى رحمة الله، تاركاً الناس والأهل والولد والنادي وزملاء النادي، والماجستير والدكتوراه!!
لقد أغمضت العينان الشاخصتان إلى أفق حياته التي انتهت وهو لا يزال في عنفوان نشاطه وحيويته.. اللهم ارحمه، وأنزل عليه شآبيب رحمتك، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، ولا تخيِّب أمله في مغفرتك بدخول الجنة مع المتقين والأولياء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وأتمنى على النادي أن يجمع كل أعماله في مجلد ليبقى في ذاكرة محبيه والأجيال القادمة، وهذا أقل ما يمكن أن يقدم له. {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وهو حسبنا ونعم والوكيل.


alawi@alsafi.com
ص. ب: 7967 الرياض: 11472

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved