الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 6th October,2003 العدد : 31

الأثنين 10 ,شعبان 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
بقلم/علوي طه الصافي
الأمير الأسعد
سعيد المسلم الذي يطوف حول البيت العتيق.. ويصلي ركعتين في مقام «إبراهيم» عليه السلام.. ويهرول في «المسعى» حيث الكعبة بمكة المكرمة.. اول بيت أقيم على الأرض بعد خلقها.
وسعيد المسلم الذي يزور مسجد سيد الأولين والآخرين.. مسك ختام الأنبياء والمرسلين محمد عليه الصلاة والسلام، وأفضل التسليم.. من جاء برسالة الهدى والعلم والايمان والحضارة.. في المدينة المنورة حيث اقيمت اولى دولة إسلامية في التاريخ تركت اثرها وتأثيرها على كل ارجاء المعمورة.
وأسعد منهما المسلم الذي اراد له الله، ثم ثقة ولاة الامر ان يكون أميرا لهاتين المدينتين المقدستين، واحدة بعد الأخرى.. انه منصب يغبطه لا يحسده عليه اي مسلم من اكثر من مليار مسلم يتوجهون بصلاتهم الى الكعبة خمس مرات في اليوم غير النوافل.
هذا الامير المسلم الأسعد هو الصديق العزيز عبدالمجيد بن عبد العزيز الذي تولى امارة المدينة لعدة سنوات ينام على رؤية ومشهد مسجد الرسول الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم بأنواره الروحانية التي تملأ القلوب بهجة، وطمأنينة، واستقراراً نفسياً.. ويصحو فجرا على صوت مآذنه المرتفع بالأذان الداعي الى الصلاة، ولقاء خالق الخلق.
ثم ينتقل ليتولى امارة منطقة مكة المكرمة حيث يشرف على خدمة، وراحة الحجاج والمعتمرين بالملايين، مع توفير الامن والأمان لهم الذي عرفت به بلادنا في عالم مضطرب، منفلت، فقد انفرطت آليات عقله، فتضاربت المصالح الاجتماعية.. وتناطحت النزوات الفردية.. واحتربت الصراعات النفعية المادية، والفكرية.. ولم تستطع قوانينهم الوضعية المحدودة القاصرة ضبط الامور.. وربط عقال الانفلات، والتفلت .. كل ذلك لغياب «الايمان».. لهذا قال الشاعر الباكستاني المسلم «محمد اقبال»:
إذا الايمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لا يحيي دينا
وصديقنا العزيز «عبد المجيد بن عبد العزيز» إلى جانب ذلك يسعد بغسل الكعبة المشرفة سنويا نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.
بدأت معرفتي بسموه منذ اكثر من عقدين من الزمن، حين كان أميرا لمنطقة تبوك حيث زرتها بصفتي رئيسا لتحرير مجلة «الفيصل» يرافقني مصور المجلة، لنشر استطلاعات عن مدن المنطقة، ومعالمها، وآثارها القديمة، والحديثة، مكثنا في ضيافته اسبوعاً.. ساعدنا في كل ما نحتاجه لنجاح مهمتنا من مرافقين على علم بمواقع المعالم والآثار، وتزويدنا بالسيارات المناسبة للسير على الرمال الكثيفة .. والصخور الصلبة المرتفعة الى حد ما.
كنا نغدو صباحاً، فلا نعود الا عندما تلتحم الشمس بأفقها.. زادنا الماء والتمر.. نعود بحصيلتنا من المعلومات، وأفلام ال«SLIDES».. وحين نصل الى فندقنا نجد رسول سموه في انتظارنا فنذهب الى مجلسه العامر برؤساء الدوائر الحكومية، وادباء، ومثقفي وشعراء تبوك الذين يمثلون الشعر الفصيح، والشعر العامي، وغيرهم من ضيوف سموه، وزائري المنطقة.. لأن مجلسه كان صالونا طويلاً يتسع للعشرات، خيمة تنقلك بجوها وشكلها ونقوشها الجميلة مع احتساء القهوة كرمز تاريخي للضيافة العربية الاصيلة، الى جانب الشاي.. كل هذه المفردات تنقلك الى الصحراء.. ورحلات «القنص».. يعطرها، وتزينها احاديث سموه الشائقة في مختلف الموضوعات، والقضايا.. الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ومشاريع التنمية التي يرعاها، ويتابعها بنفسه.
وهو في حديثه وحواره، لا يتفرد به، بل يحرص ان يشاركه القادرون على الحديث، والحوار الذي لا يقطعه الا عند سماع ومشاهدة آخر اخبار العالم من التلفاز.. او حين يدعو الجمع لتناول طعام العشاء حيث يستمر الحوار، او يتجدد.
لمست عشقه لمنطقة تبوك، وحرصه على مواكبتها لمناطق المملكة التي سبقتها.. هذا ما احسست به وهو يعرض علي صورة في برواز طلب احضارها تعكس بعض الجبال وسفوحها مغطاة بالثلج.. وحين سألني أين يمكن مشاهدة منظر الصورة؟ فرددت على الفور حسب علمي: في جبال سويسرا شتاء.. فابتسم برقة وقال: بل في تبوك.. فطلبت من سموه ان نأخذ لها صورة بكاميرا المجلة بعد اخراجها من البرواز لنشرها في المجلة فوافق بكل رحابة صدر.. وفعلا تم نشرها في احدى اعداد المجلة الغلاف الاول الداخلي بالالوان.
ومن الجدير بالذكر انه جلب فريقا فرنسيا مكث حوالي سنتين على ما اذكر فألفوا كتابا مصورا رائعاً عن منطقة تبوك، يجد القارىء فيه على ما يريد معرفته ومشاهدته من خلال الصور الفنية المتعوب عليها حرفيا.. وقد زودني بنسخة من هذا الكتاب / المجلد باللغة العربية، ولا استبعد وجود مثله بلغات اخرى.. وهو كتاب اعلامي، وثائقي، تاريخي، جغرافي.
وقد شجعني حديث سموه عن تبوك ومشاريعها القائمة، والمستقبلية ان اطلب من سموه التفضل بالسماح لي لاجراء حديث مطول لنشره في احدى صحفنا اليومية، لان مثل هذه الاحاديث ليست من اهتمامات المجلة.. فوافق ونشر الحديث في صفحة كاملة في جريدة «عكاظ»، لكن للأسف تم النشر دون اسمي، فربما ان سموه يحتفظ به.. وحين عدت الى الرياض عملت لسموه «ألبوما» بكل الصور التي التقطها مصور المجلة.. ونشرنا استطلاعا موسعا شاملا بالالوان عن مدينة «تبوك» في باب المجلة الدائم «مدينة .. وتاريخ».. وفي الوقت الذي كنت اعد استطلاعا عن مدينة «تيماء» التاريخية حدثت بعض المتغيرات التي اجلت نشر الاستطلاع، واخيرا تركت العمل في المجلة بعد «16» عاما لاعطي الفرصة لغيري.. ودوام الحال من المحال كما يقولون.
لنعد الى عودتي من تبوك الى الرياض.. لقد شعرت انني عدت بكنز ثمين اغلى من كنوز الدنيا هي صداقة انسان نبيل كريم متواضع بكل ابعاد معاني هذه الصفات.. وهذا ليس بغريب عليه لأنه نشأ، وترعرع في مدرسة المؤسس لهذا الكيان الغالي على كل مواطن يعيش على ترابه.. هذا المؤسس هو الملك عبد العزيز تغمده الله بواسع رحمته.. مدرسة القيم الأخلاقية العربية الاسلامية الرفيعة، والانسانية الراقية.. وصداقة مثل الامير عبد المجيد نعم المقتنى.
وقد تعززت هذه الصداقة، وتوطدت حين عين أميراً لمنطقة المدينة المنورة.. أثناءها طلبت مني الاسرة بكامل افرادها قضاء الاجازة بالمدينة.. فأخذتهم بسيارتي «اليابانية» المتواضعة.. وحين وصلنا الى مفرق عنيزة حائل المدينة انفجر «موتور» السيارة، وتصاعد الدخان، فأوقفناها ونزلنا منها جميعا بسلام وصادف مرور سيارة نجدة فساعدنا من فيها على تطفئة الحريق الذي شب في «الموتور» .. وسحبنا السيارة بعيدا عن الشارع، وكان رجال النجدة كراما بحق واسم لمسمى «نجدة» حقيقي.. لم يكتفوا بذلك بل اتصلوا بالهاتف الخاص بهم قبل ان يعرف «الجوال»، طالبين سيارة اجرة اقلتنا بعفشنا الى احد اكبر فنادق مدينة عنيزة التي كانت تبعد عن مكان الحادث بعشرين كلم.. كان الوقت الساعة «12» منتصف الليل.. جلسنا في بهو الفندق نتبادل الحديث عن الحل المناسب للخروج من المأزق.. فاقترحت ام الاولاد بعفوية النساء ان اتصل بسمو الامير عبد المجيد على اساس معرفتنا ببعض منذ ان كان اميرا على تبوك.. رددت عليها: لقد مضت على هذه المعرفة سنوات، والامراء يعرفون في اليوم عشرات الناس، فهل يفترض فيهم عدم النسيان الذي يعد من طبيعة البشر، هذا الى جانب مسؤولياتهم الكبيرة.. واهم من هذا كله ان الوقت متأخر جدا، فربما كان ممن ينام مبكرا، ويصحو مبكرا، عكس حياتنا نحن العاملين في الصحافة، ومهنة الكتابة.. لكنها كانت متفائلة فقالت: جرب، واذا لم تفلح سنفكر في حل آخر.. قلت لها الحل هو ان نأخذ سيارة اجرة، ونذهب الى المدينة.. ردت بأنها متفائلة.. ولأن قلب المؤمن دليلة، فلا يستبعد ان يكون تفاؤلها وجيها.
وعلى الفور، وقبل ان يمضي الوقت اتصلت بمنزل سموه، وفي أعماقي يسكن الخجل، واحاسيسي مكبلة بالتردد.. وكانت المفاجأة ان رد سموه، فاعتذرت له لاتصالي المتأخر، فلم يبد لي اي انزعاج، بل رحب بسماع صوتي بعد مغادرتي تبوك، فاعتذرت مرة اخرى لعدم التواصل، والتقصير من جانبي.. ولكي لا اطيل على سموه في الحديث اخبرته باختصار بما حدث فنصحني ان آخذ سيارة اجرة، والتحرك في الوقت نفسه لأن الطريق الى المدينة نهارا مزدحمة.. ثم اردف: عد نفسك وعائلتك ضيوفي طوال اقامتكم في المدينة، وسأكلم محمد الطاير «مدير مكتبه» للحجز لكم في الفندق، والاتصال بك بعد نصف ساعة ليعلمك باسم الفندق. فشكرت لسموه اريحيته.. وانتهت المكالمة الهاتفية لكن الشعور بالخجل ظل مسيطرا على اعماقي.
وعدت للعائلة لاخبرهم بنتيجة المكالمة، فانفرجت اسارير ام الاولاد، كأنها تود ان تقول لي بأن النساء لا يقلن عن الرجال في تفكيرهن.. وان التفاؤل دائما هو المفتاح السحري لحل المشاكل.. بينما التشاؤم مرض يغلق كل الأبواب امام الناس، ويعمي ابصارهم، وبصائرهم.
حين كنا نتناول طعام العشاء، اذا بعامل استقبال الفندق يناديني لعلمه بانتظاري لهذه المكالمة.. وحين رددت جاءني صوت الاخ محمد الطيار وقد سبق ان عرفته من «تبوك» فرحب بي، وذكر لي اسم الفندق الذي حجز لنا فيه، فشكرته.
وفورا تحركنا على سيارة اجرة فوصلنا الفندق بعد الفجر فصلينا، وخلدنا الى النوم .. بعد المغرب اتصلت بسموه لاكرر شكري الصادق معتذرا عن عدم تمكني من زيارته ليلتها لتعب الرحلة.. سألني من أين اتحدث؟ قلت له من الفندق.. سألني اي فندق؟ وحين سميت له اسم الفندق سأل: من حجز لك في هذا الفندق؟ أحسست من سؤاله عدم رضاه عن الفندق، فلم اقل غير انني وجدت اسمي مسجلا في هذا الفندق حتى لا احرج الذي قام بعملية الحجز، فاعترض سموه، وقال: اترك هذا الفندق فورا.. وبعد دقائق سيأتيك مندوب فندق سماه لي. فشكرت سموه، لأن الفندق فعلا غير مناسب، وكل شيء فيه قديم، حتى اثاثه تفوح منه رائحة، سكانه من زائري المدينة البسطاء والصراصير تقيم في حماماته ومطبخه كملعب لكرة القدم.. وكنا نفكر في الانتقال منه.
وحين جاء مندوب الفندق الآخر كان مظهره في بدلته الانيقة تدل على مستوى الفندق، وانه من الفنادق الكبيرة الجديدة في المدينة.. وقد احضر مندوب الفندق معه عاملين يرتديان زياً، ولونا ً واحداً فتأكد لي مستوى الفندق الغالي الفخم، حمل العاملان عفشنا بأيديهما مما دل على قرب الفندق الجديد.. وسرنا خلف المندوب، وحين دلفنا الفندق وجدت الفارق الكبير بحيث تستحيل المقارنة بينهما، فهل يعقل ان يقارن الانسان بين الثرى، والثريا؟ اذا حدثت هذه المقارنة فانها ستكون اكبر اهانة توجه للثريا.
وحين صعدنا الى الدور السابع، او العاشر لا اذكر قال لي مندوب الفندق بكل ادب «بروتوكولي» مراسيمي: ان الامير طلب منا ان نخيرك بين «سويت ملكي او «سويتين» فخمين، مستقلين عن الفندق تمام الاستقلال، احدهما لك ولعائلتك والآخر لاستقبال ضيوفك من الادباء.. فأيهما تختار؟ سألته عن الفرق في السعر فقال لي «السويت الملكي» اغلى من «السويتين» الفخمين، فاخترت الاخيرين، وحين دخلتهما شعرت انني وفقت في الاختيار.. لكن.. آه من لكن.. لكم ان تتصوروا مشاعري الضعيفة امام حفاوة وكرم ونبل هذا الامير الفاضل الذي اسمه «عبد المجيد بن عبد العزيز».. انني لن انسى له هذه الضيافة الرفيعة ما حييت.. انه لم يأسرني فحسب، بل امتلك حبي وتقديري.. شعرت وقتها انني امام قامة فارهة متألقة، متلألئة لا تطال.. وانني مجرد سائح امام انسان اسطوري لا تراه الا في احلامك الرائعة الجميلة.. فقلت في نفسي «بخ.. بخ يا ابن عبد العزيز.. وحفيد الاجاويد».
ومكثنا شهرا كاملا كنت حريصاً خلالها على زيارته مساء ثلاث او اربع حيث يلتقي بضيوفه، وزائريه.. وكان مخصصا احدى الامسيات للقاء بالعلماء اسبوعيا يتخلله ندوة، او محاضرة، وهي من الأمسيات التي احرص على حضورها. وقد طلب اليَّ ولداي الصغيران يومها «صافي وطه» الذهاب معي لرغبتهما الصادقة في مشاهدة احد ابناء الملك عبد العزيز الذي درسوا عنه وعن بطولاته في مدرستهما.. احسست باحساسهما وان مشاهدة الامير والسلام عليه سوف تكون تاريخية بالنسبة لهما، كأنهما شاهدا وسلما على الملك عبد العزيز نفسه.. فعرضت الموضوع على سموه فرحب بهما.. وليلة اخذتهما معي كانا قي قمة السعادة، وارتديا احسن ملابسهما.. وازدادت سعادتهما عندما وجدا عناية ورعاية ومودة سموه.. لم تكن الدنيا تسعهما من الفرح والاعتزاز، وهما يرويان انطباعاتهما البريئة عن سموه، ولطف معاملته لهما.. ولم تبرح مخيلتهما هذه الزيارة التاريخية حتى بعد ان شبا عن الطوق.. ولا اشك انهما فاخرا بهذا اللقاء امام زملائهما في المدرسة.
وكنت وما ازال اكثر سعادة، واعتزازا بصداقة سمو الامير النبيل «عبد المجيد بن عبد العزيز»، داعيا الله له كل التوفيق، ونجاح لتحقيق طموحاته الكبيرة للرقي بمستوى منطقة مكة المكرمة الى المكانة اللائقة بها.. وما ذلك على الله بعزيز.


ص.ب 7967 الرياض 11472

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved