الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 6th October,2003 العدد : 31

الأثنين 10 ,شعبان 1424

الصوت والصدى
حمد العسعوس

وقعتُ بالصدفة على نصين متبادلين بين شاعرة وشاعر.. يبدو من مضامين النصين أنهما التقيا في ظلال القصيدة وعلى شواطئها الحالمة، ولم يلتقيا على أرض الواقع..؟!
كما يبدو أنهما عاشقان.. ولكن على طريقة:
ياقوم.. أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وبدليل أن كلا منهما ( الشاعرة والشاعر) ظل يراوح في دائرة الأحلام والتصور والخيال، لم يخرج منها
بدليل أن كلا النصين يحملان عنواناً واحداً هو: (مازلت أراك) والرؤية هنا ليست رؤية حقيقية، رغم أن العبارة تكررت كثيراً في النصين، بل كانت هي المرتكز الرئيس و لانطلاق الصوت (الشاعرة) والصدى (الشاعر) في تخيل كل واحد منهما للآخر.
هي تقول:
ما زلت أراك
من خلف نوافذ أحلامي
وأحس خطاك..
ويرد الصدى:
ما زلت أراك
طيفا يحتل مساحاتي
ويداوم فوق الورد
وفوق الأشواك
سيدتي..!
أنت الآن حديقة عمري
تتعطر أحلامي بشذاك
وهكذا تسيطر الأحلام على أجواء النصين، وتتحول الرؤية إلى حلم لذيذ تراود خيالات (الصوت والصدى).
وقد يكون الشعر هو السبب المباشر
لتلك العلاقة الوجدانية بينهما.
ولأن النص الخاص بالشاعر كان صدى لنص الشاعرة، على عكس المعتاد، فالشيء المعتاد أن الشاعر الرجل يكون هو صاحب المبادرة في مثل هذا الحوار الشعري الحالم.
لذلك سوف أقف عند النص الخاص بالشاعرة أولاً وقد أطلقت عليه (الصوت)، لأنه جاء ابتداء، وسابقاً ومبادراً كما سبقت الإشارة..
ما زلت أراك.. تجلس في صمت مألوف
ما زلت أراك.. مَرَّت سنوات
والقلب.. هواك
هي تتخيله، وليست تراه رؤية حقيقية، والشعراء بالذات يمتلكون الحاسة السادسة التي تجعلهم قادرين على تصور الأشياء التي لا يرونها، تصوراً قريباً، وربما مطابقاً للواقع.
لكن هذه الرؤية الخيالية التي تتحدث عنها مقاطع هذا النص مبنية على علاقة وجدانية نشأت وترعرعت بين الطرفين عن بعد، واستمرت تلك العلاقة على مدى سنوات، بدليل:
مرت سنوات
والقلب.. هواك
ثم تستمر الشاعرة في سرد تفاصيل ومشاهد تلك الرؤية الخيالية للشاعر:
وما زلت أراك.. من خلف نوافذ
أحلامي
وأحس خُطاك
.. لم تقل (وأكاد أحس خطاك)
بل أكدت إحساسها بوقع خطاه خلف نوافذ أحلامها، وهذا من باب تأكيد الشيء المتخيل وتقريبه للواقع المحسوس فعلاً وهل هنالك أوسع من خيال الشعراء..؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن.. أين تراه..؟!
إنها تجيب على هذا التساؤل، ابتداءً من الجملة الشعرية أو المقطع السابق:
(ما زلت أراك.. من خلف نوافذ أحلامي)
حيث تستمر في سرد المواقف والمواقع التي تراه فيها:
ما زلت أراك.. في كل شجيرات الوادي/
وهوى النسمات/ في كل زهور حديقتنا/
وصدى الزفرات/ في كل معالم قريتنا/
في التلِّ هناك.
والسؤال الآخر الذي يجيب عليه النص:
كيف تتخيله..؟!
وتجيب على هذا التساؤل بالمقطع التالي:
ما زلتُ أراك.. كالعابد تجلس مجتهداً
تسمو برؤاك،
ويداعبُ طيفك أفكاري
أملاً بلقاك.
والتساؤل الأخير الذي يفترضه النص ويجيب عليه هو:
ما هو شعورها نحوه..؟!
والإجابة تترجمها خاتمة النص:
...... أنت المجنون
..... وأنا ليلاك
...... لو مزق قلبي أشلاء؟!
لا.. لن أنساك
* * *
إنه نص شعري خيالي متفائل، وهو عبارة عن رسالة وجدانية موجهة من شاعرة إلى شاعر، دفعت الشاعر إلى التأثر بها والتفاعل معها، وبالتالي إلى الاستجابة لمضامينها والتناغم مع تلك المضامين.
ولقد جاءت تلك الاستجابة على شكل صدى لذلك الصوت الشعري المتفائل، وبما أننا قد استمعنا إلى ما قاله الصوت.. فمن المناسب أن نستمع إلى ما يقوله الصدى.
يقول الصدى:
ما زلتُ أراك.. كالنخلة في ساحة حبي
.... كالنبضة ترجف في قلبي
.... كالنجمة ترنو لسديمي
ما بين الأفلاك.
ما زلت أراك.. كالغيمة ساقتها
الأقدار لصحرائي
العطشى لنديِّ
الماء، وعذب لماك
.. إذن هو يراها.. كالنخلة/ وكالنبضة/ وكالنجمة/ وكالغيمة.. وكلها أدوات غاية في الأهمية بالنسبة للإنسان.. فالنخلة: يأكل من ثمرها، ويستظل بها.
والنبضة: يحيا بها
والنجمة: يهتدي بها
والغيمة: يشرب من مائها
.. وهذه الجمل تجيب على التساؤل المفترض.. كيف يتخيلها (هو)، كما تخيلته (هي) يجلس في صمت مألوف/ كالعابد يجلس في صمت... إلخ..؟!
أما.. أين يراها..؟!
فهو يجيب عن هذا التساؤل بقوله:
ما زلت أراك.. في كل الأشياء المنثورة حولي/ في أوراقي/ في أقلامي/ في كل فراشات الأحلام..
هنا.. وهناك.
.. أما كيف يراها..؟! فالإجابة:
ما زلت أراك.. طيفاً يحتل مساحاتي/
ويداوم فوق الورد/ وفوق الأشواك.
إذن.. فهنالك تشابه كبير بين النصين.. فكل منهما يدور في فلك الأحلام، وكل منهما يطرح أسئلة مفترضة ومتشابهة ويجيب عليها..
والفارق الوحيد ربما بين النصين أن الشاعر حاول في خاتمة (الصدى) أن يتجاوز دائرة الحلم بحلم آخر يرنو إلى أن تتحول الرؤية الخيالية إلى رؤية حقيقية، وأن يتحول الحلم نفسه إلى واقع حي وملموس.
يقول في خاتمة النص:
سيدتي..!
أنت الآن حديقة عمري
تتعطَّر أحلامي بشذاك
وغداً..؟!
أتمنى أن ينثالَ غدٌ.. بلذيذ جناك..؟!
.. وهكذا هم الرجال.. لا تكفيهم لذة الحلم..
ولا يقتنعون بأطياف الخيال..!
بل إنهم لا يطيقون الصبر كثيراً في منطقة الحلم، بالرغم من أنها أجمل مرحلة في مسألة الحب.. يشتعل فيها الشوق وتتدفق العاطفة وترق الأحاسيس والمشاعر وتسمو الأرواح والتطلعات وتلين لغة الحديث والحوار بين الطرفين.
ورغم جماليات هذه المنطقة الكثيرة، التي يتوجها الإبداع في العلاقة والتواصل إلا أن الملاحظ أن المرأة أكثر مراوحة وصبراً من الرجل، وربما أكثر ابداعاً منه في تلك المرحلة.
***
كانت تلك بعض الانطباعات التي خطرت لي ودونتها عند الوقوف على المضامين التي أشرت إلى أنها عبارة عن رسائل وتصورات ومشاعر وتطلعات وجدانية متبادلة بين الشاعرة والشاعر في دائرة الأحلام.
أما من حيث الشكل.. فبالرجوع إلى النص الأول، يتضح وكأن الشاعرة كتبته على عجل، وباستحياء، وبسرية تامة..
إنك تكاد تلمس همس العذارى في لغة النص:
ما زلت أراك.. في كل شجيرات الوادي
وهوى النسمات
ما زلت أراك.. في كل زهور حديقتنا
وصدى الزفرات
.. وهنا قد يتساءل المتلقي باستغراب عن العلاقة بين «زهور الحديقة» وبين «الزفرات»، بل بين هذه المفردة وكل المفردات الجميلة واللطيفة التي جاءت قبلها وبعدها مثل:
نوافذ الأحلام شجيرات الوادي هوى النسمات معالم القرية التل..؟!
ولكن إذا أدرك أن المقصود بالزفرات هنا آهات الشوق والوله والحنين التي تطلقها الشاعرة، وتثيرها تلك المشاهد الجميلة في وجدانها، لأنها تذكرها بالشاعر الذي يشكل الوجه الآخر للعملة.. عند سوف تزول تلك الغرابة.. فالأشياء الجميلة كثيراً ما تثير فينا لواعج الشوق والحنين.
لغة النص سهلة وبسيطة وخالية من التعقيد ومن التكلف.. إلى درجة أنني، أثناء قراءتي للنص، كنت أتخيل الشاعرة وهي تجلس أمام نافذة غرفتها وتطل منها على تلك المشاهد الجميلة.. وتتأمل.. وتتذكر.. وتحلم.. وتحمل في بين يديها ورقة صغيرة وقلماً ملوناً..، وعندما أفاقت من الحلم، وجدت النص ينبض على بياض الورقة..، وقد أخفت هذا المولود الجميل وترددت في الاعلان عنه، حتى جاءت لحظة عشق أخرى فأفرجت عنه..!
وكل الجمل الشعرية والصور التي استخدمت في النص صور مادية مأخوذة من الطبيعة القريبة من متناول الشاعرة «شجيرات الوادي زهور الحديقة معالم القرية وتلالها»، ولقد ساهم ذلك في بساطة النص وجماله.
أما بالنسبة للنص الآخر «الصدى» فقد استخدم مفردات من الطبيعة أيضاً «النخلة النجمة الغيمة»، ولكنه استخدم الى جانب ذلك أدوات خاصة تذكره بها:
«ما زلت أراك.. في كل الأشياء
المنثورة حولي..
.. في أوراقي
.. في أقلامي»
.. كما استخدم أدوات خيالية:
«.. في كل فراشات
الأحلام»
«.. طيفاً يحتل مساحاتي»
.. إذن هو يراها في كل الأشياء المادية والخاصة والخيالية.. وقد يكون هذا هو الفارق بين النصين من حيث الشكل.. وإلا فهما متقاربان من الناحية الفنية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved